نظام الحياد وإمكانية تطبيقه على الواقع اللبناني

نظام الحياد وإمكانية تطبيقه على الواقع اللبناني
إعداد: العميد الركن ماهر أبو شعر
ضابط في الجيش اللبناني

المقدمة

تستمر الأزمة اللبنانيّة في التفاعل بسبب عدم تبلور الحلول التي ترضي جميع أطراف الصراع في المنطقة، ولا يخفى على أحد أن لبنان تحول الى ساحةً لتصفية الحسابات، على المستوى الإقليمي أو الدولي، حيث تخاض الحروب بالوكالة، ما حدا أطرافًا لبنانيين وغير لبنانيين على المبادرة إلى طرح مشاريع حلول، محاولين من خلالها تقديم ما هو مناسب بنظرهم للخروج من تأثير الصراعات الدوليَّة والإقليميَّة على الأمن الوطني، وتصدر لائحة هذه الحلول مفهوم الحياد الذي يتخذ خاصِّيَّةً ممَّيزةً عن غيره.

تَطبع الحياة السياسة في لبنان اليوم سمة رئيسة هي التكيّف مع كل واقع جديد، بدءًا من شغور منصب رئاسة الجمهورية وصولًا إلى التعايش مع الأخطار الأمنية المتمثلة بإشتباكات وأعمال عدائية على الحدود، إضافة الى التفجيرات والأعمال الإرهابية في الداخل، وأخيرًا ما يمثله ملف النازحين السوريين من ثقل إضافي على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، وتداخل هذا الملف مع الوجود الفلسطيني، إضافة الى اعتبارات وحيثيات أمنية أخرى مرتبطة بالواقع العسكري والسياسي في المنطقة.

وسط هذه التعقيدات الداخلية والخارجية كلّها، ظهر الكثير من الدعوات والاقتراحات لإيجاد الحلول، فالبعض دعا إلى تغيير النظام السياسي كحل للمشاكل في هذا البلد، وآخرون طرحوا إقامة مؤتمر تأسيسي أو مؤتمر وطني، وطرحت دعوات لانتخاب الرئيس مباشرة من الشعب، أو تغيير قانون الانتخاب وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة قادرة على تصحيح التمثيل وبالتالي الخروج من المأزق السياسي، والبعض طرح اللاّمركزية الإدارية في إطار موسع، فالعديد من الاقتراحات والتنظير السياسي تم تداوله، أما الطرح الأكثر تداولًا بين العامة، وخاصة الطبقة الشعبية، فكان نظام حياد لبنان ونأيه عن الصراعات في المنطقة للخروج من الأزمة التي تقبض على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيه.

وعليه فقد وقفت وراء الدعوة لتبنِّي نظام الحياد عدة إعتبارات، أوّلها تفاقم الأزمة لدرجة أنّها أصبحت لا تحتمل، وتشابك أسبابها الداخليَّة والخارجيَّة بطريقة معقدة جداً، إضافة الى دخول عوامل مؤثرة بشكل مطرد، وانتظار نتائج الأحداث الخارجية الطارئة وتبدل موازين القوى، وأيضاً اليأس بسبب الفشل المستمِّر في التوصُّل إلى حلول داخلية.

أمّا الدعاة لنظام حياد في لبنان فيستندون إلى وقائع واعتبارات في معرض ردهم على خصومهم الرافضين له، والذين يلجأون إلى جملة مفاهيم وأفكار يدافعون عبرها عن مواقفهم التي تُظهر عدم ملاءمة هذا النظام لوضع لبنان، كونه جزءًا لا يتجزأ من منظومة معينة في وضع إقليمي قائم.

إنّ سياسات الدول الكبرى تجاه لبنان، تشكّل أبرز المعوقات الخارجية في وجه هذا الخيار، إضافةً إلى ذلك، فإنَّ التزامات لبنان بسبب انتمائه إلى جامعة الدول العربيَّة، وما يترتب على ذلك من التقيد بالمعاهدات والاتِّفاقيات والمواقف على الساحة الدولية، تضفي على هذه المعوقات صعوباتٍ أخرى، تكمن في صعوبة الملاءمة بين نظام الحياد وهذه الالتزامات، ويزيد الوضع اللبناني الداخلي المعقد من الناحية السياسية والأمنية، والذي تدخل فيه اعتبارات ايديولوجية وديموغرافية، صعوبات أخرى ربما تكون الأكثر تعقيداً وتأثيراً في هذا الخيار.

 

1- مفهوم الأمن الوطني

لا يقتصر مفهوم الأمن الوطني في العلوم السياسيَّة والاستراتيجيَّة المعاصرة على الجانب الداخليّ المتعلق بالمحافظة على الوحدة الداخلية وعلى قيم الدولة وخصوصِّيتها، إنما يشمل البيئة الخارجية، وتتميز البيئة الداخلية عن الخارجية في أنَّ الدولة تتمتع فيها بكامل السيطرة على ما يجري فيها من نشاطات وأحداث، وتستطيع اتخاذ التدابير المناسبة والقيام بردات الفعل المطلوبة تجاه أي تهديد أو خطر ماثل.

    أ- تسعى الدولة الى السيطرة الكاملة على أراضيها، فهي تستطيع أن تحصل على ما تريد من المعلومات وأن توظِّف ما تريد من الأجهزة وأن تنشئ ما تريد من المؤسسات التي تساعد على تعزيز الأمن الداخلي، لكن قد يحدث أن تتضعضع قدرة هذه الدولة في ظروف معينة وتضعف سيطرتها على الوضع الداخلي، وعلى كبح التأثيرات الخارجية فتعيش داخل دوامةٍ أمنيةٍ دائمةٍ تجاه القضايا التي تهدِّد وجودها ومستقبلها، وللبيئة الخارجية تأثيرات أكبر من البيئة الداخلية على الأمن الوطني، ما يستوجب توظيف جميع القدرات المُتاحة في الدولة من أجل تعزيز مصالحها وقوَّتها ومنزلتها في المنظومة الدوليَّة.

    ب- وفي هذا المجال، يجب النظر إلى الأمن بمنظارٍ شامل وليس فقط مسألة الأمن الجنائيّ أو الأمن السياسي، فهناك منظومةٌ أمنية كبرى يجب أخذ مكوناتها كافة بعين الاعتبار، وتشمل الأمن الاجتماعي والاستراتيجي والاقتصادي[1]. أمَّا الأمن الوطني اللبنانيِّ، فإنَّه يرتكز على ما ينصُّ عليه الدستور والذي أكدَّه اتِّفاق الطائف وخصوصًا في مقدِّمته التي تنصُّ على الصيغة والهويَّة والقوميَّة والعلاقات مع الجوار.

    ج- يعتبر الأمن الوطني اللبنانيِّ جزءًا من الأمن القوميِّ العربي، يؤثِّر فيه ويتأثر به سلبًا وإيجابًا ممَّا يجعل صمود لبنان والمحافظة على منعته صمودًا للأمة العربيَّة، وهو يؤكد أهميَّة البعد القومي لقوَّة لبنان وضمان أمنه واستقراره، والسياسة اللبنانيّة تنطلق في مفهومها للأمن الوطني من إدراكها لمخاطر التجزئة والتبعية، وما تؤدِّي إليه من تهديدٍ للأمن السياسيِّ والاقتصاديِّ والاجتماعيِّ اللبنانيِّ والعربي، وهذا يفرض وجود سياسةٍ وطنيةٍ تهدف إلى تأكيد الاستقلال في جميع المجالات وتحصين المجتمع اللبنانيِّ وتعميق الانتماء إلى الوطن.

 

2- العوامل المؤثرة على مفهوم الأمن الوطني اللبناني.

يسعى معظم دول العالم، بعد مرور فترة على وضع دساتيره وأنظمته السياسية، إلى إعادة النظر فيها بهدف التطوير أو التغيير أو التعديل وفق تغيّر الظروف والمعطيات والعوامل الداخلية وربما الخارجية، وكذلك فقد ظهرت في لبنان مبادرات سياسية كثيرة سعت ولا تزال إلى تعزيز التعايش بين اللبنانيين والمحافظة عليه، الأولى كانت صيغة ميثاق 1943، وبعدها تسوية القاهرة وواشنطن وانتخاب فؤاد شهاب رئيساً في العام 1958، ثم دخول لبنان في النزاع الفلسطيني - اللبناني منذ 1969 ليتحول إلى حرب أهلية، فطرحت الوثيقة الدستورية، كما مشروع جبهة الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية، إضافة إلى برامج ومشاريع كثيرة جدًا عرضتها أطراف متعددة للإصلاح السياسي، حتى رست الأمور على صيغة اتفاق الطائف في عام 1989.

تمكن اتفاق الطائف من إرساء أسس سلام مؤقتة في لبنان، فمن الواضح أن البلد يعيش حالة غير مستقرة، البعض يعتبره العلة والبعض الآخر يقول إنّ المشكلة ليست فيه، بل في مكان آخر لأنه ببساطة لم يطبق، وفي الواقع يقف عاملان رئيسان سدًا أمام حل أزمات لبنان، هما دور التدخلات الأجنبية في الحياة السياسية اللبنانيّة وأزمة الهوية والانتماء.

    أ- إن دور التدخل الأجنبي في لبنان واضحٌ وبارزٌ جداً، وبمراجعة سريعة للتاريخ منذ تاريخ نشوء الكيان السياسي اللبناني مع إعلان دولة لبنان الكبير العام 1920، يظهر أن البلد عاش إثنتين وستين سنة من أصل خمس وتسعين سنة وعلى أرضه وجود عسكري أجنبي. ست وعشرون سنة قبل الاستقلال وجلاء الفرنسيين، ست وثلاثون سنة منذ بداية الوجود الفلسطيني المسلح عام 1969 وتكريسه رسميًا في اتفاق القاهرة حتى سنة ٢٠٠٥ تاريخ خروج الجيش السوري من لبنان، من دون أن ننسى أنه قبل تلك الفترة تم إنزال المارينز الأميركي في ثورة 1958، وخلالها تم إستقدام القوة المتعددة الجنسية إثر الاجتياح الإسرائيلي الشامل للأراضي اللبنانيّة العام 1982، سبقه اجتياح إسرائيلي محدود جنوب لبنان العام 1978، ممّا يؤكد أن الدور الأجنبي في لبنان هو عامل مؤثر وفاعل أكثر منه في دول أخرى، وأن الأزمات السياسية اللبنانيّة التي هي في ظاهرها أزمات ومطالب سياسية داخلية لأطراف سياسيين محليين، إنّما لها أبعاد خارجية، وأنّ الأدوار الإقليمية أو الدولية تؤثر في القرارات الداخلية مهما كانت صغيرة أو كبيرة.

    ب- تشكّل أزمة الهوية والانتماء العامل الثاني في هذا الموضوع، فخلال قرن من الزمن تقريبًا منذ نشوء دولة لبنان الكبير، لم يتم التوصل إلى اتقان هوية لبنانية، إذ ينتمي اللبنانيون إلى طوائف ومذاهب، أكثر من انتمائهم إلى الوطن. فهوية المواطن اللبناني هي في الغالب طائفية أو مذهبية قبل أن تكون هوية وطنية.

هذان العاملان، أديا على مر الزمن إلى تأجيج حدة الصراعات بين الأطياف اللبنانيّة المختلفة، وأسهما في جعل الخلافات السياسية العادية تتحول في كل مرة إلى خلافات على الكيان والهوية، والحل الوحيد يكون بوصول مختلف المكونات السياسية اللبنانيّة الى قناعات مشتركة حول الهوية اللبنانيّة ودور لبنان في المنظومة العربية والمنطقة والعالم، ويصبح بعدها النظام السياسي مشكلة تقنية يمكن معالجتها عبر الحوار وإجراء بعض التعديلات عليه بزيادة نائب رئيس هنا، مجلس شيوخ هناك، نظام انتخابي جديد، تمثيل نسبي، أو تمثيل أكثري، لا مركزية موسعة أو لا مركزية عادية، اعتماد نظام حياد وغيرها من الصيغ القابلة للتطبيق والاستمرار.

