موضوع الغلاف

طريق الشهادة من المالكية إلى فجر الجرود... ونستمر
إعداد: نينا عقل خليل

قدّم جيشنا تضحيات كبيرة في مواجهة العدو الإسرائيلي والإرهاب، كما في حماية السلم الأهلي. ضباط المؤسسة العسكرية وجنودها ساروا على طريق التضحية قوافل من الشهداء، وصفوفًا متراصّة تستظلّ راية الشرف والتضحية والوفاء. في ما يأتي عودة سريعة إلى أبرز محطات أرّخها جيشنا بدماء أبطاله وشجاعة رجاله.

 

المالكيّة أولى معموديات الدم
ما بين ١٥/ ٥ و٦/٦ من العام ١٩٤٨، خاض الجيش اللبناني وهو لم يزل فتيًا، ثلاث معارك ضارية ضد قوات العدوّ الإسرائيلي التي أقدمت على احتلال بلدة المالكية - شمال فلسطين (البلدة الواقعة على مسافة نصف كلم من الحدود اللبنانية - الفلسطينية)، فتمكّن من تحريرها وتسليمها إلى جيش الإنقاذ العربي (الذي شُكّل في حينه للدفاع عن فلسطين)، مكبّدًا العدو خسائر فادحة. استشهد في معركة المالكية النقيب محمد زغيب إلى جانب ٨ عسكريين.

 

دروس قاسية للعدو
بين بيت ياحون وتبنين وكفرا وياطر، في العام ١٩٧٢، سجّل الجيش في ١٦ و١٧ أيلول انتصارات مذهلة بوجه العدو الإسرائيلي.
دفع الجيش آنذاك ضريبة الدم في دفاعه عن أرضه، مقدّمًا تسعة عشر شهيدًا وستة وأربعين جريحًا، لكنّه في المقابل لقّن العدو درسًا في البطولة إذ دمّرت دبّابة واحدة له سبع دبابات للجيش المعادي، وظلّت تقاتل حتى نفاد الذخيرة منها، على الرغم من كثافة الطيران المعادي. لاقت هذه المواجهة الشجاعة للعدوان الإسرائيلي صدًى مدويًا في الأوساط السياسية والشعبية، والصحافة الوطنية والعالمية. وجاء في تقرير لمراسلٍ أجنبي واكب الحملة الإسرائيلية على جنوب لبنان أنّ «الجيش اللبناني قاتل ببسالة، فأعطت مقاومته صورة جيدة عن معنوياته، وقلبت جدول التوقيت الإسرائيلي رأسًا على عقب. وقد حملت هذه المقاومة الإسرائيليين على إجراء تغييرات في خططهم».

 

...ومواجهات بطولية في عيتا الشعب وصور
في ٢٥ أيار ١٩٧٥، تصدى الجيش ببسالةٍ للعدو الإسرائيلي الذي حاول اقتحام بلدة عيتا الشعب، فحصلت مواجهات عنيفة أدّت إلى استشهاد سبعة عسكريين. وحصلت اعتداءات أخرى في العام نفسه من بينها قصف منطقة صور، ومحاولة إقامة مراكز ثابتة على طريق مرجعيون صدّها الجيش اللبناني، فأعطت مقاومته صورة جيّدة عن معنويّاته.

 

الحرب الأهلية
في ١٣ نيسان من العام ١٩٧٥، اندلعت الفتنة في لبنان لأسبابٍ عديدة، أبرزها انعكاسات الصراعات الإقليمية على الساحة الداخلية، وبروز العامل الإسرائيلي الرامي إلى ضرب وحدة اللبنانيين وصيغة العيش المشترك في ما بينهم. وإزاء فقدان القرار السياسي الموحّد للدولة، غُيّب دور الجيش بمفهومه الوطني الشامل ، ولم يتمكن من ردع الفتنة رغم محاولاتٍ عديدةٍ دفع خلالها ضريبة الدم. استمرّت الأحداث الدامية لسنواتٍ طويلة، استغلّها العدو الإسرائيلي لتنفيذ مخططاته وأطماعه، فاجتاحت قواته لبنان وعاثت فيه تدميرًا وخرابًا، ما هدّد الكيان بالتفسّخ والانهيار. إلّا أنّ هذه الأحداث، وعلى الرغم من قساوتها، لم تحُل يومًا دون التواصل والتلاقي بين إخوة السلاح في الجيش، وبقي اللبنانيون يراهنون على دوره الوطني الجامع. وهذا ما حصل مع مطلع التسعينيات، من خلال وثيقة الوفاق الوطني التي وضعت حدًّا للأحداث الداخلية.

