أسماء لامعة

أنقذ كندا من الانفجار النووي ووفّر على محطاتها الكهربائية مليارات الدولارات
إعداد: تريز منصور

الدكتور جوزيف دابلة نجم لبناني سطع في سماء كندا وعالم الاغتراب

عصامي، مثابر، مؤمن بقدرته، مصمّم على النجاح مهما كانت الظروف. أعطى العالم والعلم من وزناته، فأنقذ المحطات الذرية في كندا ومعظم دول العالم التي تستخدم نظام كاندو (CANDU) الكندي من انفجار محتمل كاد يتسبب بكوارث.
إنه اللبناني ابن الكورة، الدكتور جوزيف دابلة، الذي يأمل في يوم من الأيام العودة الى بلده والى العالم العربي، بعد أن ساهم بخبرته وعلمه واختراعاته، في جعل الحياة البشرية أفضل.

 

طفولة وحلم
ولد المهندس جوزيف دابلة في قرية ضهر العين - قضاء الكورة في الشمال في 25 تموز العام 1951، والده حنا دابلة كان موظفاً في معمل الغزل والنسيج، والدته سيدة أنطون من برسا - الكورة. له أربعة أشقاء وشقيقتان، بعضهم هاجر الى كندا واستقر فيها، وبعضهم الآخر ما يزال مقيماً في لبنان.
تلقى علومه الابتدائية في مدرسة القرية (ضهر العين)، وتابع علومه التكميلية والثانوية في ثانوية «المائتين» التي بات اسمها «الحاج حسن حجة» حالياً. كان جوزيف متفوقاً في دروسه وحالماً بمستقبل زاهر متألق. لم يكن لطموحه أي حدود، بل حاول المضي قدماً في مسيرة العلم والمعرفة، متخطياً كل العراقيل والصعاب، محدّقاً في النجوم ومستلهماً الخالق ما يمنّ عليه من نِعم.
في شهر آب من العام 1971، هاجر الى كندا لمتابعة دروسه الجامعية في هندسة الكهرباء في جامعة نيو برونزويك (New - Brunswick)، حيث نال إجازة في الهندسة الكهربائية العام 1976، ومن ثم شهادة الماستر في علوم هندسة الكهرباء العام 1978.
العام 1976، تزوج نجاة خوري من بلدة شدرا في عكار، ورزق منها ثلاثة أولاد، ليليان (1977 دكتوراه أعصاب ودماغ)، رومانوس (1980 مهندس كهرباء ويتابع دراسة الدكتوراه ويعمل في شركة والده) وطوني (1981 مهندس كهرباء، يعمل مع والده ايضاً في الشركة نفسها ويتابع دراسة الماستر في جامعة ماك ماستر، وهي الجامعة عينها التي مارس فيها الدكتور دابلة مهنة التعليم من العام 1986 الى العام 1989).

 