 

3- الحلول المقترحة للخروج من تأثير الصراعات الإقليميَّة والدوليَّة على الأمن الوطني اللبنانيِّ

عانى لبنان أزمات كثيرة في تاريخه المعاصر، وكاد بعضها أن يودي بكيانه وبصيغة العيش المشترك. إذ إنَّ سرعة تشابك الأزمات الداخليّة وتداخلها مع الأزمات الخارجية، أنتج خلافات على المواقف تجاه بعض القضايا الخارجيّة، ممّا أدّى إلى تعقيد المسائل، وبالتالي إلى صعوبة إيجاد صيغة توفيقيَّة للخروج منها.

    أ- غالباً ما كان الخلاف على مسألةٍ داخليَّة، يتطوَّر باتجاه الخلاف على تحديد موقف رسمي تجاه قضايا عربية أو إقليمية، أو ما هو عكس ذلك، وأبرز مثال على ذلك، الموقف الرسمي تجاه الربيع العربي بشكل عام، وأحداث سوريا بشكل خاص، الأحداث في اليمن، الموقف تجاه التحالف الإسلامي ضد الإرهاب والذي تقوده المملكة العربية السعودية، كلها قضايا لها بعد مرتبط بالتبعية والتأثر بالخارج لأسباب متعددة، ويبدو المثل الأكثر وضوحًا في تأثير البيئة الخارجية على الوضع الداخلي، ما يجري تداوله في موضوع انتخاب رئيس للجمهورية، ورأي الأطراف الإقليميين بالمرشحين، وبسلة التسوية المطروحة وغيرها من الملفات التي تشكل إهتمامًا لا يجوز إغفاله، حيث تعيش المنطقة لعبة القبض على الأوراق المهمة على الساحة الدولية والإقليمية.

    ب- إنَّ إحتدام الأزمات المتلاحقة بدءًا من سنة 1958 إلى أحداث 1975، وما تلاها من فصولٍ مختلفة، حدا بأطرافٍ لبنانيين وغير لبنانيين إلى المبادرة بطرح مشاريع حلولٍ، منهم من يعتبر أن الصيغة الطائفيَّة للنظام هي نقطة ضعفه، فاقترح العلمنة بديلًا، ومنهم من رأى في التوزيع الديموغرافي للسكان بعد سلسلة عمليات النزوح، سببًا وحجة يستحيل معها تعديل صيغة 1943، واقترح الفيدراليَّة حلًا، ومنهم من ذهب إلى أبعد من ذلك وطرح الكونفدراليّة منفذاً، ومنهم من يعتقد بضرورة عدم الانخراط في سياسة المحاور العربيَّة والإقليمية، ورأى الحياد بين تلك المحاور دواءً، ومنهم من رأى أن التدخُّلات الخارجيّة في سلسلة مراحل الأزمة اللبنانيّة عنصر أساسي في تأجيجها، ورأى في تدويل الأزمة علاجًا، ومنهم من جمع بين عدّة أسبابٍ وأظهر الصراع مع إسرائيل عنوانًا لمشاكل لبنان، وطرح نظام الحياد لخلاص لبنان ممَّا يتخبّط فيه.

ج- إنَّ النظر بموضوعيّة إلى مجمل الآراء والاقتراحات التي ظهرت، تبرز جوانب كثيرة فيها، منها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي لجهة تداعياتها الفعلية على الوضع اللبنانيِّ، إلاّ إنَّ نظام الحياد يتخذ خاصيَّةً مميَّزةً عن غيره، كونه الأكثر فعالية في أثره على الوضعين الداخلي والخارجي.

 

4- شـروط الحياد

مبدأ الحياد، أحد المفاهيم المعقّـدة في القانون الدولي العام، فلأول مرة، تضمّنت اتفاقيات 18 تشرين الأول 1907، التي وقّـعت في مؤتمر لاهاي الثاني، نصوصًا تحدِّد حقوق الدول المحايدة والتزاماتها، وينصّ أحد بنود تلك الاتفاقية، على أنه لا يحق لدولة محايدة المشاركة المباشرة في نزاع مسلح أو مساعدة أحد الأطراف في النزاع من خلال تزويده بالرجال والسلاح، ويجمع الاختصاصيون[2] في القانون الدولي العام، وحتى المطالبون[3] بنظام الحياد فيه، على ضرورة توافر شروط ثلاثةٍ على الأقل، لإمكانية تطبيقه في لبنان، وهي: موافقة غالبيَّة اللبنانيِّين عليه، وموافقة الدول المجاورة له، وقدرة لبنان على حماية حياده بنفسه.

 أ- موافقة غالبية اللبنانيِّين: على الرغم من أنَّ الصعوبات تبدو كثيرة لتأمين شبه الإجماع اللبنانيِّ في الموافقة على تبنِّي نظام الحياد، نظرًا للخلفيات التي يقف وراءها المطالبون به والرافضون له، فإنّ معرفة حجم المؤيِّدين أو المعارضين له بدقة، يبدو أمرًا صعبًا للعديد من الأسباب أبرزها:

(1) حتَّى الآن لا يعرف أحدٌ تعداد سكان لبنان بدقة، نظرًا لغياب العمليات الإحصائيَّة الرسمية. فلبنان منذ العام 1932، لم يشهد أيّ عملية رسمية لتعداد سكانه.

(٢) الخلاف القائم بين اللبنانيِّين أنفسهم، حول من يجب أن يشمله الإحصاء.

(٣) إضافةً إلى السببين المذكورين، فإنَّ معرفة المؤِّيد والمعارض لنظام الحياد، من الطبيعي أن تتم عبر استفتاء عام، والدستور لا يتضمن نصًا يستوجب مثل هذا الإجراء، وفي هذه الحالة، من الممكن أن تنشأ عقبة جديدة، تتمثَّل بتعديل الدستور أو رفض تعديله، وبالتالي تتعقد المسألة بدلًا من أن تُحلّ.

 

  ب- إنَّ أحد أبرز الأساليب لمعرفة من يؤيِّد ومن يعارض الحياد، غير متوافر، فكيف يمكن تخطي هذه العقبة؟ حتَّى لو توافرت، فهل يمكن تأمين غالبية مؤيدة لها؟ إن لم يكن ما يشبه الاجماع، كما إنَّ قراءة دقيقة لمواقف الفئات اللبنانيّة بشكل عام، لجهة تقبلهم لما يفرضه نظام الحياد من واجبات، تظهر عدم توفر الحد الأدنى لهذا القبول.

  ج- موافقة دول الجوار الجغرافيِّ: إنَّ دولتين على الأقل معنيّتان مباشرةً بحياد لبنان، هما سوريا وإسرائيل، إضافةً إلى بعض الدول الطامحة إلى الاضطلاع بأدوارٍ خارجيّة.

(1) إنّ حياد لبنان، يعتبر أمرًا حساسًا ودقيقًا بالنسبة لسوريا، لأنها بحاجةٍ ماسةٍ للإمساك بأي ورقة إقليميَّة يمكن أن تقوِّي موقعها التفاوضي، ولبنان المحايد يعني بالنسبة لها ليس فقط خسارته كحليف.

(2) أمّا بالنسبة لإسرائيل، فإنَّ الأمر يبدو أكثر غرابة، فإن كانت القضايا القوميّة تملي بعض الاعتبارات على السياسة السورية لجهة حياد لبنان، والتي من الممكن أن تصب في مصلحتها بشكل أو بأخر، فإن الموقف الإسرائيلي من حياد لبنان سيكون بالتأكيد سلبيًا، لسبب واضح يتعلق بأطماعها في لبنان، ولو سلمنا جدلاً بقبول إسرائيل بهذا الحياد، فإنَّه على الأرجح سيكون موقفاً مرحلياً عارضاً، ستحاول استغلاله لكسب اعتراف لبنان بها قانونيًا أولًا، وعزله عن محيطه العربي ثانيًا، ومن ثمّ انتهاز الفرصة المناسبة لتحقيق أهدافها الإستراتيجية بالتوسُّع على حسابه واستغلال مياهه[4].

 

أمّا الدول الإقليميَّة الأخرى التي لها علاقة بحياد لبنان ولم تجد منفذًا لها سوى لبنان كمنصة وجسر عبور لتحقيق هذا الهدف.

    د- قدرة لبنان على حماية حياده بنفسه: يُلزم الحياد الدولة التي تتبنَّاه أن لا تقيم أي تحالفات سياسية أو عسكرية مع غيرها من الدول، ولكنه في الوقت نفسه يجبر الدولة بشكل غير مباشر، على تنمية قدراتها العسكريَّة للدفاع عن نفسها في حال تعرضت للخطر، أو لأي عملٍ أو فعلٍ يمسُّ حيادها، فهل يمكن للبنان حماية حياده بنفسه؟

(1) في الواقع يُعتبر لبنان الحلقة الأضعف، لسببين أساسيّين، الأوَّل يتعلّق بتركيبته الداخليَّة، والثاني بإمكاناته المحدودة التي انعكست سلبًا على قوَّته العسكريَّة، لقد حدا ذلك الوضع ببعض المسؤولين اللبنانيِّين، في وقت من الأوقات، إلى رفع شعار "قوة لبنان في ضعفه"، محاولين بذلك الابتعاد قدر الإمكان عن تبنِّي خطط عملية لتطوير قدراته العسكريَّة[5]. وفي ظلِّ هذا التغاضي، كانت الإعتداءات الإسرائيلية تتكرر على أرضه وشعبه، وفي المقابل لم يستطع لبنان أن يقوم بأي ردة فعل عسكرية مجدية ضد هذا العدو القوي، واقتصر رده على النشاط الديبلوماسي لإيقاف الإعتداءات عليه، فهل إن نظام الحياد سيدفع بالمسؤوليين اللبنانيِّين إلى تغيير سلوكهم باتجاهٍ عمليٍّ وجدّيّ لتطوير القدرات العسكريَّة لبلدهم؟

(2) إنَّ شكوكًا كثيرةً يمكن أن تحيط بتلك التساؤلات، لاعتباراتٍ كثيرة. فالتجارب السابقة في هذا المجال (لجهة تنمية القدرات العسكريَّة)، لا تزال ماثله في الأذهان، وأبرزها على سبيل المثال لا الحصر( صواريخ الكروتال في أواخر الستينيات)، وما جرى من ردود فعلٍ عليها، إذ اعتبر الرافضون لهذا السلوك إنخراطًا لبنانيًا مباشرًا في مواجهة "إسرائيل"، واعترضوا عليه كونه يكلف الخزينة مبالغ باهظة، على الرغم من أنَّ الدول العربيَّة تبَّنت مشروعاً لتغطية القسم الأكبر من تكاليفه.

(3) إنَّ الأخطار التي تواجه لبنان من قبل إسرائيل تفوق قدرته. فمن المعروف عمليًّا، أنَّ التفوُّق الإسرائيلي في مجال الدفاع وما يتعلَّق به، يفوق بأضعافٍ مكررةٍ قُدرات بعض الدول العربيَّة مجتمعة، فكيف سيكون موقع لبنان أمام القوة الإسرائيلية منفردًا، إنَّ قدرة لبنان على الدفاع عن حياده أمرٌ شبه مستحيل، إذ يتطلَّب قدراتٍ عسكرية وديبلوماسية هائلة، لا طاقة له عليها في مطلق الأحوال.

(4) لقد لجأ بعض المطالبين بحياد لبنان، في معرض دعم أفكاره الى طرح فكرة الاستعانة بالضمانات الدولية لحماية هذا الحياد، وذلك عبر اتِّفاقياتٍ مع المجتمع الدولي، على غرار ما فعلت سويسرا ، وعلى الرغم من أنَّ الحياد في الدرجة الأولى قرار داخلي يستلزم موافقة أصحاب الشأن عليه، يتم بعدها عقد اتِّفاقيات دوليَّة لضمانه من قبل المجتمع الدولي، فإنّه تدخل في الأمر إعتبارات أخرى، فهل المجتمع الدولي يتفق ويوافق حقًا على حياد لبنان ؟

(5) إنَّ إمكانيَّات لبنان الدفاعيَّة غير قادرة على حماية حياده بنفسه، ولا قضية الضمانات الدوليَّة يمكن أن تتوفر بيُسرٍ وسهولةٍ وبشكلٍ مستمر أيضًا، وبذلك فإنَّ هذا الشرط غير متوافر كما هما الشرطان الأولان، وإنَّ الشروط سالفة الذكر التي يجب توفرها على الأقل لنجاح نظام الحياد، ليست بمتناول لبنان، وليس من السهولة بمكان الوصول إليها. بل إنَّ بعضها يمكن أن يُوقع لبنان بأزمات أخرى لا تقل خطورة عن المشاكل التي يعانيها أصلًا. وبذلك يصبح نظام الحياد سببًا آخر للخلاف بين اللبنانيِّين، بدلًا من أن يكون مشروعًا لحل مشاكله.

