تاريخ معاصر

دخول الاتحاد السوفياتي إلى أفغانستان في الثمانينيات
إعداد: النقيب باسل الحجار

في صراع الجبابرة من يدفع الثمن؟
الحرب السوفياتية في أفغانستان أو «الغزو السوفياتي» لأفغانستان هو اسم يطلق على حرب دامت عشر سنوات، كان الهدف السوفياتي المعلن منها دعم الحكومة الأفغانية الصديقة، والتي كانت تتعرّض لهجمات الثوار المعارضين لها وللسوفيات. وهؤلاء الثوار كانت تدعمهم دول مناوئة للاتحاد السوفياتي من ضمنها، الولايات المتحدة الأميركية، الباكستان والصين.
أدخل السوفيات الجيش الأربعين إلى أفغانستان في 25 كانون الأوّل 1979، وانسحبت قواتهم منها بين 15 أيار 1988 و15 شباط 1989.


الأسباب والخلفيات
إختلفت الآراء في تحليل أسباب «الغزو السوفياتي» لأفغانستان، والذي كان الخروج الأول للدبلوماسية السوفياتية على سابق عهدها بعدم التدخل العسكري المباشر خارج دائرة كتلتها. أما آثاره على مصالح أميركا ونفوذها فكانت كارثية. فقد شكّل الوجود العسكري السوفياتي في أفغانستان آنذاك خطرًا داهمًا على منطقة الخليج التي تعتبر الخزان النفطي للعالم الغربي، إذ اقتربت القوات السوفياتية من المحيط الهندي وأصبح مضيق هرمز الطريق الرئيس للنفط تحت سيطرتها. وعلى الرغم من نفيهم القاطع للأمر، كان السوفيات ينوون الاقتراب من الخليج العربي لفرض توازنات جديدة وجعل الولايات المتحدة تعترف بمصالحهم في هذا الخليج.
اعتبرت الحرب السوفياتية في أفغانستان بداية لمرحلة جديدة من السياسة الخارجية السوفياتية التي اتخذت طابع الهجوم, بهدف تحقيق مصالحها من خلال قلب معادلات القوة الدولية. فقد كان الجنرالات السوفيات يرددون: «لقد تخلّفنا عن الأميركيين بحربين، هم حاربوا في كوريا وفيتنام أما نحن فلم نحارب، علينا أن نعرّض قواتنا للنار والضباط قبل غيرهم، وعلينا أن نجرب المعدات القتالية والأنواع الحديثة من الأسلحة».

 

المخاوف الأميركية من الصعود السوفياتي
إنّ ما شجّع روسيا على اتباع هذا النهج هو  التغيير الكبير الذي طرأ على ميزان القوى في أواخر السبعينيات وحالة الفراغ الاستراتيجي والوضع الأمني غير المستقر الذي شهده الخليج بعد سقوط شاه إيران. فقد كان البريطانيون (بتوكيل أميركي) عائقًا أمام وصول الاتحاد السوفياتي إلى المياه الدافئة في الخليج, وأدّى شاه إيران بعد انسحابهم هذا الدور الذي لم يجد الأميركيون من يؤديه  بعد سقوطه. 
رأى الساسة الأميركيون أن الغزو السوفياتي لأفغانستان يشكل في المدى البعيد خطرًا على شكل التحالفات الدولية وعامـلًا مساهمًا في تفكك الكتلة الغربية وعزل الولايات المتحدة, وبالتالي فهو يؤدي إلى رجحان كفة الاتحاد السوفياتي في السياسة الدولية. وقد تركزت المخاوف على النقاط الآتية:
- الأهمية الاستراتيجية لوجود الاتحاد السوفياتي في أفغانستان وامتداد نفوذه وتأثيره إلى دول الجوار كإيران وباكستان اللتين ترتبطان مع الغرب بعلاقات وثيقة تخدم مصالحه. ما يعني ممارسة الاتحاد السوفياتي لضغوط فعّالة على الدولتين إما لتعديل سياستهما الخارجية بشكل يتلاءم مع مصالحه, أو على الأقل لتحييدهما وتجنب تعارض سياستهما مع سياسته.
- إنّ نجاح الاتحاد السوفياتي في السيطرة (أو حتى التأثير) على الممرات النفطية الخليجية يمكّنه «من ابتزاز» الدول الأوروبية واليابان نتيجة اعتماد هذه الدول كليًا على نفط الخليج العربي. فلا بد لهذه الدول تحت الضغوط الاقتصادية أن تتبع سياسة لين وتودد نحو الاتحاد السوفياتي, وأن تبتعد عن استعدائه لضمان تدفق النفط الخليجي. وبذلك تخضع لإعادة النظر أمور كثيرة اعتبرت من الثوابت في السياسات الدولية, كالقواعد الأميركية في أوروبا وسياسة العزل الأوروبي للاتحاد السوفياتي. وما عزّز هذا التخوّف هو احتمال تحويل أفغانستان إلى قاعدة صاروخية سوفياتية تهدد العمق الاستراتيجي الأوروبي من جهة، وتضع جميع القواعد الأميركية العسكرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحت رحمة القوة النارية السوفياتية من جهة أخرى. وفي ذلك الحين قال كاسبار واينبرغر (Caspar Weinberger) وزير الدفاع الأمريكي أمام الكونغرس إنّ «السوفيات لا يبعدون أكثر من 400 ميل عن الشريان الحيوي للعالم الغربي في الخليج، وإنهم في طريق الاستيلاء عليه بهدف المشاركة في الحصص أولًا، والضغط على أوروبا ثانيًا».
- التخوّف من أن تؤدي أفغانستان لمصلحة الاتحاد السوفياتي الدور الاستخباري الذي أدّته إيران الشاه لمصلحة الولايات المتحدة، ما يفقد قوات الولايات المتحدة في منطقة الخليج العربي القدرة على المبادرة في أي معركة محتملة. يضاف إلى ذلك إمكان تحويل أفغانستان إلى قاعدة ينطلق منها الجواسيس السوفيات نحو الخليج العربي، وإلى مركز دعائي متقدم لزعزعة الأنظمة الخليجية الموالية للولايات المتحدة، ما يجعل   من الاتحاد السوفياتي لاعبًا رئيسيًا على الساحة الخليجية.