مسيرة العمل والاختراع
بدأ الدكتور دابلة حياته العملية في مركز الأبحاث التابع لشركة كهرباء أونتاريو «أونتاريو هيدرو» (Ontario Hydro)، حيث عمل فيها زهاء عـشر سنوات، حقـق خلالها إنجازين هامين:
- الأول، كان اختراع جهاز ساهم في عملية نقل الطاقة الكهربائية تحت الأرض، بفعالية أكبر وبكمية فاقت الـ30 في المئة عن الأجهزة التي كانت مستعملة آنذاك.
وقد سجّل الدكتور دابلة براءة هذا الاختراع في كل من الولايات المتحدة وكندا، وتحمّلت مؤسسة «كهرباء أونتاريو» التكاليف التقنية وتكاليف التسجيل كاملة. ونصّ الاتفاق على حق المؤسسة في الاستفادة من هذا الاختراع ضمن نطاق عملها لمدة عشرين عاماً، على أن تبقى الملكية لصاحب الاختراع حصراً.
كان هذا الاختراع عنواناً لأطروحة الدكتوراه التي باشرها العام 1982 في جامعة «ماك ماستر» في كندا، غير أن موضوع الأطروحة تبدّل الى موضوع اختراع آخر فرضته الحاجة.
ففي الأول من آب من العام 1983، طرأ عطل خطير في إحدى المحطات النووية لتوليـد الكهرباء، التي تعمـل وفق الطراز الكندي المعروف بنظام «كانــدو» canadian Deuterium Uranium CANDU.
وقد تمثّل هذا العطل بخسارة المبرّد الأول للمحطة (رقم 2) في مدينة بيكرينغ (Pickering) والتي تبعد حوالى الخمسين كلم عن مدينة تورنتو عاصمة مقاطعة أونتاريو.
ومن المتعارف عليه علمياً أن خسارة محطة توليد الطاقة مبرّدها الأول، يحوّل المحطة الى قنبلة ذرية قابلة للإنفجار في أية لحظة، وهذا ما حصل فعلياً في مفاعل تشرنوبيل في روسيا،  وكذلك في «ثري مايل أيلاند» (Three Mile Island) في الولايات المتحدة الأميركية.
ويقول الدكتور دابلة معلقاً: «لحسن الحظ أن الانفجار النووي لم يحدث في محطة «كهرباء أونتاريو» بفضل تصميم جهاز الأمان الذي يتمتع به النظام الكندي، حيث استطاع أن يوقف التفاعل النووي قبل دقيقة ونصف من حدوث الانفجار».
ومن أجل تصحيح هذا العطل، طبقت وللمرة الأولى في العالم عملية استبدال القلب الذري للمفاعل بآخر جديد يحلّ مكانه، وذلك في المولدين رقم 1 و2 في محطة (Pickering)، حيث اقتضت الضرورة اتخاذ التدابير عينها على المولدات العاملة على طراز «CANDU» كافة، والبالغ عددها الإجمالي 18محطة، باعتبار أن الخطر ذاته يدهمها. وقد تمّ ذلك بإشراف فريق تقني كان الدكتور دابلة من عداده. استمرت هذه العملية زهاء خمس سنوات وبخسارة مليون دولار يومياً من جراء النقص الحاصل في توليد الطاقة الكهربائية من كل مولد، حيث بلغت الخسارة ما قيمته الإجمالية مليار ومئة مليون دولار، مضافة اليها أكلاف تصليح المولدين من قوى عاملة ومواد وتجهيزات أخرى.
وأمام هذا التحدي الكبير المليء بالمخاطر والأكلاف الباهظة، اقترح الدكتور دابلة أفكاراً جديدة من أجل التصدي لهذه المعضلة، والتي شكّلت في ما بعد فتحاً علمياً لاختراع جديد تمّ بمقتضاه إدخال «بوبين كهربائي ممغنط» الى القلب الذري للمفاعل، مهمته تصليح العطل من دون اللجوء الى عملية تفكيك المفاعل بكامله من أجل زرع قلب جديد.
غير أن رؤساء الدكتور دابلة وزملاءه بدوا غير متحمسين كثيراً لاختراعه النوعي، واعتبره بعضهم ضرباً من الجنون والخيال. لكنه وخلال أربعة أيام من العمل المتواصل، استطاع أن يبرهن نظريته عملياً عبر التجارب التي أجراها في المختبر.
عندها تمّ تسخير مركز الأبحاث بكامله بطاقم ضمّ 700 موظف، ولمدة سبعة أسابيع متواصلة من دون توقف، حيث تمّ البدء في تنفيذ إصلاح الأضرار في باقي المحطات التي عانت الأعطال التي أتينا على ذكرها سابقاً، والتي كانت وراء السبب الرئيس لخسارة المبرّد الأول. ويُذكر في هذا السياق أن المحطة التي شهدت زرع القلب النووي الجديد فيها احتاجت الى عملية تبريد استغرقت ستة أشهر قبل البدء بأعمال التصليح، فيما أن الإختراع الجديد الذي قدّمه الدكتور دابلة لم يحتج إلا الى خمسة عشر يوماً لبدء العمل وبكلفة خمسة ملايين دولار فقط.
وهكذا أنقذ هذا الاختراع 18 مولداً في أنحاء مختلفة من العالم من عملية تغيير القلب الذري بكامله، والتي جرت على المولد في الرقمين 1 و2 في مدينة (Pickering) . طبق هذا الاختراع الجديد للدكتور دابلة في 14 محطة نووية في مقاطعة أونتاريو وفي محطات أخرى في نيوبر انزويك وكيبيك (كندا) وكوريا الجنوبية والأرجنتين.
ولقد أصبحت جميع هذه المحطات جاهزة للعمل وبعيدة عن المخاطر لفترة زمنية طويلة، تستمر حتى نهاية الفترة المقررة لها في الخدمة.
ولا بد من الاشارة في هذا السياق، الى أنه بعد الحادث النووي في شهر آب من العام 1983، كان قد اتخذ قرار يقضي بإقفال جميع المحطات النووية بعد خمسة عشر عاماً من عملها، علماً أن مدة صلاحيتها تصل الى أربعين عاماً. ولقد اتخذ هذا القرار نتيجة عدم وجود تقنيين يستطيعون الدخول الى المحطات النووية لإصلاحها، أو لزرع قلب نووي جديد فيها، وكذلك للحدّ من تعرّض المواطنين للإشعاع النووي.