 

5- المطالبون بنظام الحياد في لبنان.

لم تكن الدعوة لتبنِّي نظام الحياد وليدة أحداث 1975 وما تلاها من فصول، بل ظهرت منذ إنشاء لبنان الكبير، واتخذت أشكالًا متعددة. كما أن الداعين للحياد لم يكن جلّهم محصورًا في طائفةٍ أو حزبٍ معين كما هو شائع، بل وإنّ تلك المطالبة تعدّت ذلك إلى أكثر من فئةٍ وأكثر من تيار سياسي.

بعض الدعوات المباشرة لنظام الحياد:

أ- ظهرت فكرة الدعوة لنظام الحياد في مطلع العشرينيات، حين كانت فيها فرنسا تدير شؤون لبنان بصفتها المنتدبة عليه، فقد دعا عضو المجلس الإداري للبنان، سليمان كنعان، إلى تبنِّي: "نظام حياد تضمنه الدول الكبرى"[6]،وذلك عند الدعوة إلى إنشاء "سوريا الكبرى"، وخوف المسيحيين من ضم لبنان إليها.

ب- كما أنَّ الظروف التي أوجدت الانقسام في المجتمع اللبنانيِّ، في"مرحلة الخمسينييات والوحدة السورية- المصرية"، دفعت بعض الفئات المسيحية الدعوة لتبنِّي نظام الحياد. فقد أقترح الرئيس الأسبق شارل الحلو حيادًا قانونيًا على الطريقة النمساوية[7].

ج- إنَّ المواقف التي اتخذتها الأوساط المحافظة، والتي يلوح في أفقها إبعاد لبنان عن مسار الصراع العربي- الإسرائيلي، تطوّرت بعد العام 1967 إلى التلويح بفكرة الحياد مجددًا. وبرز ذلك في البيان الافتتاحي للمؤتمر العاشر لحزب الكتائب[8] المنعقد في أيلول 1967.

د- إرتفعت مجددًا الدعوات إلى حياد لبنان خلال حرب السنتين في ظلِّ انقسام اللبنانيِّين بين مؤيد ومعارض للعمل الفدائي وأبرزها دراسةٌ أصدرتها جامعة الروح القدس"الكسليك"[9].

هـ- عادت الدعوة إلى نظام الحياد في ظلِّ الظروف اللبنانيّة الداخليّة المتأزِّمة جراء اجتياح إسرائيل للبنان العام 1982، وقد ظهر ذلك في دراسة أعدها روجيه إده زعيم الحركة السياسية[10] التي أُنشئت آنذاك وسُميت "حركة لبنان المحايد".

و- أمّا الرئيس حسين الحسيني فأبدى موافقته على حياد لبنان على الطريقة النمساوية التي اقترحها الرئيس السابق شارل الحلو[11].

ز- في ظلِّ الأجواء غير المستقرة "فترة الصراع على إلغاء الاتِّفاق اللبنانيِّ-الإسرائيلي"، عادت فكرة الدعوة إلى الحياد ، وقد ظهر ذلك في صحيفة العمل الناطقة بلسان حزب الكتائب[12].

ح- في أثناء "فترة احتدام النزاعات العربيَّة والإقليميَّة في العام 1987 " نشطت الإدارة الأميركيّة في تسويق فكرة المؤتمر الدولي للسلام، الذي قبله معظم الأفرقاء المعنيين ورفضته إسرائيل، فيما استغلَّه بعض أطراف الأزمة اللبنانيّة لتسويق مشروعه المطالب بالاعتراف "بحياد لبنان كعامل سلام داخلي وتوازن إقليمي"[13].

ط- صدر "إعلان بعبدا" في العام 2014 الذي نص بوضوح وصراحة في البند 12 منه على "تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الاقليمية والدولية، وتجنيبه الانعكاسات السلبية للتوترات والازمات الاقليمية حرصًا على مصلحته العليا ووحدته الوطنية وسلمه الأهلي، ما عدا ما يتعلق بواجب التزام قرارات الشرعية الدولية والاجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقة بما في ذلك حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم.

ي- كما طالب "المجلس الوطني لثورة الأرز" في اجتماعه الذي انعقد بتاريخ 7 تشرين الثاني 2015 مكونات الدولة اعتماد سياسة الحياد عن الصراعات التي تدور في المنطقة، وذلك بسبب الوضع السياسي العام الذي بلغ حدًا لا يستهان به من الإنحلال وضعف الدولة وتهديد الوحدة وصيغة العيش المشترك وما بقي من السلم الأهلي. كما طالب المجلس الصرح البطريركي الماروني، بالعمل مع القوى السياسية الحرة لدى الدول المهتمّة من أجل حلّ الأزمة في لبنان، بدءًا بإنتخاب رئيس للجمهورية يلتزم سياسة الحياد تحصينًا لما تبقى من وحدة داخلية.

ك- أطلق الرئيس السابق للجمهورية العماد ميشال سليمان بتاريخ 7 كانون الأول 2015 وثيقة "لقاء الجمهورية" والذي عرض فيه بنود الوثيقة وتطلعات اللقاء المستقبلية، مشيرًا إلى أن الرئيس من أي مكان يأتي، ليس له الحق إلا أن يحكم بالتوافق، ويوم يؤدي القسم، فإنّ هذا القسم سوف يحرره من التزاماته بالمحاور والالتزامات المذهبية، موضحًا أنّ "إعلان بعبدا" كان هدفه منع اللبنانيين من الاقتتال على أرض الآخرين، مؤكداً أنّ تحييد لبنان هو مطلب تاريخي، داعيًا إلى تصحيح الثغرات الدستورية ليصبح رئيس الدولة هو أقوى سلطة في الدولة. 

 

 6- أسباب الدعوة إلى تبنِّي نظام الحياد.

إنَّ جملة اعتبارات وأسباب وقفت وراء الدعوة إلى تبنِّي نظام الحياد. منها ما يتعلَّق بتفاقم الأزمة وتشابك أسبابها الداخليَّة والخارجيَّة، ومنها ما يعود إلى الفشل المستمر في التوصل إلى حلِّها، إضافةً إلى استمرار التدخلات الخارجيَّة عسكرية كانت أم سياسية.

أ- الأسباب الداخلية: إنَّ أبرز الأسباب الداخليَّة، التي أدَّت إلى تفجير الأزمة، الخلاف على الإصلاح السياسي، ومن أجل تحقيق هذا الإصلاح، عمدت الأحزاب والقوى التقدميَّة إلى التحالف مع المقاومة الفلسطينية، ظنًا منها أنَّ تحالفها هذا سيقوِّي موقعها الداخلي ويمكِّنها بالتالي من فرض برامجها وتنفيذها، وفي الجهة المقابلة، كانت الأحزاب المحافظة تتمسك بالدستور وبصيغة النظام، وتعتبر المساس بهما مساساً بأسس الكيان، وأخذت تصوِّر الصراع القائم، صراعاً خارجياً لا شأن للإصلاح السياسي به، وتضفي على النزاع صورة التدخُّلات الخارجيَّة، عبر قضية خرق المقاومة الفلسطينيَّة للسيادة اللبنانيّة، وراحت هذه الأحزاب تُحضر جماهيرها نفسيًا وسياسيًا، وحتى عسكريًا، لمواجهة المقاومة وغيرها من القوى غير اللبنانيّة في لبنان، وهذا ما سعت إليه بقوة بعد العام 1975.  لقد ظلَّت قضية الإصلاح السياسي مرتبطةً إلى حد كبير بعلاقات الأطراف اللبنانيّة مع القوى الخارجيّة الفاعلة في المنطقة، وأوَّل ظاهرة لهذا الربط كان "الوثيقة الدستورية" التي أعلنها الرئيس الأسبق سليمان فرنجية في العام 1976، والتي رُتبت برعايةٍ سورية، و"وثيقة الوفاق الوطني" في العام 1979، التي رُتبت برعايةٍ عربيّةٍ ودوليَّة، ووثيقة "الطائف" في العام 1989 برعايةٍ سعوديّة ورضًى دوليّ وعربيّ، وأخيرًا الأحداث في سوريا وتفاعل الأطراف اللبنانيّة معها كلٌ على طريقته.

ب- الأسباب الخارجية: إنّ عوامل خارجيّة ساعدت بشكلٍ فعَّالٍ على تأجيج الأزمة وإعطائها أحجامًا غير عادية، ممّا دفع بأطرافٍ لبنانية كثيرة إلى طرح فكرة نظام الحياد. أمّا أبرز المؤثرات الخارجية فهي:

(1) - الصراع الأميركي- السوفياتي في المنطقة: إنَّ إحدى نتائج الحرب العالميّة الثانيّة، انحسار النفوذيّن الفرنسيّ والبريطانيّ عن منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي أوجد مناخًا تنافسيًا بين موسكو وواشنطن للتزاحم على "ملء الفراغ" الذي أحدثه ذلك الانحسار، ممّا دفع الطرفين الآخرين إلى "حروب الواسطة" أو ما سُميَّ بالحرب الباردة في مرحلة الخمسينيات، وقد خلّفت هذه المتغيرات تداعيات في الأنظمة العربيَّة وأثرت على العلاقات في ما بينها آنذاك. فمشروعا أيزنهاور وحلف بغداد، كانا في أساس الخلافات العربيَّة التي أطلقت شرارة أحداث 1958 في لبنان. في مقابل ذلك كانت أولويات السياسة الأميركية، تجاه الشرق الأوسط، إبعاد الإتحاد السوفياتي عن أيّ دورٍ فعالٍ لحلِّ أزمة الصراع مع إسرائيل، عبر اقناع الدول العربيَّة بالمفاوضات الثنائيّة بين إسرائيل وكلّ دولة على حده، وبدأت بتنفيذ هذه السياسة عبر المحادثات المصرية-الإسرائيلية في خيمة الكيلومتر101 العام 1973 ، ومن ثم فك ارتباط القوات المصرية – الإسرائيلية، ومن ثمَّ اتِّفاقات كامب ديفيد ومعاهدة السلام، وإنتهاءً بالاتِّفاق اللبنانيِّ- الإسرائيلي العام 1983، ودخول القوَّة متعدّدة الجنسيات إلى لبنان، وما يعنيه ذلك من دخول مباشر إلى المنطقة بمواجهة الاتحاد السوفياتي[14].

(2) - الصراعات العربيَّة - العربيَّة والعربيَّة-الإقليمية: لقد أدَّى إنهيار التضامن العربي، في منتصف السبعينيات، إلى نشوء تكتلات ومحاور متنافسة على قيادة الوطن العربي. ومن الطبيعي أن تكون أساليب استقطاب المناصرين وجذبهم متمثلة بالاهتمام بالقضايا العربيَّة الحساسة ومنها القضيّة الفلسطينيّة والأزمة اللبنانيّة، فعمليات الاستقطاب التي شهدتها الساحة العربيَّة، وجدت في الساحة اللبنانيّة العوامل المساعدة لتنفيذها وتصفية الحسابات في ما بينها، ولذلك اختارت هذه المحاور لبنان ليكون قاعدةً لتحركها من جهة، والأحزاب اللبنانيّة والمقاومة الفلسطينيّة ليكونا أداة هذا التحرك من جهة أخرى، حيث وزعت الأموال وسلحت المنظمات، حتّى بات لهذه المحاور أنصارها ومنظماتها.

