وجهة نظر

الباب التركي... والمفتاح الأوروبي
إعداد: جورج علم

سلّم الاتحاد الأوروبي مفتاح النازحين إلى تركيا، هي التي تقررّ اليوم من تستقبل، ومن تمرّر، ومن تمنع.
يقف على الباب حارسان على بأس ونفوذ: الأمين العام للحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ، الذي أرسل مجموعة من السفن بقيادة ألمانية إلى بحر إيجه للمساعدة في «مكافحة تهريب البشر». ثم مفوّض الهجرة والشؤون الداخليّة والمواطنة في الاتحاد الأوروبي ديمتري أفراموبولوس، المكلّف بمراقبة تنفيذ الاتفاق الذي أبرم في 18 آذار الماضي بين الاتحاد وتركيا، في بروكسيل تحت عنوان: «إقفال الباب».

 

مضمون الاتفاق
ينصّ الاتفاق على تدابير غير مسبوقة مثيرة للجدل، أبرزها، «إعادة جميع الوافدين الجدد الذين يصلون إلى اليونان اعتبارًا من 20 آذار (الماضي) إلى تركيا، بمن فيهم طالبي اللجوء». ويتمّ «طرد جميع المهاجرين غير الشرعيين الجدد الذين يصلون من تركيا إلى الجزر اليونانية، اعتبارًا من 20 آذار إلى تركيا». ويهدف هذا الإجراء إلى وضع حدّ للرحلات الخطيرة عبر بحر إيجه، والقضاء على نمط عمل مهرّبي المهاجرين.
وحتى لا يكون طرد طالبي اللجوء مخالفًا للقانون الدولي، يؤكد الاتفاق أن أي طلب لجوء سيكون موضع «دراسة فرديّة» في الجزر اليونانية، ما يطرح تحديًّا لوجستيًّا من الصعب مواجهته: «كل المهاجرين الذين لا يقدمون طلب لجوء، أو يتم التثبّت من أن طلبهم لا يستند إلى أساس، أو لا يمكن قبوله، ستتمّ إعادتهم إلى تركيا».
وسيعتبر الاتحاد الأوروبي طرد المهاجرين قانونيًّا، «حيث أن طالبي اللجوء سيجدون في تركيا الحماية الدولية التي يحتاجون إليها».
ويقضي الاتفاق باتخاذ تركيا واليونان بمساعدة المفوضيّة العليا للاجئين ومؤسسات الاتحاد الأوروبي ووكالاته، التدابير الضروريّة، بما في ذلك وجود عناصر أتراك في الجزر اليونانية، وعناصر يونانييّن في تركيا اعتبارًا من 20 آذار. وبينما «يتكفّل الاتحاد الأوروبي بنفقات إعادة المهاجرين غير الشرعييّن»، يتمّ وفق الاتفاق استبدال كل سوري يعاد من الجزر اليونانية إلى تركيا، بسوري آخر يعبر من تركيا إلى هذا الاتحاد، وتعطى الأولوية للمهاجرين الذين لم يحاولوا الوصول بصورة غير شرعيّة إلى الاتحاد الأوروبي، ما يعني أن السوريين الذين يعادون إلى تركيا سيكونون في آخر قائمة المرشحين لدخول الاتحاد.
ولطمأنة الدول المتحفظة على وعود جديدة لاستقبال اللاجئين، حددّ النص «سقفًا قدره 72 ألفًا منهم، في سياق التزامات قطعتها دول الاتحاد الأوروبي، غير أنها لم تطبّق بعد».
و«إذا ما قارب عدد الذين سيتم إبعادهم هذا السقف، عندها ينص الاتفاق على مراجعة الآلية. أما في حال تخطّى عدد المبعدين هذا الرقم فيتم وقف الآلية».

