دراسات وأبحاث

الأمازونيات المحاربات
إعداد: الدكتور احمد علّو
عميد متقاعد

الأسطورة والوقائع

 

لا يقتصر الدفاع عن الوطن على الرجال فقط. فمن المحاربات الأمازونيات في الألفية الثانية قبل الميلاد، إلى النساء في الجيوش المعاصرة، وصولاً إلى نساء «البشمركة» اللواتي يقاتل نحو 10 آلاف منهنّ ضد «داعش»، أدّت المرأة أدوارًا متعدّدة في الحرب.

 

الأمازونيات
ينظر بعض المؤرخين إلى قصة المحاربات الأمازونيات كأسطورة أو خرافة قديمة، ولكنّ وجود كتابات ورسوم ونقوش في تراث عدد من الأمم والشعوب القديمة، تتحدث بإسهاب عن المحاربات الأمازونيات، دفع بعض الباحثين إلى الاعتقاد بوجود جذور تاريخية حقيقية للأسطورة.
ورد أول ذكر للنساء المحاربات في كتاب «الإلياذة» لـهوميروس (كتبت في القرن الثامن قبل الميلاد)، إذ أشير فيها إلى مجموعة من النساء حاربن مع ملكتهن إلى جانب الطرواديين ضد اليونانيين (الإغريق). كذلك، ذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت (عاش في القرن الخامس قبل الميلاد) وغيره من المؤرخين القدماء، أن نساء بعض القبائل كنّ يتشاركن مع الرجال في الصيد والقتال، وكنّ فارسات وراميات للسهام، بارعات كالرجال. وعثر بعض الباحثين في أحد القبور شرق أوروبا على هيكلين عظميين لامرأتين مدفونتين وهما ترتديان بزة قتال كاملة، وإلى جانبهما أسلحتهما. وقد تبيّن بالفحص المخبري أن أحد الهيكلين يعود إلى امرأة أمضت معظم سني حياتها وهي تمتطي الجياد، أما المرأة الأخرى فقد وجدوا داخل كتفها نصل سهم يبدو أنه أصابها بجرح خطير في أثناء احدى المعارك، وقد ماتت متأثرة بجراحها.
 كما يرى بعض المؤرخين أن الإغريق قد اشتبكوا بالفعل في بعض المعارك مع نساء محاربات لكنهن لم يكنّ أمازونيات، وإنما إسكيتيات تركهنّ رجالهن من أجل الغزو والحرب. وهذه عادة كانت مألوفة لدى القبائل البدوية الإسكيتية التي سكنت سواحل البحر الأسود، إذ كان الرجال يغادرون للصيد والغزو لفترات طويلة تمتد لعدة سنوات. وخلال هذه الفترة كانت النساء تقوم مقام الرجال في حماية القبيلة والدفاع عنها.
وهناك من المؤرخين من يرى بأن جزيرة كريت اليونانية هي الموطن الحقيقي للأسطورة التي ظهرت خلال حقبة تاريخية تعرف بالمينوسية وذلك بين الألف الثالث ومنتصف الألف الثاني قبل الميلاد. وعلى الرغم من أن العلماء لم يستطيعوا حتى اليوم فكّ رموز الكتابة المينوسية، فإن الآثار التي عثروا عليها من تلك الحقبة، كشفت عن وجود مجتمع تقوده النساء، أو على الأقل يتساوى فيه النساء والرجال بشكل كامل. فالجداريات والنقوش داخل القصور وبيوت المينوسيين أظهرت الرجال والنساء وهم يشاركون في الألعاب الرياضية معًا على قدم المساواة. كما تبيّن أن آلهة المينوسيين كانت جميعها أنثوية، مما يشير إلى أن النساء كانت لهنّ اليد الطولى في أمور الدين والدنيا، في ذلك المجتمع الغامض الذي تعتبر لوحاته ونقوشه من أجمل ما وجد من آثار في حوض البحر الأبيض المتوسط.

 