 

في مواجهات الاجتياح مرّتين
في ١٤ آذار ١٩٧٨، اجتاحت قوات العدوّ الإسرائيلي قسمًا من جنوب لبنان، تحت اسم «عملية الليطاني» التي استمرّت ٧ أيام وانتهت بصدور قرار مجلس الأمن حمل الرقم ٤٢٥، وقضى بانسحاب العدو الإسرائيلي من الأراضي التي احتلها. تصدى الجيش اللبناني ببسالة للطائرات المغيرة وللوحدات المتقدمة، وسقط له العديد من الشهداء والجرحى خلال المواجهات.
وفي ٦ حزيران ١٩٨٢، قام العدو الإسرائيلي باجتياح آخر للبنان تحت اسم «عملية سلامة الجليل» فوصلت قواته إلى العاصمة بيروت والبقاع الغربي وجبل لبنان. أدى هذا العدوان إلى سقوط نحو ٥٠ ألف شهيد وجريح (من العسكريين والمدنيين)، فضلًا عن حصول دمار هائل في البنى التحتية. تصدى الجيش للعدوان، وتعرّضت ثكناته ومراكزه لغاراتٍ عنيفة أدت إلى تدمير العديد منها (أبرزها ثكنتا محمد زغيب في صيدا وعصام شمعون في النبطية)، كما سقط له عشرات الشهداء والجرحى.

 

تموز ١٩٩١: «فجر الجنوب»
إثر توقيع وثيقة الوفاق الوطني التي تمّ بموجبها وضع حدّ للحرب في لبنان، أصدرت الحكومة قرارًا يقضي بحل جميع الميليشيات، وبسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية. انتشار الجيش جنوبًا اقتضى خوضه معركة قاسية ضد بعض التنظيمات الفلسطينية التي رفضت الانسحاب من شرق مدينة صيدا، فكانت معركة «فجر الجنوب» في تموز ١٩٩١، إذ نفّذ الجيش قرار الحكومة بالقوّة، مقدّمًا عددًا كبيرًا من الشهداء والجرحى.

 

في مواجهة عدوان ١٩٩٣
في تموز ١٩٩٣، قام العدو الإسرائيلي باعتداءٍ كبير على لبنان استمرّ سبعة أيام أُطلق عليه اسم «تصفية الحساب»، مستهدفًا المنشآت والجسور ومحطات الكهرباء والمناطق السكنية، موقعًا مئات الضحايا وآلاف الجرحى، فضلًا عن إلحاقه دمارًا كبيرًا في البنية التحتية والممتلكات، ما سبب موجة نزوح واسعة عن المناطق المستهدفة باتجاه الداخل اللبناني. فكان الجيش مرّة أخرى حاضرًا في مواجهة العدوان، فتصدى للطائرات المغيرة، ووقف إلى جانب مواطنيه يشد أزرهم، ويحمي تنقلاتهم، ويساعدهم على إزالة آثار هذا العدوان.

 

... وفي مواجهة «عناقيد الغضب»
في نيسان ١٩٩٦ نفّذت إسرائيل عملية «عناقيد الغضب» ضد لبنان، مرتكبة مجازر بالجملة أبرزها في قانا والمنصوري والنبطية. تسبّب هذا العدوان بسقوط ١٧٥ شهيدًا (بينهم أكثر من مئة امرأة وطفل قُتلوا داخل مركز القوات الدولية في قانا وأربعة عسكريين من قوات الطوارئ الدولية) إضافة إلى ٣٠٠ جريح، ونزوح ٤٥ ألف عائلة. أما حصة الجيش من الشهادة فكانت أربعة عسكريين، ومن الجرحى ١٣ عسكريًا بينهم ضابطان.
العملية التي وظّف فيها العدو مختلف أسلحة الدمار والحقد، انتهت بتوقيع «تفاهم نيسان»، تلك الوثيقة التي بدأت معها مرحلة جديدة تُوّجت باندحار العدو وانسحابه مذلولًا في العام ٢٠٠٠. وقد كان لصمود الوحدات العسكرية وتشبّثها بمواقعها رغم تعرّض مراكزها للاستهداف المباشر، أثر كبير في تعزيز صمود المواطنين وعودة النازحين منهم فور انتهاء العدوان.
عمل الجيش على إغاثة المواطنين ومساعدتهم، وأمّنت فرقه الطبّية معاينة المصابين وإسعافهم، ووفّرت المساعدة لمستشفيات المنطقة التي عانت ضغطًا هائلًا. كما أعادت الفرق الهندسية والوحدات العسكرية المنتشرة ربط المناطق بعضها ببعض، عبر ترميم الجسور واستحداث معابر بديلة وإزالة آثار الاعتداء عن الطرقات.