(3) - تنامي قوَّة المقاومة الفلسطينيَّة: شهد الأردن نشاطًا مكثفًا للمقاومة الفلسطينيَّة قبل العام 1970، ما لبث أن انتقل إلى لبنان. وقد تعاطفت الدول العربيَّة مع المقاومة وأمدتَّها بكلِّ أنواع المساعدات المادية والمعنوية. بيد أنَّ هذا التعاطف الذي بلغ أوجه في العام1974، اصطدم مجددًا بالاستقطاب العربي تجاه القضية الفلسطينيَّة، وقابله تمرد فلسطيني، وكان لبنان المسرح الذي جرت فيه العمليات، لقد حاول الفلسطينيون إثبات استقلالهم في لبنان ردًا على تلك الاستقطابات، عدا عن ممارسة دور الحكومة في المخيمات الستة عشر وحتى على الفلسطينيين الذين يعيشون خارج المخيَّمات في لبنان[15] وبمعنى آخر، عبّر هذا الواقع عن ممارسة فلسطينيّة فعلية للحكم الذاتي في لبنان، الأمر الذي أدَّى إلى اصطدامه عمليًا بعدة عقبات أبرزها:

      •     العقبة اللبنانيّة: وهي أنَّ القوَّة الفلسطينيّة الكبيرة أوجدت خللًا في توازن القوى الديموغرافي– السياسي، المتخلخل أساسًا، فالمهاجرون في أي بلد، لهم تطلعاتهم وعاداتهم وتقاليدهم الخاصّة بهم، فكيف إذا كانت قضيتهم وثورتهم التي يتطلعون من خلالها إلى استرجاع حقوقهم المسلوبة... وهناك ثابت في الحياة الإجتماعية، هو التباين بين المهاجرين ومواطني الدولة المضيفة. وهذا التباين من السهل أن يؤدي إلى حالة انشطار بينها، خصوصًا وأنّ الخصوصيّات اللبنانيّة ولا سِّيما تعدّد الطوائف، قد سهَّل استغلالها لإشعال الفتن. وهذا ما حصل خلال الحرب الأهليّة.

      •     العقبة السورية: التي برزت من خلال اعتبارها، أنّ لبنان خطٌّ أحمر، لجهة عدم السماح لأيِّ استقطابٍ عربيٍّ فيه، الأمر الذي أظهر بُعدًا تنافسيًا سوريًا- فلسطينيًا في لبنان، وصل في إحدى مراحله إلى الاصطدام المباشر أو "حروب الواسطة".

(4) - التدخلات العسكريَّة الخارجيَّة: غالبًا ما تعمد السلطات الشرعيَّة، أو أيُّ طرفٍ من أطراف الصراع الداخلي، إلى طلب الاستعانة بقوىً خارجيَّة، عندما تفقد قدرتها على إمساك زمام الأمور. وغالبًا ما تستجيب القوَّة الخارجيّة إلى طلب المساعدة عندما ينهار النظام في دولة الصراع، أو في حال أحدث الصراع الداخلي انقسامًا وفراغًا يمكن أن تستغلُّهما قوّة خارجيّة أخرى معادية للقوة المُراد تدخلها، أو عند وصول الانقسام إلى مرحلة الحسم ولا تريد القوَّة المتدخلة أن يخرج أحد من أطراف الصراع منتصراً. وقد شهد لبنان منذ بداية أزمته في العام 1975، سلسلة من التدخلات المشابهة، عربيّة وغير عربيّة، أثَّرت في مسار الأزمة وتفاعلاتها. أمَّا هذه التدخلات فهي:

    •     التدخل السوري في العام 1976، الذي تمَّ بناءً على طلب من السلطات الشرعية اللبنانيّة، وبموافقة الأحزاب اللبنانيّة المحافظة، ومعارضة القوَّى التقدميَّة اللبنانيّة والمقاومة الفلسطينيَّة[16]

    •     التدخل العربي الذي احتوى التدخُّل السوري، أعطاه شرعيّة عربيّة بموجب قرارات قمتي الرياض والقاهرة في العام 1976.

    •     الغزو الإسرائيلي في العام 1978 بهدف إبعاد العمليّات الفدائيَّة وإنشاء حزام أمني، والغزو الثاني في العام 1982، بهدف ضرب البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينيَّة، وجرِّ لبنان إلى معاهدة سلام.

    •     تدخُّل القوَّة متعدّدة الجنسيّات في العام 1982، بطلب من السلطات الشرعيّة اللبنانيّة، وعلى فترتين، والتي ضمّت قوات أميركية، فرنسية، بريطانية وإيطالية، فالفترة الأولى كانت لتأمين حماية خروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، أمّا الثانية فتمثّلت اغتيال الرئيس المنتحب بشير الجميل، وبحجة حماية المخيمّات الفلسطينيّة.

    •     التدخُّل الأميركي في العام 1984، حينما شاركت البوارج الأميركيّة في قصف مواقع حركة أمل والحزب التقدُّمي الإشتراكيّ في الضاحية الجنوبيّة والجبل، وبعض المواقع السورية في منطقة الجبل.

    •     التدخُّل الفرنسي في مراقبة خطوط التماس في بيروت والجبل، بطلبٍ من السلطات الشرعيّة اللبنانيّة، بعد مؤتمر الحوار الوطني في لوزان العام 1984.

    •     التدخل السوري في العامين 1986و1987، عبر إدخال مراقبين عسكريين إلى بيروت الغربيّة ومناطق أخرى، كان بطلبٍ من بعض الفعاليّات الإسلاميَّة اللبنانيّة.

    •     إضافةً إلى تلك التدخُّلات، كان هنالك قوات عسكريّة إيرانيّة وليبية، أسهمت في بعض المعارك الداخليّة، إضافةً إلى قوَّة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وفق القرار 425 العام 1978.

    •     وبصرف النظر عن الخلفيات والأهداف التي وقفت وراءها كلِّ القوى الخارجية، فإنَّها كانت أقوى سياسيًا وعسكريًا من الأطراف اللبنانيّة المتصارعة مجتمعة كلّها. ومع ذلك، فإنَّ أيًّا من هذه القوى لم تستطع إنهاء الأزمة أو المساعدة في حلِّها. فكلِّ مرحلة من مراحل التدخُّل شكلت حوافز جديدة للانتقال إلى مرحلة من الصراع أشد عُنفًا من المراحل التي سبقتها، فالإجتياح الإسرائيلي أعقبته حوادث الشوف وعاليه في أيلول العام 1983، والتدخُّل الأميركيّ العسكريّ أدَّى إلى أحداث بيروت وانتفاضة السادس من شباط العام 1984، والدخُّول السوريّ في العاميّن 1986و1987 أدّى إلى إعلان رئيس الحكومة العسكريَّة آنذاك، العماد ميشال عون، "حرب التحرير" لإخراج القوات السورية من لبنان، إن القوَّة المتدخلة لم تؤدِ دائمًا دور الوسيط بين القوى المتصارعة، فغالبًا ما كانت تتحول إلى طرفٍ من أطراف الصراع، كما أنّ لإسرائيل أطماعها في لبنان، وأهدفًا أخرى حاولت تحقيقها كإبعاد المقاومة الفلسطينية، وإقامة حزام أمني، وجره لمعاهدة سلام معها وفق الشروط التي تؤمن هيمنتها على لبنان، ولذلك كان اجتياحها للأراضي اللبنانيّة في العاميّن 1978 و1982 سعياً وراء تحقيق هذه الأهداف.

    •     إزاء تلك المصالح المتضاربة، فإنَّه من الطبيعيِّ أن يظلّ الصدام السوري-الإسرائيلي غير المباشر ظاهرًا في لبنان وفي أحيانٍ كثيرةٍ عبر اللبنانيِّين، ثمَّ إنَّ وقوف واشنطن وراء إسرائيل وموسكو وراء دمشق، قد أعطى لهذه التدخُّلات الإقليميَّة أبعادًا دوليَّة في بعض الفترات، وبات من الصعب على لبنان أن لا يتأثر بها.

 

ج- وجهة نظر الرافضين لنظام الحياد في لبنان: شكلت الخطابات السياسية والمواقف المعلنة عبر التصريحات الرسمية وغير الرسمية في مسألة حياد لبنان، وفي معرض الدفاع عن هذا المفهوم أو انتقاده، مرحلة اشتباك كلامي له خلفيات سياسية متعلقة بالتحالفات مع الخارج، وقد تطور النقاش في هذا الموضوع ليصل الى درجة التخوين والتخلي عن العروبة وعن القضية الأم وهي تحرير فلسطين ومواجهة إسرائيل.

    •     يعتبر الرافضون أنَّ هوية لبنان وانتماءه العربييّن، يفرضان عليه الوقوف إلى جانب العرب في القضايا المصيرية، وسيطر الغموض على معظم تصريحات أصحاب القرار ومواقفهم، وخصوصًا على الصعيد الرسمي. وبين التغاضي المقصود في أحيان كثيرة، وإصرار فريق واسع من اللبنانيِّين، ورفض البعض الآخر منهم، كانت الأزمات الداخلية وتفرعاتها تتفاعل وتزداد تعقيداً وتأخذ أبعادًا شتى، حتى اعتبر بعض الأطراف الداخليّين، أنّ سياسة اللامبالاة وعدم الوضوح التي اعتمدها الحكم تجاه تحديد موقع لبنان من القضايا العربيَّة وتأكيد انتمائه العربي، كانت من بين الأسباب التي أدَّت إلى تمزُّق وحدته الداخليّة وإضعاف مقومات الدولة فيه.

    •     يرى البعض أنَّ علاقات لبنان وموقعه بالنسبة لسوريا، هما من الأهمِّيّة بمكانٍ، بحيث تجعله غير قادر على الابتعاد كثيرًا من المواقف الهامّة التي تقفها سوريا من دون أن يُشكل ذلك خطرًا على استقراره الداخلي. فإنَّ العلاقات اللبنانيّة-السوريّة الجيدة تعتبر لدى البعض أحد أهمّ الثوابت التي يتمسكون بها. ويعود ذلك إلى عدَّة إعتبارات، أهمها أنّ توتر العلاقة بين البلدين، كانت سببًا لتفسخ الوحدة الوطنية، بينما كان حسنها وتميزها، سببًا لإيجاد الكثير من الحلول والمخارج للخلافات الداخلية والأزمات السياسية.

    •     خصوصيَّة الوجود الفلسطينيّ على أراضيه وما يترتب عليه من تناقضات وإلزاماتها كثيرة كحق العمل الفدائيّ ضد إسرائيل من أراضيه، بحيث إن العمليات العسكريَّة التي قامت بها المقاومة ضد إسرائيل إنطلاقًا من جنوب لبنان، كانت ذريعة بيد إسرائيل للرد، ومبرراً للقوى المناهضة للمقاومة بوقف عملياتها، فإنّ القوى التي ساندت فصائل المقاومة، اعتبرت أنّ دعم العمل الفدائي في لبنان ومناصرته، هما واجب لبناني وحق طبيعي من حقوق المقاومة في استعمال أي أرض عربية للوصول إلى غايتها وفي طليعتها تحرير أرضها.

    •     الأطماع الإسرائيلية في الأراضي العربيَّة ومنها الأراضي اللبنانيّة، واعتبار أن كيان إسرائيل الذي أُنشئ في العام 1948 ، هو كيان غير نهائي من حيث المساحة، وهو قابل للتمدد في غير اتجاه والتوسع على حساب البلدان العربيَّة، وهذا ما يجعل من إسرائيل دولة رافضة سرًا أو علنًا لحياد لبنان.

    •     بالرد على"إعلان بعبدا"، يقول البعض في جلسات الحوار أن لا حياد مع العدو الاسرائيلي، كما أنّ "إعلان النيات" بين "القوات اللبنانيّة" و"التيار الوطني الحر" نص على "ضرورة التزام سياسة خارجية مستقلة بما يضمن مصلحة لبنان ويحترم القانون الدولي وذلك بنسج علاقات تعاون وصداقة مع جميع الدول ولا سيّما منها العربية، بما يحصّن الوضع الداخلي اللبناني سياسيًا وأمنيًا ويساعد على استقرار الأوضاع، وكذلك اعتبار إسرائيل دولة عدوة، والتمسك بحق الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم ورفض التوطين واعتماد حل الدولتين ومبادرة قمة بيروت 2002.