جدال حول أصل الإسم
 يبدو أن «الأمازونيات» أو النساء المحاربات، وجدن بالفعل في القوقاز الشمالي، وتسميتهن لاعلاقة لها بمنطقة الأمازون المعروفة في البرازيل حاليًا، بل على العكس من ذلك، فالمستكشف الإسباني فرانسيسكو دي أوريلانا في رحلته لاستكشاف المناطق المجهولة في البرازيل (القرن السادس عشر، اكتشف نهرًا كبيرًا، وقابل نساء محاربات، ووصفهن كما توصف الأمازونيات في الروايات القديمة، وهذا ما دفعه إلى تسمية هذا النهر بنهر الأمازون تيمّنًا بما يعرفه عن قصص المحاربات الأمازونيات. ويرى بعض الدارسين أن لهذا الإسم أصولاً لغوية، فالأسطورة تفيد بأن هؤلاء النساء «المتوحشات» ذوات «الثدي الواحد» كنّ يعمدن إلى «قطع وكيّ» أحد أثداء بناتهن كي لا يعيقها في المستقبل عن استخدام القوس والسهام في الرماية إلى الوراء ضد العدو من فوق صهوة الجواد وهو يجري. وكلمة A-Mason ليست من أصل يوناني ولكنها قد تكون تحريفًا للكلمة اليونانية القديمة A-Mastos والتي كانت تفيد معنى «المرأة بدون ثدي». وهذه الروايات رواها العديد من المؤرخين الإغريق، وكذلك سجّلها عدد من الباحثين الأجانب أو نقلوها عن الروايات الشعبية للشراكسة في القوقاز. فجاءت كلها متماثلة بخطوطها العامة لا فرق بين رواية وأخرى إلاّ في تفاصيل جزئية. ويرى البعض الآخر أن أصل الكلمة فارسي، وهي تعني «المرأة المحاربة» أو المقاتلة. كما يذهب بعض المؤرخين والدارسين إلى اعتبار أن أصل الأمازونيات إنما يعود الى شمال أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وتحديدًا المنطقة الليبية. ويقول هؤلاء إن أصل الكلمة تحريف لكلمة «الأمازيغ»، وهي القبائل والشعوب التي سكنت وما زالت تسكن حتى اليوم، الشمال الأفريقي وتشكل قسمًا من سكان ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وتشاد والنيجر وموريتانيا ومالي. وبعض هذه القبائل هاجر في مرحلة ما من التاريخ القديم إلى منطقة أناضوليا والبحر الأسود وجنوب روسيا، حيث كانت النساء تحارب إلى جانب الرجال أو من دونهم دفاعًا عن النفس والقبيلــة.

 

بين الأسطورة والواقع
حاولت المؤرخة الأميركية المعاصرة الدكتورة أدريان مايور Adrienne Mayor مؤلفة كتاب «الأمازونيات» The Amazons الذي صدر في نهاية العام 2014، وهو من أهم الكتب التي عالجت هذا الموضوع، الفصل ما بين الحقيقي والأسطوري للأمازونيات، وذلك استنادًا إلى الوقائع العلمية المثبتة والمكتشفات الآثرية في مدافن نحو 300 من المحاربات في مواقع متعددة من آسيا، تمتد من شواطىء البحر الأسود إلى حدود الصين الشرقية، أي ما كان يعرف بـ«سكيثيا» (Scythia), وما يعرف حاليًا بمناطق القوقاز وجنوب أوكرانيا وروسيا وصولاً إلى كازاخستان وشمال الصين.
تعتبر مايور أن البيئة الجغرافية القاسية والسهوب الآسيوية الواسعة الممتدة من البحر الأسود وحتى الصين، كانت مسرحًا وفضاء للكثير من قصص الأبطال و«البطلات» في الفترة الممتدة ما بين العام 700 قبل الميلاد والقرن السادس بعده تقريبًا. فهذه المنطقة التي كانت تعرف باسم «سكيثيا» شكّلت موطنًا للعديد من القبائل البدوية المترحلة، والتي كانت تتميز بالمهارة في ركوب الخيل ورمي السهام. وكان أطفالها ذكورًا وإناثًا يتعلّمون ركوب الخيل والرماية منذ صغرهم، بحيث أن كل فرد منهم كان قادرًا على الصيد والقتال.
وقد شكّل الحصان والقوس الجامع المشترك والموازن الفعلي بين الرجال والنساء في هذه المجتمعات، حيث كان بإمكان المرأة أن تكون شرسة وسريعة ومميتة أيضًا كالرجل تمامًا.
ورأت مايور أن العثور على نحو 300 جثة لنساء محاربات Warrior Women في أكثر من 1000 قبر من المقابر المتراكمة في مناطق السهوب الممتدة من أوكرانيا حتى آسيا الوسطى، هو اكتشاف مذهل.
وأظهر فحص الحمض النووي DNA للهياكل العظمية التي وجدت مع أسلحة في هذه المقابر، أن نسبة 25 إلى 37% من النساء والفتيات السكيثيات ومن سن العاشرة وحتى الـ45 من العمر، كنّ محاربات فعليات.

 