 

ردة الفعل الأميركية (مبدأ كارتر)
سدّد الغزو السوفياتي لأفغانستان ضربة قاضية للسياسة الخارجية الأميركية المتمثلة بمبدأ نيكسون. وبدت هذه السياسة مترنّحة ومتراجعة في مقابل الصعود المخيف للدبلوماسية الروسية. فالإدارة الأميركية آثرت عدم التدخل المباشر - على الرغم من خطورة الغزو وتأثيره على الأمن الاستراتيجي الأميركي -  لأنّ ويلات المستنقع الفيتنامي لم تكن قد غادرت أذهان القادة الأميركيين بعد. إلى ذلك، اعتبرت الولايات المتحدة أنّ أفغانستان من مناطق النفوذ السوفياتي وأنّ أي تدخل فيها سيشكل نهاية للانفراج في العلاقات الدولية بين القطبين العالميين، وسيؤدي إلى تصعيد يمكن أن يصل إلى حد المواجهة العسكرية.
وبينما اتهم الرأي العام الأميركي حكومة الرئيس كارتر بالتقاعس والتذبذب وبغياب الرؤية والهدف، كتب الرئيس في مذكراته: «يجب أن نتذكر أنه أثناء الحرب الباردة, كانت علاقتنا مع كل دولة ملوّنة بالمنافسة القوية مع الاتحاد السوفياتي. نحن نعتبر أن قضايا أفغانستان وباكستان متشابكة بطرق شتى... وعندما احتلّ السوفيات أفغانستان وهدّدوا – في حال نجاحهم – باحتلال منطقة الخليج الغنية بالنفط, شعرت أن ثمّة تهديدًا مباشرًا لأمن بلادنا».
ارتفعت الأصوات داخل الإدارة الأميركية مطالبة بدفن ما تبقى من مبدأ نيكسون، واتّباع أسلوب جديد في التعامل مع الاتحاد السوفياتي يؤكد التزام الولايات المتحدة حفظ  أمن الدول الحليفة وتكثيف الحضور العسكري المباشر لدعم الدبلوماسية بالمدفع. هذه الأجواء مهّدت لظهور مبدأ جديد في السياسة الخارجية الأميركية وضع أسسه الرئيس الأميركي كارتر - عرف باسمه - تحت ضغط ضباط الجيش والاستخبارات, ومنتجي السلاح الذين كانوا يتوجسون من الحضور السوفياتي على مقربة من الخليج العربي، ويدعون إلى تبني مواقف أكثر تشددًا ضدّه. فقد فقدت الولايات المتحدة ثقة حلفائها المحليين في الخليج، الذين شجعهم وجود القوات السوفياتية بالقرب منهم على اتخاذ موقف أكثر تصلبًا في التعامل مع الغرب ولا سيما في مجال النفط.
قدم بريجنسكي مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي مذكرة تتضمن أطر عمل جديدة في الخليج العربي, لتأكيد قوة الولايات المتحدة وتأثيرها في تلك المنطقة، وإصرارها على حمايتها من الأخطار الداخلية والخارجية بمختلف الوسائل, ولا سيما بعد اختلال ميزان القوى لمصلحة الاتحاد السوفياتي. وشكلت هذه المذكرة المصدر الأساسي لمبدأ كارتر الذي لخّص الأسس التي اشتمل عليها مبدأه وسياسته الخارجية,  في خطاب ألقاه أمام الكونغرس في 23 كانون الثاني 1980. حمل كارتر يومها على الاتحاد السوفياتي واعتبره تهديدًا للسلام والاستقرار العالمي وللعلاقات بين الشرق والغرب ولحركة النفط. كما تحدّث عن مخاطر غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان الذي جعله قريبًا أكثر من أي وقت مضى من المحيط الهندي والخليج العربي, فتعاظم تهديده ليطال جميع الدول المجاورة. وطلب كارتر في خطابه موافقة الكونغرس على تقديم المساعدات العسكرية والاقتصادية لباكستان من أجل الدفاع عن نفسها ضد الأخطار الشيوعية.
كما تحدّث عن تطور الآلة العسكرية للاتحاد السوفياتي, واستخدامها لتحقيق نواياه العدوانية وتهديد موقع أميركا بوصفها الأمّة الأقوى في العالم. وأهم ما جاء في خطاب كارتر، تأكيده أن أي محاولة تقوم بها قوة خارجية لبسط سيطرتها أو نفوذها على منطقة الخليج, ستعتبر هجومًا على المصالح الحيوية للولايات المتحدة وتتطلب الرد بجميع الوسائل، حتى لو اقتضى ذلك التدخل العسكري المباشر.
اعتبر مبدأ كارتر انتصارًا للتيار الأميركي المتشدد الذي يؤمن بسياسة القوة في مجابهة الاتحاد السوفياتي. ومن أهداف هذا التيار: طي صفحة حرب فييتنام ومعها مبدأ نيكسون, استعادة الولايات المتحدة قوّتها وهيبتها، وتأكيد زعامتها على العالم الغربي، واستعادة ثقة حلفائها.
اعتبر البعض مبدأ كارتر نسخة محسنة من مبدأ ترومان, وانتصارًا لسياسة التدخل المباشر في جميع أنحاء العالم لضمان المصالح الأميركية، وعلى رأسها نفط الخليج العربي الذي ارتقى إلى مركز متقدم في سلّم الأولويات الاستراتيجية الأميركية, بعد أن كرّس الحظر النفطي في العام 1973 مفهوم أمن الطاقة وربطه بالأمن القومي الأميركي. هذا المفهوم نفسه كان أيضًا مصدر قلق للسوفيات بدورهم، ففي بداية الثمانينيات أظهرت الدراسات أن الاتحاد السوفياتي سوف يصبح في المستقبل القريب من الدول المستوردة للنفط بسبب تزايد الاستهلاك وتراجع الإنتاج المحلي، بالإضافة إلى حاجات الكتلة الشرقية. لذلك سعى الاتحاد السوفياتي إلى الاقتراب من الخليج العربي، ما استدعى ردة فعل أميركية ونشوء مبدأ كارتر. 