 

مزيد من الشهداء
في العام ١٩٩٧ تصدّى الجيش لطائرات العدو التي ردّت باعتداء على مركز له في عربصاليم، فاستشهد ضابط وخمسة عسكريين، فيما أُصيب سبعة آخرون بجروح.

 

الضنّية: أولى المعارك ضد الإرهاب
آخر أيام العام ١٩٩٩ كان بداية ظهور الإرهاب التكفيري في لبنان والمنطقة العربية ككل وبداية حرب الجيش ضده.
فقد تعرّضت إحدى دوريات الجيش في منطقة الضنية - شمال لبنان لاعتداء من قبل جماعة مسلّحة، تابعة لتنظيم «التكفير والهجرة الإرهابي». ردّ الجيش بعملية واسعة، أسفرت عن القضاء على هذا التنظيم، مقدمًا ضابطًا وعشرة عسكريين شهداء خلال المعركة.

 

تموز ٢٠٠٦: ٤٧ شهيدًا
مرّة جديدة دفع العدو الإسرائيلي بأسلحته المدمِّرة باتجاه لبنان في حرب مفتوحة بدأت من الجنوب في ١٢ تموز ٢٠٠٦، وما لبثت أن امتدَّت إلى مختلف المناطق اللبنانية، فلفَّت لبنان من البر والبحر والجو بزنَّار من الحمم في عملية تدمير منهجي لبناه التحتية ومنشآته، واستهداف متعمّد للمواطنين الأبرياء في بيوتهم وأماكن عملهم وتنقلاتهم. استهدف العدوان مواقع الجيش على كامل رقعة الوطن، مرتكبًا مجازر بشعة لا سيّما في فوج الأشغال المستقل في الجمهور وفي مركزي وجه الحجر والعبدة التابعين للقوات البحرية في منطقة الشمال، ما أدى إلى استشهاد ٤٧ عسكريًا من مختلف الرتب، فضلًا عن عدد كبير من الجرحى.

 

نهر البارد
المعارك التي قدّم خلالها الجيش أكبر عدد من الشهداء كانت تلك التي خاضها ضد الإرهاب التكفيري ومخططاته الجهنمية، وكانت معركة «نهر البارد» أكبرها. في ٢٠/٥/٢٠٠٧، قام إرهابيو تنظيم «فتح الإسلام» الذي كان متمركزًا بشكلٍ أساسي في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين – شمال لبنان، بهجومٍ مفاجئ وغادِر على بعض مراكز الجيش في محيط المخيم المذكور، وضواحي مدينة طرابلس، وذلك في محاولة هدفت إلى النيل من هيبة الدولة ومؤسساتها، وإرهاب الجيش، وصولًا إلى إنشاء إمارة في منطقة الشمال.
انطلقت المعركة فجر ذلك اليوم المشؤوم بغدر عدد من العسكريين، واستمرّت لغاية الثاني من أيلول من العام نفسه. وبنتيجتها حقق الجيش الوعد الذي قطعه للشعب اللبناني، بالسيطرة على آخر معقل من معاقل الإرهابيين في المخيّم. قدّم الجيش في تلك المعركة القاسية ١٧١ شهيدًا ومئات الجرحى.

 

مواجهة عديسة: آب ٢٠١٠
في آب ٢٠١٠ اجتازت دورية إسرائيلية معادية الخط التقني في خراج بلدة عديسة ودخلت أراضي متحفظ عليها لبنانيًا، ما دفع بقوة من الجيش المنتشرة في المنطقة إلى التصدّي لها والاشتباك معها، وإجبارها على الانسحاب. أسفرت المواجهة عن استشهاد عسكريين اثنين وصحافي وإصابة آخرين بجروح، فيما سقط للعدو عدد من القتلى والجرحى.