 

مكاسب!
من المكاسب التي حصلت عليها أنقرة، «تسريع خريطة الطريق» للسماح بإعطاء مواطنيها تأشيرات الدخول إلى منطقة الـ«شنغن» في مهلة أقصاها نهاية حزيران 2016.
غير أنه سيتحتم على أنقرة استيفاء المعايير المطروحة في نصّ الاتفاق، وهذا ما حمل بعض الدبلوماسيين على التشكيك في إمكان تحقيق ذلك، وبالتالي فإن مهلة حزيران تبقى هدفا معلنًا طموحًا، لكنها ليست وعدًا.
ويتعهد الاتحاد الأوروبي بموجب الاتفاق، بتسريع تسديد المساعدة المالية المقدّرة بثلاثة مليارات يورو، التي سبق ووعد تركيا بها من أجل تحسين ظروف معيشة الـ7.2 مليون لاجىء تستضيفهم. وحين تصبح هذه الموارد على وشك النفاذ، فإن الاتحاد الأوروبي سيحشد تمويلا إضافيًّا قدره ثلاثة مليارات يورو بحلول نهاية 2018 شرط أن تحترم تركيا بعض الالتزامات في شان استخدام المبلغ.

 

«بشر» مقابل الدولار
بالطبع، لم يمرّ الاتفاق من دون صدى، كان الفاتيكان في طليعة المعترضين، تصدّى له البابا الجريء والشجاع فرنسيس بصورة غير مباشرة. رفض المعادلة القائلة: «بشر مقابل الدولار...»، فهو يشدّد على احترام كرامة الإنسان، ضمن الأسرة البشريّة، رافضًا تحويله إلى سلعة في سوق العرض والطلب، متسائلاً عن مغزى هذه الفلسفة القائمة على التدمير والتنكيل لتحقيق مصالح زائفة؟!.
وتأكيدًا لهذا التوجّه، زار البابا جزيرة ليسبوس اليونانية، متضامنًا مع اللاجئين الذين تدفقوا إلى الجزر للعبور إلى الدول الغربية في الاتحاد الأوروبي. وصرّح للصحافييّن على متن الطائرة قبيل وصوله إلى اليونان، بأن هذه الرحلة مختلفة عن بقيّة الرحلات لأنها رحلة يشوبها الحزن.
وأضاف: «سنواجه أكبر كارثة إنسانيّة منذ الحرب العالميــة الثانيــة»، مشيرًا إلى أن «كثيريــن يعانــون ولا يعرفــون أيــن يذهبــون بعــد أن اضطــروا إلــى الفــرار».
وأشارت تقارير صحافيّة إلى البعد السياسي للزيارة والذي ينطوي على انتقاد ما سبق أن وصفه البابا بـ«اللامبالاة في العالم الغربي تجاه قضايا اللاجئين».
وزار البابا يرافقه بطريرك القسطنطينيّة برتلماوس الأول ورئيس أساقفة أثينا هيروتيموس الثاني عشر، مخيم موريا حيث يعيش ثلاثة آلاف لاجىء في ظروف سيئة، وقال: «جئت إلى هنا حتى أكون معكم، وأستمع إلى معاناتكم، وأطالب العالم بأن يولي هذه الأزمة الإنسانية الخطيرة اهتمامًا، وأتمنى أن يجد لها حلاّ».
 وحثّ «جميع إخوتنا وأخواتنا في هذه القارة على أن يهبّوا للمساعدة بروح التضامن والاحترام للكرامة البشريّة»، منتقدًا بطريقة مبطنة التوجه الأوروبي لإبعاد اللاجئين والمهاجرين الذين قدموا إلى الجزيرة اليونانية، بعد دخول الاتفاق الأوروبي – التركي حيّز التنفيذ.
كما دعا مع بطريرك القسطنطينيّة، ورئيس أساقفة أثينا في بيان موقّع «العالم إلى التحلي بالشجاعة، لمواجهة الأزمة الإنسانية الكبيرة للمهاجرين، بتقديم مبادرات دبلوماسية وإنسانية وخيرية، ومن خلال جهود منسّقة في الشرق الأوسط أو أوروبا».
ووصف البابا بحر إيجه بـ«المقبرة» بعد أن لقي الكثيرون حتفهم أثناء رحلتهم من السواحل التركية إلى الجزر اليونانيّة.