    •     إنَّ مُجمل تلك الأسباب، وغيرها، استند إليها رافضو الحياد، باعتبار أنّ النتائج التي يمكن أن تترتب على تطبيقه، ستجعل لبنان أسير مواقف تسهم بشكلٍ مباشر في إبعاده عن القضايا العربيَّة أو الإقليمية، التي يعتبرونها قضايا مصيرية لا يجوز إهمالها، وإلا سيتسبّب ذلك بأزمات ومشاكل جديدة له ستهدّد وجوده وكيانه.

 

7- معوقات نظام الحياد في لبنان

إنَّ لحياد لبنان معوقات كثيرة تقف في وجه إمكانيَّة تبنِّيه وتطبيقه، فحقيقة أهداف سياسات الدول الكبرى تجاه لبنان لجهة الموقع والدور الذي يمكن أن يستفاد منها، إضافةً إلى الصراعات في ما بينها، تُعتبر من أبرز المعوقات الدوليَّة والإقليمية، إضافةً إلى تلك الاعتبارات، فإنَّ التزامات لبنان العربيَّة لجهة انتمائه لجامعة الدول العربيَّة، وما يتعلَّق بها من معاهدات واتِّفاقيات، تُضفي على هذه المعوقات صعوباتٍ أخرى، تكمن في استحالة الملاءمة بين نظام الحياد وهذه الالتزامات، وكما أنَّ لهذه المعوقات الخارجيّة دوراً بارزاً في صعوبة تبنِّي نظام الحياد فإنَّ للوضع اللبنانيِّ الداخلي أسباباً عديدةً أخرى تُضاف إلى سابقاتها، وأبرزها احتلال إسرائيل لبعض الأراضي اللبنانيّة، والتوزيع الديموغرافي للسكان فيه.

  أ- المعوقات الدوليَّة

على الرغم من أنَّ مساحة لبنان الصغيرة لا تعطيه حقّه من الاهمية على الخريطة الدوليَّة، إلا إنه من الناحية الجيو- إستراتجية، يمتلك قوة التموضع الجغرافي المميز والذي يجعله نقطة جذب للنفوذ الإقليمي والدولي، ومن يتابع أحداث لبنان والمنطقة، لا بدَّ وأن يُلاحظ السعي الدائم للدول الكبرى عمومًا، والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي(سابقًا) خصوصًا، إلى تغيير التوازنات في الشرق الأوسط عبر معادلاتٍ سياسيةٍ- عسكريةٍ، غالباً ما كانت الساحة اللبنانيّة المحور الأساسي لها[17]. كما أنَّ هذا الصراع قد أدَّى في فتراتٍ معينة، إلى تدخل لاعبين جدد، وظهور خلافات دولية في وجهات النظر وبروز صراع فرنسي- أميركي حول لبنان.

    (1)- السياسة الأميركية تجاه لبنان: إنّ متابعة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، تظهر أنَّ لبنان فقد أهميتَّه الإستراتجيَّة في المنطقة بالنسبة إلى واشنطن، ولم يعد على قائمة أولوياتها المرتبطة بمصالحها الإقليميَّة. لأنَّه أصبح أحد أهم مسارح الصراعات الإقليميَّة، وبات التدخل المباشر فيه مكلفًا وغير مجد، فلبنان يعتبر الموقع الذي يجري فيه الكثير من التوظيف المثمر للمؤامرات الإقليميَّة[18]. إنَّ التدقيق في نظرة كيسينجر الذي أُعتبر "مهندس الأزمة اللبنانيّة" تُثبت هذه الحقيقة أيضًا، وتُؤكد أنَّ واشنطن لم تخرج عمليًا عن تلك المخططات لمّا تؤدّيه من خدمة للقضايا الأميركية الكبرى في المنطقة، فعلى سبيل المثال:"إنَّ نزاع لبنان يمتصُّ الطاقات العربيَّة المجاورة"[19]و"يؤدِّي إلى توريط دول عربية في المشكلة"[20]، ويهدف إلى "تقويّة المعتدلين العرب وإضعاف المتطرفين"[21]، و"القضية اللبنانيّة تُشكل بديلاً للقضية الفلسطينية"[22]. ولتحقيق الأهداف سالفة الذكر، يقتضي تأمين مُستلزمات نجاحها وأبرزها:

    •     أن تبقى الأزمة اللبنانيّة مستمرّة وبوجوه مختلفة (أمنية، عسكرية، إجتماعية، إقتصادية، محلية، إقليمية)، ولكي تستمر الأزمة من المفترض أن يستمر وجود أفرقائها، أو إدخال أفرقاء جدد لتأمين التوازن المطلوب، على أن يُمنع الحسم فيها من قبل أيِّ فريقٍ ضمن التركيبة القائمة.

    •     أن تستفيد واشنطن إلى أقصى حد ممكن من استمرار الأزمة اللبنانيّة، وتنفيذ ما تراه ضروريًا لمصلحتها داخل لبنان وخارجه، وتأجيل ما لا ترغب به، أو تغطية ما تقرَّه، على الصعد كافة، سياسية كانت أم إقتصادية أم عسكرية، ومن الصحة بمكان أنّ الولايات المتحدة سعت في العام 1989، إلى تهدئة العنف في لبنان عبر دعمها لاتِّفاق الطائف، لكن العبرة تكمن في خلفيات هذا الدعم، فهل من مصلحة واشنطن إيقاف الحرب الأهلية عند هذا الحد؟ أم أنّ مصلحتها تقتضي إبقاء ملفات الأزمة مفتوحة لكن بطرق مختلفة؟ إنَّ مراجعة الوقائع والأحداث بعد توقيع اتِّفاق الطائف، تُظهر حقيقةٌ واحدةٌ على الأقل، وهي استمرار مصلحة واشنطن في ابقاء الملف اللبنانيِّ مفتوحًا على الإحتمالات كافة، بدليل أنّها أبقت جوهر المشكلة قائمًا(وهو الاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا)، وربطت حل هذه المشكلة بالحل الشامل في المنطقة.

  (2) - التجاذب الأميركي - السوفياتي على موقع لبنان: شهدت أوائل الثمانينيات أخطر وأوسع عمليات التجاذب الأميركي- السوفياتي حول لبنان وأزمته، واتخذت أوضاعًا وأشكالًا إقليميَّة دقيقةً تمثلت باستعمال الجبال اللبنانيّة كمواقع إستراتجيّة للدفاع عن المصالح الحيوية لكلٍّ من موسكو وواشنطن، ففي العام 1981، وتحديدًا إبَّان معركة "زحلة" بين القوات اللبنانيّة والجيش السوري وما أعقبها من إسقاط إسرائيل لطائرتين سوريتين، تكاثرت التقارير حول إمكانية مواجهة أميركية- سوفياتية فوق الجبال اللبنانيّة، وأكد تقرير[23] أعده خبراء أميركيون في الاستراتجية العسكريَّة، أن قمم صنين، وغالبية قمم السلسلة الغربية لجبال لبنان، تُعتبر من أهمّ مراكز المراقبة والتنصت وأكثرها دقّة، ويضيف التقرير على سبيل المثال، إذا ركزَّ السوفيات راداراتهم على الجبال اللبنانيّة، سيكون بإمكانهم أن يحصوا نشاط حلف شمال الأطلسي والأسطول السادس الأميركي ضمن دائرة تمتد غربًا إلى شواطئ فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وشمالًا إلى تركيا واليونان، وشرقًا إلى الخليج وساحل عمان، وجنوبًا إلى صحراء سيناء والدلتا مرورًا بإسرائيل. وإنَّ تحويل لبنان إلى قاعدة سوفياتية يساوي بالنسبة لموسكو أهمِّيّة تفوق ما تساويه قاعدة "أوكينا" اليابانية بالنسبة للأميركيين". وإنَّ إقدام السوفيات على نشر صواريخ "سام" في قممّ الجبال اللبنانيّة" سيشكل سدًا سوفياتيًا منيعًا وخط دفاعٍ أوَّلٍ في وجه أيِّ تحركٍ أميركيٍّ محمولٍ جوًا إلى الخليج. وبين جنوب أفغانستان والجبال اللبنانيّة تكون موسكو قد أحكمت فكيِّ كماشةٍ حول الخليج من الشرق والغرب والجنوب"[24].

  (3) - التجاذب الأميركي - الفرنسي حول لبنان: إنَّ عدم التقاء السياستين الأميركية والفرنسية على نقاطٍ محدَّدة، تجاه لبنان، نابعٌ من نظريتهما المتوازنتين في مقاربتهما للقضيَّة اللبنانيّة. بمعنى أخر إذا كان جوهر السياسة الكيسينجرية بشكل خاص والأميركية بشكل عام تجاه لبنان، ينطلق من كونه مجرَّد موقعٍ يتمَّيز بأهمَّية إستراتيجية لجهة التوظيف والاستعمال في مسلسل البراغماتية الأميركية، فإن جوهر السياسة الديغولية بشكلٍ خاص، والفرنسية بشكلٍ عام، ينطلق من كونه دولةً ذات كيانٍ خاصّ تربطه بفرنسا علاقات تاريخية[25]. وفي الواقع ترتكز سياسة فرنسا تجاه لبنان على عدَّة قواعد مهمة بنظرها، أبرزها[26]:

•     تعتبر فرنسا أنَّ لبنان هو الأقرب إليها، دينيًا وتاريخيًا وثقافيًا.

•     لبنان أحد مرتكزاتها الأساسية، لتوجيه سياساتها ومصالحها الشرق أوسطية.

 •    انتماء لبنان إلى مجموعة الدول الفرنكوفونية بشكلٍ فاعل.

•   إنَّ أيَّ تغييرٍ في الواقع الجغرافيِّ اللبنانيِّ سيؤثر سلبًا على التوازن في المنطقة. فالسياسة الفرنسية تجاه لبنان، لا تنطلق من موقف مصلحيّ، بل تعتبرها محاولةٌ للتوفيق بين واقعها الجغرافيِّ- السياسي، وبين مصلحتها الإستراتجية الإقتصادية، وأيضًا السياسية والثقافية، ولذلك يلاحظ التركيز الفرنسيُّ على القطبين الأساسيين في المغرب والجزائر في الغرب، ولبنان في الشرق والهدف الأبرز فيه محاولة فرنسا التمايز عمليًا، والبقاء خارج النفوذ الأنكلوسكسوني- الأطلسي.

•    ترى فرنسا أنَّ جوهر الأزمة اللبنانيّة هو الصراع الإقليميُّ عليه، وأنَّ الولايات المتحدة تغذي هذا الصراع وتديره وفق حساباتها الخاصة، وظروف الأطراف الإقليميين. وهذا ما تعكسه وجهة نظر وزير الدفاع الأميركي الأسبق، كاسبار واينبرغر، حول لبنان بقوله:"المشكلة في لبنان برأيي، أنه ليس في الواقع بلدًا، كان مجموعة من نوع ما، وشكله خبراء، وحدوده ليس لها أي علاقة محددة بالجغرافيِا أو التاريخ، وهو مليء بكل أنواع القبائل المتحاربة"[27].

•    إنَّ مسلسل الصراع الأميركي- الفرنسي، كثيفٌ بكثافة المشاريع الأميركية تجاه المنطقة ولبنان، إلاّ أنَّ أبرز ما سُجِّل بهذا الخصوص، مرحلة ما بعد ولاية الرئيس السابق أمين الجميل، حيث استخدم الطرفان، ظاهرة فراغ سدة الرئاسة في لبنان، لإجراء أوسع عمليات الصراع بينهما، باعتبار أنَّ تلك المرحلة (أيلول1988-تشرين الأول1990) أنتهت عمليًا إلى صياغة جديدة لواقع النظام السياسي - الدستوري في لبنان، وأعادت خلط الأوراق من جديد بين القوى الأساسية الفاعلة في الأزمة اللبنانيّة على الصعيدين الداخلي والخارجي.