 

من هنا بدأت قصّة المجاهدين
استعادت الولايات المتحدة - نتيجة مبدأ كارتر- زمام المبادرة وعادت بقوة إلى مسرح الأحداث على الساحة الدولية، ودخلت الحرب الباردة في مرحلة جديدة بعد أن قضى التدخل العسكري في أفغانستان على مرحلة الانفراج في العلاقات بين القطبيين الرئيسيين طوال مرحلة السبعينييات. واستفادت الولايات المتحدة من الخطوة السوفياتية في تأليب الشارع العربي الإسلامي، فنشطت الدعاية الأميركية لتضخيم الخطر الشيوعي على المنطقة وعلى الأنظمة الإسلامية. ولكن الإجراء الأكثر حزمًا كان دعم المقاتلين المجاهدين في أفغانستان بالعدة والعتاد, وحمل الدول الإسلامية على دعمهم. هذا الإجراء الذي أرهق السوفيات وأدخلهم في أتون، لم تسلم حتى الولايات المتحدة من ناره في ما بعد.


هوامش:
- عبارة الغزو السوفياتي تبنّاها المؤرخون والباحثون في العلاقات الدولية ومن ضمنهم المؤرخون الروس وعلى رأسهم أليكسي فاسيلييف أحد أهمّ الذين عاصروا تلك المرحلة.
- حسن العلكيم، السياسة السوفياتية في عهد غورباتشوف تجاه الخليج، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 125، بيروت، 1989، ص 137.
- فاسلييف, أليكسي, روسيا في الشــرقين الأدنــى والأوســط: مــن الرسوليــة إلــى البرغماتيــة، القاهــرة, ترجمــة المركز العربي للصحافة والنشر موسكو, مكتبة مدبولي، 2003، ص 361.
- السيد، زهرة، «استراتيجية القوتين الأعظم وقضايا الأمن في الخليج»، مجلة «الفكر الاستراتيجي العربي»، معهد الإنماء العربي، العدد 2 أكتوبر 1981، ص 87.