«برابرة» من النساء
ترى الدكتورة مايور أنه عندما بدأ الإغريق استكشاف منطقة البحر الأسود في القرن السابع قبل الميلاد، رووا قصصًا عن محاربين «برابرة» من النساء والرجال كانوا يطلقون السهام من فوق صهوات الجياد. وقد تأثر الإغريق بذلك وأدهشتهم هذه المساواة بين الرجل والمرأة في الحياة والحرب، خصوصًا أن دور المرأة الإغريقية كان يقتصر على العمل في المنزل ورعاية العائلة وتربية الأطفال فقط.
كذلك، تعتقد المؤلفة الأميركية أن هذه القبائل البدوية قد تكون أول من اخترع الوشم على الجسد Tattoo وارتداء السراويل الطويلة، وذلك بسبب الطبيعة الباردة لهذه السهوب، ولاضطرارها لركوب الخيل في معظم الأوقات. وهذا ما أخذه عنها الإغريق والرومان في ما بعد، وظهر في الرسومات على كثرة من الأواني والتحف الفنية التي تمّ العثور عليها في بلادهم.
هذه المساواة في حياة السكيثيين بين الرجال والنساء، ألهمت خيال الإغريق وأوحت بدفق غزير من الأساطير حول حياة الأمازونيات الشرسات (المساويات للرجال)، ودفعت بكثرة من ابطال الإغريق إلى محاربتهنّ. وقد نسج الكثير من الأساطير الإغريقية ثم الرومانية، حول قيام أبطال الإغريق بمحاربة الأمازونيات وملكاتهن وإلحاق الهزيمة بهن، وكذلك الوقوع في غرامهنّ. كما تتحدث روايات عن قتال هرقل والملكة الأمازونية هيبوليت، وعن ثيزيوس الذي اختطف الملكة أنتيوب وعاد بها إلى أثينا، ما أدّى إلى اندلاع الحرب بين الطرفين. ثم آخيل الذي نازل الملكة بانثيسيليا التي كانت تحارب إلى جانب الطرواديين في حروب طروادة الشهيرة، وقتلها.
وهكذا أصبح همّ معظم أبطال الإغريق في الأساطير الإغريقية من هرقل إلى آخيل، أن يحارب إحدى ملكات الأمازونيات ويهزمها، ليثبت بطولته ومجده في بلاده وفي التاريخ.

 

قتل الأمازونيات أم قتل فكرة المساواة بين المرأة والرجل ؟
يرى بعض النقاد أن الرجال الإغريق لم يكن يعجبهم أن يروا نساء تتمتع بالحرية وبالمساواة لأن في ذلك تهديدًا لسيطرة الرجل على المرأة، وتقويضًا لنظام الحكم الأبوي. ولم يرق لهم أن يجدوا مجتمعات تكون المرأة فيها ندًا ومساويًا للرجل في كل شيء، حتى بالوصول إلى أعلى المراتب، حيث تصبح ملكة وحاكمة، تقود أمور المجتمع وتسيّر الجيوش وتقاتل كالرجال. فمن شأن ذلك تقويض سلطة الرجل الإغريقي الذي كان يرى أن في ضعف المرأة قوة مضافة إلى قوته. لذلك نرى أن جميع الأساطير الإغريقية التي تحدثت عن الأمازونيات المحاربات ومدى جمالهن وقوتهن وشراستهن في الحرب والقتال، قالت إنهنّ كنّ في النهاية يسقطن في المعركة أمام الأبطال الإغريق الرجال، وكأن في ذلك تأكيدًا لتفوّق الرجل وقوته الجسدية على قوة المرأة مهما بلغت.

 

النساء المحاربات عند بقية الأمم
كان الاعتقاد السائد لدى الباحثين والدارسين أن النساء المحاربات أسطورة إغريقية بحتة، ولكنّ البحث التاريخي والأركيولوجي أثبت أن قصص النساء المحاربات تنتشر في عدد من حضارات العالم القديم، من مصر الفرعونية إلى شمال سوريا. فقد وردت روايات عن وجود مملكة من المحاربات الأمازونيات قام الفرعون المصري بغزوها ومحاربة ملكتها وجهًا لوجه، من دون أن يستطيع التغلّب عليها فوقع في حبها... وكذلك في بلاد فارس والقوقاز وآسيا الوسطى وبخاصة في الصين، حيث تحدث بعض الروايات عن عدد من المحاربات اللواتي كنّ يحاربن مع الرجال. كل هذه الحكايا والأساطير وإن اختلفت في مصدرها عن الروايات الإغريقية، تؤكد أن المرأة المحاربة كانت موجودة في معظم مجتمعات العالم القديم، لكن نسبة مشاركتها في القتال تختلف تبعا لنمط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والمفاهيم الثقافية أو الحضارية السائدة في هذه المجتمعات، وأيضًا تبعًا لمدى تأثير سلطة الرجل على الجنس الآخر، أو تقبله لفكرة المساواة. أما أسطورة وجود الأمازونيات كمجتمع صافٍ من النساء يمكن أن يعيش ويستمر بدون رجال، فهي من اختراع الخيال الطفولي للشعوب، إذ أنها تتنافى مع طبيعة الوجود ومنطق استمرار الحياة والتكاثر البشري...

 

المراجع:
- https://www.foreignaffairs.com/articles/.../warrior-women
- www.cnn.com/.../warrior-women-amazons-horsewomen-archers-his
- news.nationalgeographic.com/.../141029
- www.newyorker.com/books/joshua-rothman/real-amazons
- www.wsj.com/.../book-review-the-amazons-by-adrienne-mayor-142023
- https://en.wikipedia.org/wiki/Adrienne_Mayor
- رويت اساطير كثيرة عن كيفية تكاثر الأمازونيات ومنها أنهنّ كنّ يذهبن مرتين في السنة إلى بعض القبائل المجاورة ويقمن علاقات جنسية مع رجالها ليحملن منهم، وبعد الولادة كنّ يحتفظن بالإناث ويقمن بتربيتهن كأمازونيات، ويقتلن الذكور، وفي روايات أخرى يعيدونهم إلى قبيلة الأب لتربيتهم.