 

  ب- المعوقات الإقليميَّة.

كما أنَّ لموقع لبنان أهمِّية كبرى في اهتمامات الدول الكبرى وسياساتها، فإنَّه في الوقت ذاته، وللأسباب نفسها يشكل إهتمامًا وأهميَّة إستراتيجية لبعض الدول الإقليميَّة الطامحة إلى الاضطلاع بأدوار خارجيّة نشطة في المنطقة لسبب أو لآخر، وإنطلاقاً من ذلك الأمر، فإنَّ تحليل مواقف هذه الدول تجاه لبنان وأزمته، يظهر خلفيات اهتمام هذه الدول بتأدية دور فاعل والتدخل فيه.

    (1)- المعوقات السورية: إنَّ بقاء سوريا منفردةً في مواجهة الصراع العربي- الإسرائيلي، أملى على سياستها الخارجية ثوابت محدَّدة[28]ً تجاه هذا الصراع وأدواته في المنطقة، ومن بينها، مواقفها تجاه لبنان وملفّات أزمته المتشعبَّة. وفي الواقع إنَّ استقراء هذه المواقف بدقَّةٍ تظهر الرغبة السوريّة الدائمة لرعاية الملف اللبنانيِّ بشكلٍ دقيق، للعديد من الاعتبارات:

    •     إنَّ أيَّ عمليَّة اختراق للوضع اللبنانيِّ يُمكن أن تُشكل عملية اختراق لسوريا، باعتبار أنَّ لبنان ظلَّ في تاريخه المعاصر أحد المداخل الأساسية لابتزاز مواقف سياسيّة من دمشق، وخصوصًا في قضايا الصراع العربي- الإسرائيلي.

    •     إنَّ بقاء الجبهة اللبنانيّة الوحيدة المفتوحة عمليًا في الصراع مع إسرائيل (العمليات العسكريَّة) يُشكل حافزًا مهمًا لإمساك خيوطها.

    •     إنَّ محاولة أقطاب المحاور العربيَّة تفعيل سياساتهم الإقليميَّة بمواجهة سوريا عبر لبنان، تدفع بدمشق إلى المزيد من التمسك بضبط الوضع اللبنانيِّ.

    •     انطلاقًا من تلك الاعتبارات سعت سوريا بشكلٍ مستمرٍ إلى ضبط الملفّات اللبنانيّة بأشكالٍ متعددة، عبر اتِّفاقات بين الأفرقاء اللبنانيِّين، وتضمينها بنودًا ونصوصًا تُصوغ مستوى العلاقات بين البلدين(نموذج الوثيقة الدستورية1976، والاتِّفاق الثلاثي 1985، وصولًا إلى معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق العام 1991).

    (2) - السياسة الدفاعيَّة والأمنيَّة التي تهمُّ سوريا ولبنان: العامل الطوبوغرافي الذي يتمَّيز به لبنان، لجهة تكوين مناطقه الجبلية العالية وأهميّتها الإستراتيجيَّة بالنسبة للمنطقة ككل، يدفع دمشق إلى تلافي أيّ اختراق عسكريّ للبنان، لأنَّه سيكون اختراقًا مباشرًا لأمن سوريا، أو على الأقل التهديد بإختراقه[29]. إنَّ المادة الثالثة في المعاهدة التي تشير إلى أنَّ "الترابط بين أمن البلدين يقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديدٍ لأمن سوريا، وسوريا لأمن لبنان". والمادة الرابعة"... (تقرر الحكومتان السورية واللبنانيّة، إعادة تمركز القوات السورية في منطقة البقاع ومدخل البقاع الغربي في ضهر البيدر، حتى خط حمّانا – المديرج- عين داره، وإذا دعت الضرورة نقاط أخرى...) فالمناطق المحددة في المادة الرابعة التي أعاد الجيش السوري انتشاره فيها، تُعتبر مناطق حساسة بالنسبة لأمن سوريا ومداه الحيويّ بمواجهة إسرائيل.

 ممّا تقدم يمكن استنتاج أهداف سوريا من المعاهدة وتتلخصّ ببعض الأمور، أبرزها:

    •     إبعاد لبنان قدر الإمكان عن أي محورٍ عربيٍ مستقطبٍ له، خصوصًا إذا كان المقصود منه إضعاف موقع سوريا في لبنان.

    •     إيجاد التطابق بين مواقف البلدين إزاء قضايا الصراع العربي- الإسرائيلي.

    (3) - المعوقات الإسرائيلية: إذا كان لبنان بالنسبة لسوريا منطقة اهتمام أساسية وخط الدفاع الأخير، وبالتالي أي خرق إسرائيلي في عمق أراضيه هو تهديد وعدوان عليها، فإنَّ وجهة النظر الإسرائيلية تعتبره موقعًا متقدمًا يُمثل من وجهة النظر العسكريَّة، منطقة حيطة أساسية يجب تأمينها لحماية حدودها الشمالية، أو قضم ما يمكن من أراضيه لزيادة عمقها الدفاعي، وهي تضمر نوايا عدوانيّة على لبنان، بحجة تأمين مستلزمات الأمن الحيوي الإسرائيليّ، كما أنها ترفض بالمطلق أي نفوذ لأعدائها فيه، ويعتبر رئيس وزراء إسرائيل السابق مناحيم بايغن، "إن من يسيطر على جبال لبنان وسماء لبنان، سيسيطر على لبنان كلّه حتى الحدود اللبنانيّة - الإسرائيلية... وعندئذٍ ستواجه إسرائيل خطر الوجود". وأضاف" إننا لن نسلّم في أيّ حال من الأحوال باحتلال الجبل الذي نعتبر سيطرة عليه السيطرة على لبنان كله"[30]. إنَّ تجربة الاتِّفاق اللبنانيِّ-الإسرائيلي العام 1983، خير دليل على أهمَّية موقع لبنان بالنسبة "لإسرائيل" والأهداف التي تود تحقيقها في لبنان أوغيره. إنّ قراءة دقيقة لمضمون الاتِّفاق تُوصل إلى عدَّة نتائج، أبرزها:

•     إنَّ تنفيذ الاتِّفاق يعني إبعاد لبنان عملياً عن الصف العربي عامةً وعن سوريا بخاصة.

•     إنَّ تنفيذ الاتِّفاق كفيل بجعل لبنان محميّة إسرائيلية[31].

•     تقطيع أوصال بعض المناطق اللبنانيّة عبر جعلها أحزمة أمنية وفق الشروط الإسرائيلية، بهدف امتصاص أيّ تحركٍ أمنيٍّ معادٍ لها.

•     وضع لبنان تحت المظلة الأمنية الأميركية- الإسرائيليّة، وبالتالي تهديد أمن الدول العربيَّة المجاورة له بشكلٍ مستمر.

•    بالإضافة إلى ذلك هناك اعتبارات أخرى تُضاف إلى مصالح إسرائيل في لبنان، وتندرج ضمن الأطماع الإسرائيلية المعروفة في لبنان، كالمياه وعمليات القضم لبعض الأراضي كمزارع شبعا وتغيير معالم الحدود ومحاولة إقامة مستوطنات في الأراضي الجنوبية المحتلة[32].

 

  (4) - المعوقات العربيَّة:

• الإلتزامات تجاه الجامعة العربيَّة: إنَّ توقيع لبنان على ميثاق الجامعة العربيَّة يُلزمه بالتعاون في المجالات المذكورة في المادة الثانية، ولا سِّيما الخطط السياسية، ومن هذا المنطلق، أنَّ وجوب التنسيق يفرض على لبنان في حال اتخاذ قرارات فيها، أن يلتزم بمضمونها وفق المادة السابعة من الميثاق، رغم تمييزها عن سائر القرارات التي يتخذها مجلس الجامعة بالإجماع وهي ملزمة، وما يقرره بالأكثريّة ويُعتبر مُلزمًا لمن يقبله، كما أنَّ توقيع لبنان على بروتوكول الإسكندرية المتضمن نصًا خاصًا بتأييد العمل لتحقيق التطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني، يعني أيضًا دعم الشعب الفلسطيني في النضال عسكرياً ضد "إسرائيل"، وهذا ما يتعارض بشكل مطلق مع متطلبات نظام الحياد، الذي يرتب على لبنان عدم تقديم العون المادي أو العسكريّ ضد أيّ طرفٍ من أطراف أيّ نزاعٍ قائم.

•   معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الإقتصادي: إنَّ توقيع لبنان على معاهدة الدفاع المشترك، يُرتب عليه واجبات المشاركة الكاملة في أي عمل عسكري يُمكن أن يُتخذ، وبالتالي وقوفه إلى جانب الدول العربيَّة في كل القضايا المصيرية، ولا سيّما في صراعها مع إسرائيل أو مع غيرها، مما يعني أنَّ المطالبة بنظام الحياد في لبنان، يستوجب انسحابه من معاهدة الدفاع المشترك مع الدول العربية، إذ إنَّه من غير الممكن التوفيق بين الإلتزامات التي تفرضها كلتا الحالتين.

•   اتِّفاقية المقاطعة الاقتصاديّة العربيَّة لإسرائيل: إضافةً إلى الجانب الاقتصادي في معاهدة الدفاع المشترك، وما ترتبه من التزامات على لبنان في علاقاته الاقتصادية مع غيره من الدول، فإنَّ اتِّفاقية المقاطعة العربيَّة لإسرائيل، تُشكل عاملًا سلبيًا آخر لا يُساعد لبنان على تبنِّي نظام الحياد. فمن حيث المبدأ، يُلزم أصول الحياد الدول المحايدة بإقامة علاقات متوازنة مع جميع الدول، ويُجبرها في آن معًا على أن لا تنحاز في المجال الإقتصادي- التجاري إلى أيّ دولةٍ أو طرفٍ في حال نشوب نزاع ما بينهما، وإلاّ فقد الحياد جوهره، ومن هذا المنطلق، لا يُمكن التوفيق بين التقيد باتِّفاقية المقاطعة العربيَّة لإسرائيل والتزامات نظام الحياد.

  ج- المعوقات اللبنانيّة

    (1) - الاحتلال الإسرائيليّ والمقاومة: صحيح أنَّ الدعوة لتبنِّي الحياد في لبنان أنطلقت منذ نشأته، أيّ قبل قيام "إسرائيل" باحتلال أجزاءٍ واسعة من أراضيه في الاجتياحين اللذين حصلا عامي 1978و1982، لكن الصحيح أيضًا، أنَّ "إسرائيل " لم ولن توافق على حياد لبنان لجهة ما تطمح إليه من لبنان "الأرض والمياه". فاحتلالها للشريط الحدودي بحجة إقامة حزام أمني يحمي مستوطناتها الشمالية، ليست إلاّ ذريعة تخفي خلفها الكثير من نواياها التوسعِّية، إضافةً لذلك، إنَّها لم تصَّرح لا سراً ولا علنًا عن قبولها بحياد لبنان في مقابل انسحابها من ما تبقى من الأراضي اللبنانيّة محتلة، بل جلَّ ما تلمّح إليه، أنَّها مُستعدّة للانسحاب في حال قرر لبنان التوقيع على معاهدة سلام معها، فمعنى ذلك، أنّها ستنقل لبنان من دولة مواجهة مع "إسرائيل"، لتجعله حائطًا عازلًا بينها وبين أعدائها، وبالتالي إدخاله في تناقضات وخلافات مع الدول العربية، وليس الهدف حياده أو تحييده، كما يدّعي بعض المطالبين بنظام الحياد[33]، كما أنّ وقوع بعض الأراضي اللبنانيّة تحت الاحتلال الإسرائيلي، يُعطي مبررًا شرعيًا للتمسك بالمقاومة ضدها، بما فيها الأعمال العسكريَّة، الأمر الذي يناقض تماماً جوهر الحياد وما يترتب عليه.