 

لا يضيع حق وراءه مطالب
سجّل اختراع الدخول الى القلب النووي الجديد في العديد من الدول، خصوصاً تلك التي تستعمل محطات ذرية على الطراز الكندي (CANDU) مثل رومانيا، كوريا الجنوبية، الهند، الأرجنتين، دول الإتحاد الأوروبي، كندا والولايات المتحدة الأميركية. في المقابل تملك المحطات العاملة في مقاطعة أونتاريو صلاحية استخدام التكنولوجيا الجديدة للتعامل مع الأعطال التقنية لمفاعلاتها، غير أن شركة أونتاريو هايدرو قامت بنقل التكنولوجيا الى شركة «أتوميك إنرجي أوف كندا» (Atomic Energy of canada)، المسؤولة عن تصليح المحطات في كوريا الجنوبية والأرجنتين ونيوبرونزويك وكيبك، حيث تلقّت تلك المحطات مساعدات تقنية ومادية لنقل هذه التكنولوجيا من دون العودة الى المخترع للحصول على إذنه، الأمر الذي شكّل نقضاً قانونياً للإتفاق الموقّع بين الدكتور دابلة وبين شركة «أونتاريو هايدرو».
وعلى الرغم من اعتراف الشركة المذكورة بمخالفتها للقانون، فقد رفضت حلّ المسألة بطريقة سلمية عبر التفاوض المباشر مع الدكتور دابلة، وحاولت إغراءه بمبالغ زهيدة من المال مقابل التنازل عن حقه لبقية الشركات. غير أنه ونتيجة لهذا الاستخفاف المتعمّد والتعدّي على حقوق الملكية الفكرية الفردية، حمل قضيته الى أعلى مرجعية في القضاء الكندي من أجل الحصول على حقوقه المكفولة بالقوانين المرعية الإجراء.  ولقد استمرت هذه المعركة القضائية نحو اثني عشر عاماً، وتحولت القضية الى المحاكم الفيدرالية في كندا والى المحكمة العليا في مقاطعة كيبك.
وكما يقول المثل الشائع «لا يضيع حق وراءه مطالب»، فلقد ربح الدكتور دابلة معركته مع القضاء وحاز حقوقه كاملة العام 1998، ومنذ ذلك الحين وهو يموّل اختراعاته الجديدة.

 

تحقيق الحلم
حان الوقت لتحقيق الحلم، هذا ما قاله الدكتور دابلة لنفسه بعد أن ربح الدعوة القضائية، حيث قام بإنشاء شركة هندسية خاصة أطلق عليها إسم «فيفس لايت تكنولوجي» (Fifth Light Technology)، وسجّل بإسم هذه الشركة أربعة اختراعات حول توفير الطاقة الكهربائية من خلال مشروع «الإنارة الذكية». كما أنشأ شركة أخرى لتحلية المياه وتنقيتها، حملت إسم «LRT Technology». وهي تتابع أبحاثها من أجل الدخول الى الأسواق العالمية. ولقد تمّ تسويق هذا الاختراع في كندا والولايات المتحدة الأميركية خلال شهر تموز من العام 2007.
يحلم دابلة بالعودة الى لبنان، كي ينشئ فيه مركزاً للأبحاث والأعمال الهندسية، يستثمر من  خلاله كفاءته وخبرته في لبنان والعالم العربي، غير أن الظروف الأمنية والسياسية تحول دون تحقيق هذا الحلم في المرحلة الراهنة.
ويأسف الدكتور دابلة «أن يُحرم لبنان من طاقات أبنائه المشتّتين في أصقاع العالم، لا سيما في المجتمعات الغربية، التي استعمرت بلادنا، والتي ما زالت تستفيد من هجرة الأدمغة العلمية التي تعانيها مجتمعاتنا».
وقال:
«أشعر أحياناً كثيرة بالذنب الكبير تجاه بلدي، ولكنني أعود وأفكر أن الله قد منحني وزنة كي أفيد بها البشرية جمعاء خصوصاً المجتمعات المضيفة، وهذا ما يعزّيني ويدفعني الى المزيد من العطاء والنمو والتطور والاستمرارية.
وإنني أتوجه الى الجيل الجديد من أبناء وطني لأحثّهم على الثقة بالنفس وعلى المثابرة في سبيل التحصيل العلمي والجامعي، من أجل اللحاق بحركة التقدم والتطور، التي من شأنها وحدها إخراج وطننا من كبوته وتعثره، ومن أجل مساعدته على النهوض من ركام الأحداث المؤلمة نحو مستقبل زاهر لأبنائه كافة. وأشجع الجميع على التمسك بالحق والدفاع عنه، لأن الظلم غير مقبول في أية بقعة من بقاع العالم».