 

المصلحة... ثمّ الكرامة
إلاّ أن رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، قدّم رأيًا مختلفًا، قال: «إن الوضع الإنساني جدير بالاهتمام، ولكننا لم نقصّر، ولسنا على استعداد لتحويل دولنا إلى كمبات؟!»...
وأضاف: «أوروبا فتحت ذراعيها، لكن في مرحلة من المراحل، أصبحت هدفًا لاجتياحات فوضويّة، من قوافل من البشر تغزو شواطئنا، وتدخل علينا عنوة، ومن جنسيات مختلفة، وثقافات متعددة، وتلتقي تحت راية الاعتبارات الإنسانيّة؟!».
بالتأكيد أصبحت أوروبا في مواجهة غزو ثقافي، واقتصادي، وأمني... انعكس خللاً واضحًا على الاستقرار الاجتماعي والمعيشي والأمني فيها...
 وينتهي توسك إلى القول: «إعتبارات إنسانيّة... نعم!..لكن ضمن حدود القدرة على الاحتمال؟!».
بدوره، أعرب المفوّض الأعلى للاجئين لدى الأمم المتحدة، فيليبو غراندي عن قلقه الشديد من الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وأنقرة حول أزمة اللاجئين. وأعلن أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ قلقه «إزاء أي ترتيب يشمل إعادة أشخاص من دولة إلى أخرى بشكل عشوائي، ولا يعطي تفاصيل حول ضمانات حماية اللاجئين بموجب القانون الدولي».
وصرّح المدير الإقليمي للمفوضيّة العليا لحقوق اللاجئين في أوروبا، فنسنت كوتشيتيل لإذاعة سويسريّة، قائلاً: «إن الاتفاق لا يحمي أبناء بعض الجنسيات، مشيرًا إلى أن نسب موافقة تركيا على استقبال اللاجئين من أفغانستان، والعراق، وإيران متدنيّة للغاية، وتقتصر على نحو 3 في المئة؟!».
كما اعتبر أن إعادة الأشخاص الذين لا تتوافر لهم الحماية في تركيا، تثير عددًا من المشاكل في ما يتعلّق بالقانون الدولي، والقانون الأوروبي. وقال: «أتمنى أن يوضع عدد معيّن من الضمانات الإضافيّة حتى يتسنّى النظر في طلبات اللجوء الخاصة بالأشخاص الذين تتم إعادتهم إلى تركيا».

 

... وعرف الحبيب مكانه فتدلل!
حملت هذه المواقف الرئيس التركي رجب الطيّب أردوغان على تصعيد اللهجة، من موقع «عرف الحبيب مكانه فتدلّل»، فحذّر دول الاتحاد معلنا أن بلاده «لن تطبّق الاتفاق، إذا لم يف الاتحاد الأوروبي بالتزاماته».

 

عن أي التزامات يتحدث أردوغان؟
لقد ذكّر بالمساعدات المالية التي قررتها بروكسيل (6 مليارات يورو على دفعتين)، والوعد بإلغاء التأشيرات في حزيران المقبل كي يتمكّن المواطنون الأتراك من دخول منطقة شينغن، إلاّ أن الهدف المحوري من تصعيده، هو الضغط علــى الأوروبيين لتسريــع وتيــرة محادثات انضمــام أنقــرة لعضويــة الاتحــاد.
هذا المطلب يعتبر تعجيزيًّا إلى حدّ كبير، ذلك أن مسألة الانضمام، تعيد تركيا إلى المربع الأول، لتصبح هي المستهدفة، والراضخة لإملاءات الاتحاد، وأولها الوقوف على خاطر قبرص اليونانية، وإعادة الجزء الشمالي من الجزيرة والذي تحتله القوات التركيّة إلى كنف السيادة القبرصيّة، وإنهاء هذه المسألة عبر القنوات الدوليّة، وعن طريق مجلس الأمن، حتى لا «يتكرر السيناريو» كلما سنحت الظروف للقيام بمغامرات جديدة.
لقد وعد المفاوض الأوروبي أنقرة بإعادة فتح ملف انضمامها من منطلقات جديدة أكثر تفهّمًا وتعاطفًا، ولكن ليس من الواضح بعد أن هناك أجندة زمنيّة، أو مواعيد ملزمة؟!.