    (2)- التوزيع الديموغرافي للسكان وأثره: إنّ وجود غالبيَّة إسلاميَّة ساحقة في الجنوب، وما يعنيه هذا الوجود، الذي يشكل خطِّ تماسٍ ومواجهة مع إسرائيل نظرًا للعقيدة التي تؤمن بها، الأمر الذي يجعل من الصعوبة إعتماد نظام الحياد وذلك يعود لتمسك المسلمين (وخصوصًا الشيعة منهم)، بالشعارات التي رفعها قادتهم الروحيون والسياسيون، فقد وضعت إسرائيل بخانة "الشر المطلق والتعامل معها حرام". كما أنّ احتلال إسرائيل لبعض الأراضي اللبنانيّة، أضاف للعداء المتأصِّل عند الشيعة لإسرائيل أبعادًا أخرى، تمثّلت باستحالة القبول بالواقع الحالي تحت أي ظرفٍ من الظروف[34]. وعليه يُمكن القول: إنَّ التوزيع الديموغرافي للسكان لجهة وجود المسلمين على الحدود مع أسرائيل، إلى جانب عوامل أخرى، يعتبر عاملًا آخر يضاف في وجه المنادين بالحياد.

 

  8 - تجارب بعض البلدان من إتباع سياسة الحياد.

  أ- الحياد السويسري وسر نجاحه.

 عُرفت سويسرا منذ أوائل القرن الـ19 بهويتها الحيادية، كانت هذه التجربة ناجحة لأسباب تعود إلى الثقافة والتاريخ والاعتراف الدولي، إنّ الصفات والميزات التي تمتلكها سويسرا مكّنتها من تحقيق النجاح والأزدهار في ظل الحياد، بخاصة تبني ثقافة وقف التسلح واعتبار الحياد مسألة يستفيد منها الجميع، إنّ أهمية المثال السويسري لدراسة الحياد مهمة جدًا. إن العديد من الدراسات حول قوة الدول الصغيرة تبدأ من افتراض أنّ سويسرا حالة خاصة، ويتفق الجميع على أنّ تاريخ سويسرا هو تاريخ للنجاح وهو نقيض تاريخي لتجارب بقية الدول الأوروبية وعليه فإنّ دراسة التجربة السويسرية مهمة لأربعة أسباب:

     أولًا، كانت سويسرا أول دولة يعترف بحيادها رسميًا في مؤتمر فيينا في العام 1815.

     ثانيًا، إنّها الدولة الوحيدة التي حافظت على حيادها بشكل مستمر لأكثر من 100 سنة.

     ثالثًا، أنها كانت واحدة من ثلاث دول محايدة أوروبية لم تنتهك سيادتها بشكل مباشر خلال الحرب العالمية الثانية.

     وأخيرًا هي الدولة الأوروبية المحايدة الوحيدة في التاريخ المعاصر التي حافظت على حيادها التام بعد سقوط الشيوعية الأوروبية.

 

ب- أسباب نجاح الحياد السويسري

ركّزت غالبية الدراسات على ثبات الحياد السويسري وديمومته باعتباره حالة مميزة في العلاقات الدولية في أوقات النزاع، في حين ركّزت بعض الدراسات على المفهوم السويسري للدفاع في حالة الحياد، وأيضاً والأهم، الموقف الدولي تجاه هذا الخيار والقبول به، ومن أهم أسباب النجاح السويسري في الحياد:

    (1)- الدفاع المسلح[35]: أن العنصر السلبي يجعل تكلفة انتهاك الحياد عالية جدًا، مما يضطر الدول المتحاربة الى تجنب مهاجمة البلد المحايد، وقد أكد عدد من الدراسات أن الدول المحايدة يجب أن تكون مستعدة للدفاع عن نفسها ضد أي هجوم مسلح، لقد وفّرت طبيعة الحياد السويسري المسلح، خصوصًا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، العنصر السلبي، ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى اعتقد البعض أن الحياد بحاجة الى ضمان يتجاوز ما يمكن أن يقدّمه القانون الدولي او الاتفاقيات، وبدت اتفاقيات لاهاي (1907) عاجزة أمام الدول المتحاربة، وكما حدث في العام 1914، كان الحفاظ على الحياد عشية الحرب العالمية الثانية يعتمد على مصالح القوى العظمى في حماية الدول المحايدة أو انتهاك أراضيها، في العامين 1939-1940 اعتمد بعض الدول الأوروبية المحايدة، ولا سيّما بلجيكا وهولندا والدنمارك والنرويج على القانون الدولي والاتفاقيات، كما كان الحال في عام 1914، الا أنها عانت الأمرّين من الاجتياح الألماني، وتشير التجربة الى ضرورة توافر العنصر السلبي، أو القوة الرادعة، سواء كانت ذاتية أو خارجية لمنع أي اعتداء على الدول المحايدة.

    (2) - الحياد الايجابي: بمعنى أنه حياد مفيد لجميع الأطراف المتحاربة، وعليه فإنّ تقديم بعض الفوائد الإيجابية للمتحاربين يمكن أن يكون معادلًا للفوائد التي تكسبها تلك الدول من خلال العدوان، ويهدف المكون الإيجابي للحياد إلى التوازن مع المكون السلبي، أي الردع المسلح، الذي يوفر ضمانًا إضافيًا للحياد، ومن خلال مبدأ الحياد كسمة عامة نظر الكثيرون إلى سويسرا، وفي مراحل تاريخية مختلفة، على أنها دولة محايدة إيجابية، على الرغم من حيازتها لمقومات الردع المسلح، وتاريخيًا، اعتبرت سويسرا ملاذًا للمعارضين والمثقفين، وغيرهم ممن يفرون من الدول الأوروبية الأخرى، كما اجتذبت سويسرا المنظمات الدولية التي تريد إدارة نشاطها الدولي في دولة محايدة ، وتأسيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سويسرا في العام 1863 هو مثال جيدًا على ذلك، لقد كانت سويسرا المحايدة ممرًا للاتصال والتفاوض بين القوى المتحاربة في مراحل وأشكال عديدة من الصراعات، ووفرت رصيدًا قيمًا لجانبي الصراع، وفي مجال التجارة سعت سويسرا إلى الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية والديبلوماسية مع الجميع من دون أن تتأثر بالحرب.

    (3)- معيار الحياد: إنّ سويسرا هي الدولة التي أرست معنى الحياد للمجتمع الدولي، فقد كان الحياد السويسري ممهورًا بالسيادة وتقرير المصير، وبناء مؤسسة الحياد التي تعترف بها القوى العظمى وإدراج مفهوم الحياد في الثقافة الإستراتيجية للأمة: مثلًا ليست سويسرا وحدها التي تعتبر نفسها دولة محايدة لكن المجتمع الدولي يقر بذلك، إذ لبست سويسرا رداءً قدم المعنى الوطني لثقافة الحياد، في حالة سويسرا فإنّ الدول الكبرى، التي أسميناها سابقًا بالقوى العظمى، تؤدي الدور الأهم في تحويل الحياد السويسري إلى نموذج، ويظهر لهذا النموذج وجهان، أولًا ضمان الحياد بواسطة القوى العظمى، وثانيًا تكيف الحياد مع السياسة العامة للدولة، هذان الوجهان يدعم أحدهما الآخر فإذا ما خرقت دولة كبرى المعيار وهددت الحياد السويسري يأتي دور الردع المسلح، ويؤكد تاريخ الحياد السويسري أنه نموذج فريد من نوعه لا يمكن تطبيقه إلا في سويسرا. إنّ الوضع الفريد للحياد السويسري جعلت الآخرين ينظرون إليه كمعيار أو نموذج في النظام، إلا أنّ هذا النموذج يصبح خارج سويسرا أكثر ضعفًا وأقل فعالية، وقد حاولت بلجيكا تطبيق السمات السويسرية الثلاث نفسها، إلا أنها فشلت في الحفاظ على حيادها في الحرب العالمية الأولى والثانية بسبب عدم حصولها على الاعتراف بحيادها مع عدم امتلاكها للردع المسلح. كما أنّ التحالف اللاحق للجيش البلجيكي مع الحلفاء في الحرب العالمية الأولى لم يضمن الثبات للحياد البلجيكي.

إنّ نجاح الحياد السويسري جعل منه نموذجًا يقتدى به، إلا أنّه أصبح أيضًا تجربة من الصعب تكرارها، لانّ ثلاثة عوامل حاسمة تجمّعت لتجعل من التجربة السويسرية تجربة فريدة، وهي: أولًا وجود قوة عسكرية رادعة معترف بها دوليًا، ثانيًا، كان السويسريون قادرين دومًا على تطوير حيادهم بشكل إيجابي، وأخيرًا، إنّ الوضع التاريخي والجغرافي لسويسرا ساعدها على تطوير معيار أو نموذج معترف به دوليًا.

 إنّ التماثل بالحياد السويسري كنموذج من قبل الدول الصغرى، يتطلب الحرص على توفير العوامل الثلاثة المذكورة، وتطبيقًا حذرًا ودقيقًا لها.

ب- حياد سلطنة عُمان والأسباب الموجبة التي دفعتها لإعتماد سياسة الحياد.

    اعتمدت سلطنة عُمان خيار الحياد لأسباب متعددة، فعلى الرغم من أنها تقع جغرافيًا وسياسيًا في قلب مسرح الصراع في المنطقة، إلّا أن ذلك كان عاملًا إيجابيًا للنأي بالنفس عن هذه الصراعات، أمّا الأسباب الموجبة لاعتماد هذا الخيار فهي:

    (1) - الواقع الجغرافي للسلطنة، حيث أنّ حدودها البرية والبحرية المفتوحة مع السعودية واليمن والإمارات وإيران تفرض عليها إقامة علاقات متوازنة مع الجميع، وترسيخ قاعدة تعامل مبنيّة على الصداقة والاحترام المتبادَل، تجنّبًا لتوترات حدودية وأطماع سياسية، الأمر الذي مكّنها من ترسيم حدودها بالكامل، وإبعاد التدخلات والتأثيرات السلبية الخارجية عنها.

    (2) - الواقع الديموغرافي والمالي والعسكري الذي لا يسمح لها بتأدية دور يفوق إمكاناتها وقدراتها وحجمها، فضلًا عن أنّها في الأساس ليست في هذا الوارد، الأمر الذي دفعها الى تركيز اهتمامها وجهدها على الشأن الداخلي حصرًا، والتأكيد على عدم التورط أو السماح بوجود أي تهديد يصدر من أراضيها تجاه أي دولة إقليمية.

    (3) - الواقع المأزوم لمنطقة الشرق الأوسط، إن لجهة الصراع العربي-الإسرائيلي، أو الصراعات العربية- الإقليمية، أو التناقضات العربية-العربية، هذا الواقع الذي دفع السلطنة إلى الابتعاد عن سياسة المحاور التي لا بدّ من أن يهدّد التوغل فيها الاستقرار الداخلي، أو بالحدّ الأدنى يجعل الدولة والشعب في حال من الاستنفار حيال القضايا والأزمات الخارجية، فيما هما أحوج ما يكونان بحاجة إلى الانكباب على الملفات الداخلية في سياق عمل تراكمي أسفر مع الوقت عن اكتمال البناء المؤسساتي من نظام المجلسين الى الحكومة والتجربة البلدية الحديثة ودور المرأة الطليعي في الشأن العام.

في المقابل، يعتبر خيار الحياد في عُمان أكثر من موقف، فهو ينمّ عن ثقافة وقناعة مترسختين بعيدًا عن البراغماتية السياسية وتغيير المواقف وفق الظروف الطارئة وتبدل المصالح، أي أن يتمّ اللجوء إليهما عندما تقضي المصلحة بذلك في مواجهة أخطار معينة، أو عندما يشكّل التمحور مكسبًا، ويتمّ التخلي عن هذه السياسة، فالحياد بالنسبة لسلطنة عُمان هو نهج ثابت وراسخ في السياسة الخارجية وممارسة العلاقات الدولية لهذا البلد.

 

الخلاصة

•   إنَّ الأمن الوطني لا يقتصر على الأمن الجنائي أو الأمن السياسي، إنما هو منظومةٌ كبيرةٌ تشمل الأمن الاستراتيجيّ والاقتصاديّ، ويرتكز هذا المفهوم في بلدنا على ما ينصّ عليه الدستور، وبالتحديد في مقدمته التي تنصّ على الصيغة والهويّة والقوميّة والعلاقات مع الجوار.