 

الإرهابيون من جديد
في ٢٣/٦/٢٠١٣، قامت مجموعات مسلّحة تابعة للإرهابي أحمد الأسير بمهاجمة حاجز للجيش، في بلدة عبرا قضاء صيدا، ما أدّى إلى استشهاد ضابطين وأحد العسكريين وإصابة عدد آخر بجروح. كان هدف الجماعة ضرب هيبة الجيش وإشعال الفتنة في منطقة الجنوب، وخلال يومين من المواجهات الشرسة، تمكّنت قوى الجيش من القضاء نهائيًا على هذه الجماعة، وتوقيف عدد كبير من أفرادها. قدّم الجيش في المحصلة النهائية للمعركة، عشرين شهيدًا بالإضافة إلى عشرات الجرحى.

 

طرابلس ٢٠١٤
بين العامَين ٢٠١١ و٢٠١٤، ونتيجة الاحتقان السياسي على وقع الأحداث في سوريا، نشرت رياح الفتنة سمومها في طرابلس عاصمة الشمال، فدخلت دوامة العنف عبر جولات من القتال بين مسلّحين من باب التبانة وجبل محسن. عمل الجيش على احتواء الموقف، لمنع الأيادي السوداء من تخريب مسيرة الأمن والاستقرار، ودفع ضريبة الدم مرارًا وتكرارًا خلال محاولته الفصل بين المسلحين في جولات العنف المتكررة.
وفي ٢٣ تشرين الأول ٢٠١٤ تمكّن الجيش من القضاء على واحدة من أخطر خلايا داعش، إذ نفّذ عملية اعتقل خلالها أحد أهم كوادره في الشمال. عقب هذه العملية عمدت قوى الإرهاب إلى زعزعة الوضع الأمني في طرابلس وإثارة الفتن والتحريض المذهبي، ونشرت عناصر مسلّحة في أحياء من المدينة. كما اعتدى مسلّحون على الجيش في المحمّرة (عكار)، والمنية (طرابلس)، فردّ الجيش بحزمٍ، وضرب الإرهابيين في عمق أوكارهم.

 

من عرسال إلى «فجر الجرود»
في ٢/٨/٢٠١٤، وعلى أثر قيام حاجز الجيش في منطقة عرسال بتوقيف الإرهابي السوري عماد جمعة، ظهرت فجأةً تجمعات لأعداد ضخمة من المسلّحين، الذين بادروا إلى شنّ هجوم واسع على جميع المراكز العسكرية المتقدّمة في المنطقة، وذلك بالتزامن مع استهداف فصيلة قوى الأمن الداخلي في البلدة المذكورة. قامت قوى الجيش بردٍّ سريع، ونفّذت عملية هجومية محكمة، استطاعت خلالها فكّ الطوق عن المراكز العسكرية ومن ثمّ دحر المعتدين باتجاه جرود المنطقة، وإيقاع عدد كبير منهم بين قتيل وجريح. قدّم الجيش خلال هذه المواجهة المفصلية أربعة وعشرين شهيدًا وستة وثمانين جريحًا، فيما اختطفت التنظيمات الإرهابية ٢١ عنصرًا من الجيش و١٥ عنصرًا من قوى الأمن الداخلي، واستشهد لاحقًا ٥ منهم.
وبين العامين ٢٠١٤ و ٢٠١٧ خاض الجيش عدة مواجهات عنيفة مع الإرهابيين، ونفّذ عمليات خلف خطوطهم، إلى أن اقتلعهم نهائيًا من أوكارهم في الجرود التي أطلّ فجرها يوم ٢٧/٨/٢٠١٧.
ففي ١٩/٨/ ٢٠١٧ أعلن قائد الجيش العماد جوزاف عون بدء معركة «فجر الجرود» والتي خاضها الجيش «باسم لبنان، والعسكريين المختطفين، ودماء الشهداء الأبرار، وباسم أبطال الجيش اللبناني العظيم».
استمرّت المعركة القاسية ثمانية أيام، واستُخدمت فيها مختلف أسلحة الجيش الرشاشة والصاروخية والمدفعية الثقيلة والطائرات، وأسفرَت عن انتصار حاسم على الإرهابيين خطّته تضحيات الأبطال ودماؤهم، إذ استشهد خلالها عدد من العسكريين وأُصيب آخرون بجروحٍ مختلفة نتيجة التفخيخات والألغام والأشراك التي وضعها الإرهابيون.