 

التحررّ من الابتزاز
وفيما كان الإعلام التركي يشيد بالاتفاق – الصفقة، كانت بروكسيل تبحث عن مخارج «للفرار من جور السلطان» قبل التمادي في مضاعفة شروطه، والإكثار من طلباته، فلجأت إلى خطّة مثلّثة الأضلع، قوامها الآتي: تثبيت النزوح في الدول المضيفة المجاورة لسوريــا، والاستعانــة بالبــوارج للتدقيق في هويّــة «القوافــل» العابــرة لبحــر إيجــه، والانخــراط أكثــر في تسويــة الأزمــة في سوريــا، وسائــر الأزمــات في المنطقــة.
وتندرج تحت هذه اليافطة زيارة وزيرة خارجيّة الاتحاد الأوروبي فيديركا موغيريني إلى بيروت، وتباعًا الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ووزير خارجية المملكة المتحدة فيليب هاموند، والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند... أما القاسم المشترك فينحصر بزيارات مخيمات النزوح، وإقناع المسؤولين بتقديم التسهيلات اللازمة مقابل الوعود بتقديم «سلال ماليّة» مناسبة، تحت عنوان «مساعدات... مقابل خدمات؟!» لتثبيت النزوح، وشلّ حركة «زوارق الموت؟!».
إلاّ أن المعيب والخطير في آن، هو أن الدول الغربيّة المهتمّة بملف النزوح، قد وضعت برامج لتقديم المساعدات تمتد ما بين 10 إلى 15 سنة؟!... وهذا يعني أن الحلول ليست في المدى المنظور، ولا في المستقبل القريب، أو المتوسط، ولذلك لا عودة قريبة للنازحين إلى ديارهم. ومن الآن وحتى 10 أو 15 سنة، يكون لبنان الذي نعرفه قد تغيّر بفعل التغيير الديموغرافي، وتحوّل من وطن خاص بأهله، إلى وطن اللجوء؟!...

 

النزوح مستمر
ووسط زحمة المعارك الجانبية التي تدار حول «الاتفاق – الصفقة» ما بين الاتحاد الأوروبي، وأنقرة، وتداعياته الإنسانيّة، والثقافيّة، والأخلاقيّة، والاقتصاديّة، والأمنيّة، تشير التقارير الصادرة عن الجهات الأوروبيّة – الدوليّة المختصّة، إلى أن تركيا نجحت نسبيًّا حتى الآن في استخدام «المفتاح» لتمررّ من تريد، وتمنع من تشاء، إلاّ أن النزف لا يزال مستمرًا. فقد عبر بحر إيجه ما بين 20 آذار المنصرم (تاريخ البدء بالتنفيذ) و15 نيسان، نحو 26 ألف نازح، غرق منهم 137 شخصًا، وهذا رقم يشكّل تحديًّا للآليّة المعتمدة في تنفيذ ما تمّ التوافق عليه في 18 آذار الماضي، في بروكسيل، عندما سلّم رئيس المجلــس الأوروبــي دونالــد توســك، رئيــس الوزراء التركي أحمد داود اوغلو، النسخة الرسميّة للاتفاق، مخاطبًــا أيــاه بصــوت جهــوري: «هــذا هــو المفتــاح... أقفلــوا البــاب جيــدًا؟!»...