•   إنَّ احتدام الأزمات المتلاحقة بدءاً من سنة 1958 إلى أحداث 1975، وما تلاها من فصول مختلفة، حدا بأطرافًا لبنانيّين وغير لبنانيّين على المبادرة بطرح خيارات محاولين من خلالها تقديم الحلول الناجعة بنظرهم للخروج من تأثير الصراعات الدوليَّة والإقليميَّة على الأمن الوطني، حيث أظهر بعضهم أن الصراع العربي- الإسرائيليّ هو عنوان أساسي لمشاكل لبنان، وطرح نظام الحياد ضروري من أجل خلاص لبنان مما يتخبط فيه.

•   لدى دعاة نظام الحياد في لبنان أدلةً وحجج يستندون إليها في معرض الرد على خصومهم، كما أنَّ رافضي هذا النظام، يلجأون إلى جملة اعتبارات وحقائق يدافعون عبرها عن مواقفهم التي تُظهر عدم ملاءمة هذا النظام للحالة السياسية- العسكرية التي يعيشها هذا البلد.

•   إنَّ إمكانيّات لبنان الدفاعيّة لم ترتق الى مستوى يؤهلها تأمين حياده بنفسه وحمايته، إضافة إلى عدم موافقة دول الجوار الجغرافيِّ، وتعذُّر استطلاع رأي اللبنانيِّين، إضافة الى صعوبة توافر الضمانات الدوليَّة بشكل كامل ومستمر. وبذلك، فإنَّ الشروط سالفة الذكر التي يجب توفّرها على الأقلّ لنجاح نظام الحياد، ليست بمتناول لبنان، وليس من السهولة بمكان الوصول إليها، بل إنَّ بعضها يمكن أن يوقع لبنان بأزماتٍ أخرى لا تقلُّ خطورةً عن المشاكل التي يعانيها أصلًا.

•   تقف معوّقات كثيرة في وجه إمكانّيَّة تبنِّي نظام الحياد، فحقيقة أهداف سياسات الدول الكبرى تجاه لبنان، إضافةً التداعيات والأحداث التي تتفاعل في المنطقة جراء هذه السياسات، تُعتبر من أبرز المعوقات الدوليَّة، كما أنّ هناك معوقاتٍ إقليميَّة أخرى والتزامات جراء انتمائه لجامعة الدول العربيَّة،  تضفي على هذه المعوقات صعوباتٍ أخرى، تكمن في استحالة الملاءمة بين نظام الحياد، وهذه الإلتزامات، وهناك أيضًا أسباب داخلية عديدةً أخرى تُضاف إلى سابقاتها، وأبرزها احتلال إسرائيل لبعض الأراضي اللبنانيّة، والوضع الديموغرافي للسكّان فيه.

 


[1]-     عبدالله جبر العتيبي– محاضرة عن مقومات الأمن الوطني في جامعة الملك سعود بتاريخ 25/8/2001.

[2]-     جورج ديب، محمد المجذوب، إدمون نعيم ، وغيرهم ، راجع "الثقافة العربيَّة" عدد ك2 1968 وكذلك المجذوب "الحياد اللبنانيِّ في التصريحات والخلفيات" 1984، ص42-43.

[3]-     النهار الدولي والعربي ،عدد 318، 6/6/1983،ص36.

[4]-     محمد المجذوب،" مصير لبنان في مشاريع حياد لبنان أو تحييده يعني عزله وعزلته" بيروت، منشورات عويدات، 1978، ص209

[5]-     خليل حسين ، الصراعات الدوليَّة والإقليميَّة في لبنان ، دار المنهل اللبناني، الطبعة الأولى2008 ، ص 208-211.

[6]-     نص المذكرة في :جوزيف أبوخليل، لبنان وسوريا:مشقة الأخوة ، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1991، ص. 72.

[7]-     صحيفة "لوجور" بيروت 19/6/1958 و"لوريفاي" بيروت 11/4/1983.

[8]-     نص المحاضرة وإقتراحاته في مجلة الثقافة العربيَّة، بيروت، كانون الثاني1968.

[9]-     نشرت بتاريخ 29/11/1975 وفي كتاب العمل الشهري عدد أذار 1978 ص34-37.

[10]-    وكالة الأنباء الصحافية، بيروت 10/12/1982.

[11]-    راجع النهار العربي والدولي، بيروت، عدد 318 تاريخ 6/6/1983 ص35-41.

[12]-    قصة الموارنة في حرب لبنان ، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر،1990 ط3، ص300.

[13]-    كريم بقرادوني "لعنة وطن": من حرب لبنان إلى حرب الخليج، بيروت، عبر الشرق للمنشورات،1991، ص167-168.

[14]-    لقد استمر هذا التنافس الشديد حتى منتصف الثمانينيات وبدأ يتلاشى مع وصول الزعيم السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، الى السلطة وانتهاجه سياسة الانفتاح والتعاون مع الغرب.

[15]-    راجع هذه الإحصاءات في، الأزمة اللبنانيّة في دوامة الصراعات العربيَّة، بيروت وزارة الإعلام، 1948، ص17.

[16]-    خليل حسين " " الصراعات الدوليَّة والإقليميَّة" ،دار المنهل اللبناني ، الطبعة الأولى 2008 ،ص62

[17]-    فريد ريش راتزل" ، geographic politique ,Paris,1988, ص 133.

[18]-    الدفاع الوطني اللبنانيِّ ، عدد3، آب/ 1990 ، ص 99-117.

[19]-    كيسينجر ، الكتاب السنوي الفلسطيني، بيروت ،مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1976،ص353.

[20]-    كيسينجر محاضرات ومقالات مختارة 1982-1984، بيروت، دار قتيبة، 1988،ص108.

[21]-    المرجع السابق ص 104

[22]-    كيسينجر ،الحوادث، لندن، عدد 1023، 18/6/ 1976 ، ص 23.

[23]-    العمل ، بيروت،6/5/1981 ص6.

[24]-    the Gardian,London،17-5-1981، p72 – 75

[25]-    صحيفة الأنوار، بيروت، 7/4/1989 ص3.

[26]-    محاضرة السفير الأسبق في لبنان، بول بلان"العلاقات اللبنانيّة الفرنسية من عام 1820 حتى الآن"، النهار بيروت 5/3/1988ص 2.

27]-    تصريح واينبيرغر في الحياة، لندن 9/2/1990 ص10.

[28]-    بشار الجعفري، السياسة الخارجية السورية 1946-1982، دمشق، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر ط1، 1987، ص434

29]-    الشراع، بيروت، عدد306، 17/3/1986، ص 8

[30]-    العمل، بيروت، 17/5/1981.

[31]-    جورج ديب، مشروع بديل من اتِّفاق 17 أيار، بيروت، 1984 ص25 وكذلك النهار، بيروت، 1/3/1984.

[32]-    الكفاح العربي، العدد 609، 2/4/1990 ، ص11، والشراع، عدد 419، 2/4/1990 ص 8

[33]-    هنري أبو خاطر، "فلسطين والخطر الصهيوني"، بيروت، منشورات عويدات، دون تاريخ، ص65.

[34]-    يعترف معظم القادة الإسرائيليين، بأن الشيعة في لبنان قاوموا الجيش الإسرائيلي، أكثر من الفلسطنيين بأضعاف المرات. تصربح وزير الدفاع الإسرائيلي، إسحق رابين، الوطن، الكويت،2/5/1985.

[35]-    محمد نجيب السعدي:مجلة قضايا - اـذار 2015

The system of neutrality and the possibility of its implementation at the Lebanese scene

The Lebanese crisis continues to evolve due to the fact that no solutions satisfying all parties of the conflict in the region were put forth. It is no secret that Lebanon has turned into a scene to settle differences at the regional or international level, which led Lebanese and non-Lebanese parties to take the initiative to suggest projects of solutions, attempting through which to present what they deem appropriate to exit the repercussion of international and regional conflicts on national security.
The political life in Lebanon nowadays is giving it a main quality, which is adaptation with every new fact, starting from the presidential vacuum to living with security dangers embodied in clashes and hostilities at the borders, as well as explosions and terrorist actions inside the country and lastly, the burden of the file of Syrian refugees at the social, economical and security scale.
Amid all these internal and external complications, several suggestions to come up with solutions have emerged, for some have invited to change the political system as a solution to the problems of this country, others have suggested to hold a structural or national conference. There were also invites for the election of a president directly by the people, or changing the elections law and holding early legislative elections capable of rectifying representation, therefore making a way out of this political crisis. Some others also suggested administrative decentralization in a wide scale frame. However, the most common suggestion, particularly between the people, was introducing the system of neutrality to Lebanon, and distancing it from the conflicts in the region in order to get out of the crisis that is having a toll on the Lebanese political, economical and social life.
Therefore, several considerations have pushed to the adoption of this system of neutrality. The first of them is the aggravating crisis to the point where it became intolerable as well as the intertwined highly complex internal and external causes and the appearance of highly influencing factors, waiting for the results of the urgent external events and the change in the balance of powers, along with hopelessness due to the continuous failure in reaching internal solutions and not trusting the current political class as an objective element capable of finding solutions.
As for those who call for a neutrality system in Lebanon, they base upon facts and considerations in their response to their rivals who reject their suggestion, and who resort to a variety of concepts and ideas through which they defend their stances that demonstrate that this system is not compatible with the situation in Lebanon, being an integral part of a certain system in a current regional situation.

Le système de la neutralité et la possibilité de son application au Liban
La crise Libanaise continue à se développer vu l’absence de solutions qui pourront plaire à toutes les parties du conflit dans la région. Tout le monde sait que le Liban est devenu une scène pour régler les comptes, que ce soit au niveau régional ou international, fait qui a poussé des parties Libanaises ou étrangères à offrir des projets de solutions, tentant de la sorte, d’offrir tout ce qui leur est adéquat afin d’empêcher les conflits internationaux et régionaux d’affecter la sécurité nationale.
Une qualité principale marque, de nos jours, la vie politique au Liban, c’est celle de l’adaptation avec toute nouvelle réalité, commençant par la vacance du poste de la présidence de la République, en passant par la coexistence avec les dangers sécuritaires traduits par des accrochages et des actes d’hostilités sur les frontières, ainsi que les explosions et les actes terroristes à l’intérieur, et pour terminer avec le dossier des réfugiés Syriens qui pèse lourd sur la vie sociale, économique et sécuritaire.
Au milieu de toutes ces complications internes et externes, beaucoup d’invitations et de propositions pour trouver des solutions ont apparus. Certains ont réclamé le changement de l’ordre politique en tant que solution aux problèmes de ce pays, d’autres ont évoqué l’idée d’organiser une conférence nationale, d’élire le président de la République directement du peuple, de changer la loi électorale ou d’organiser des élections législatives anticipées capables de corriger la représentation et sortir par la suite de l’impasse politique, et certains ont évoqué la décentralisation administrative dans un cadre élargi. Quant à la proposition la plus évoquées par le peuple, surtout la classe populaire, il s’agit du système de la neutralité du Liban et sa distanciation des conflits de la région afin de sortir de la crise compliquant la vie politique, économique et sociale dans le pays.
C’est alors que plusieurs considérations ont poussé à adopter l’ordre de la neutralité, notamment l’enflure de la crise qui est devenue insupportable, les causes intérieures et extérieures de cette crise qui s’entremêlent d’une manière très compliquée, en addition à d’autres facteurs ayant des effets évolutifs, sans oublier les résultats attendus des événements extérieurs et le changement de la balance des forces, aussi le désespoir à cause de l’échec continu à aboutir à des solutions internes, l’absence de la confiance en la classe politique actuelle en tant que facteur objectif capable de trouver des solutions.
Quant aux parties réclamant la neutralité du Liban, elles reposent sur des faits et des considérations en répondant aux parties refusant cette proposition, et qui ont recours à des concepts et des idées à travers lesquels ils défendent leur point de vue, montrant que cet ordre n’est pas adéquat à la situation du Liban, vu qu’il constitue une partie intégrante d’un système précis dans une situation régionale existante.