حصار الإسكندر الأكبر لمدينة صور واحتلالها في العام 332 ق.م.

حصار الإسكندر الأكبر لمدينة صور واحتلالها في العام 332 ق.م.
إعداد: الرائد زياد جلبوط
ضابط في الجيش اللبناني

المقدّمة

يتناول هذا البحث معركة حصار الإسكندر الأكبر لمدينة صور واحتلالها  في العام 332 ق.م. قاومت مدينة صور القائمة على جزيرة في البحر الإسكندر خلال هذه المعركة طيلة سبعة أشهر، وكادت أن تقضي على أحلامه التوسعية بصمودها. شكَّلت هذه المعركة في الغرب موضوعًا لعشرات المؤلَّفات، ولكّنها شبه غائبة عن الأبحاث العسكرية أو التاريخية في لبنان؛ من هنا تكمن أهمية الإضاءة عليها وفق منهجية علمية حديثة تعتمد بشكل رئيس على المصادر التاريخية للمؤرِّخين القدماء، وترتكز على المكتشفات الحديثة في علم الآثار. تمّ تقسيم الدراسة إلى ثلاثة أقسام، يتناول القسم الأوّل الإسكندر الأكبر، فيُظهر لنا شخصيته القيادية واستراتيجيته العسكرية ومعاركه مع الفرس في بداية حملته على الشرق. ويبيّن القسم الثاني خلفية معركة صور وأسبابها، ويقدّم لمحة تاريخية عن نشأة هذه المدينة وازدهارها، كما يحاول تفسير الأسباب التي جعلتها تواجه الغازي المقدوني من دون المدن الفينيقية الأخرى. يسرد القسم الثالث أحداث المعركة بأدق التفاصيل، مظهرًا المراحل التحضيرية لها، وميزان القوى لكلا الطرفين، وتسلسل الأعمال القتالية التي انتهت بانتصار الإسكندر وارتكابه مجازر فظيعة بعد احتلال المدينة، ذهب ضحيتها آلاف الصّوريّين.

 

1- القسم الأوّل: الإسكندر الأكبر - شخصيته القيادية وحملته على الشرق

في بداية هذا البحث، لا بدّ لنا من تسليط الضوء على شخصية الإسكندر الأكبر، فهو القائد العسكري الذي لم يخسر معركة قط، والابن المتأثّر بوالديه، والتلميذ الذي اكتسب المعرفة والحكمة من أستاذه أرسطو. نتناول أيضًا في هذا القسم كيفية تأسيس الجيش المقدوني والاستراتيجية القتالية لهذا الجيش تحت قيادة الإسكندر، ثم نوجز لكبريات المعارك التي قادها ضدّ الفرس قبل وصوله إلى المشرق وفرض حصاره على صور.

 

1-1 شخصيّة الإسكندر الأكبر

وُلد الإسكندر في العام 356 ق.م. في مقدونيا شمال اليونان[1]. بحلول عامه الثلاثين كان قد أسّس إحدى أعظم الإمبراطوريات التي عرفها العالم القديم. تأثّر كثيرًا بوالده الملك فيليب الثاني وورث عنه جيشًا قويًّا ومملكة سيطرت على كامل المدن اليونانيّة. أحبّ والدته الملكة أولمبياس كثيرًا وأحبّته هي لدرجة أنّها اتُّهمت بقتل زوجها فيليب لتوريثه العرش.

كان لأبوي الإسكندر أثر كبير في تكوين شخصيّته، فقد كانت والدته أولمبياس شديدة الجمال وذات ذكاء وحكمة ودهاء وشجاعة. قادها الاهتمام بمظهرها للسفر إلى بابل لتتبخّر وتستحم بالكندر وهو أحد أنواع البخور. حصل ذلك وقد كانت حاملًا بالإسكندر فسمّته عند ولادته "إس كندر" أي "روح البخور"[2]. كانت أولمبياس تعمل أحيانًا ككاهنة في المعبد، وكانت تدّعي أنّها من سلالة الآلهة وأنّ الإسكندر هو ابن الإله زويس. بدأ الطفل بالفعل يقتنع بكلام والدته التي كانت تشرف بنفسها على تربيته وتدريبه على القتال والفروسية. ﺇنّ اعتقاد الإسكندر أنّه من سلالة إلهية هو ما أبقى، وفقًا لبلوتارك، قلبه وروحه شامخين لا يعرفان اليأس طيلة تلك السنوات من الحملات والفتوحات التي خاضها.

تحلّى والد الإسكندر فيليب الثاني بجسم قوي ورياضي وشجاعة كبيرة ومزاج عنيف، كان ميّالًا إلى الحرب بشكل كبير، لكنّه كان في الوقت عينه رحومًا ملتزمًا بوعوده وفائق الاحترام للغير. كان فيليب الثاني مَثَلَ الإسكندر الأعلى الذي يقتدي به في كل خطوة، إذ شبّ على رؤيته يحقّق النصر تلو الآخر. لم تكن العلاقة بين فيليب وأولمبياس جيّدة، وقد زادت الأمور تعقيدًا عندما ادّعت أولمبياس أنّ الإسكندر ليس ابنًا بيولوجيًا لفيليب بل هو ابن الإله زويس. تعمّد فيليب بعد ذلك إثارة غضب أولمبياس من خلال المجاهرة علنًا بعلاقاته النسائية، وانتهى المطاف بأن تواطأت أولمبياس مع أحد الجنرالات ودبّرت عملية اغتيال زوجها، فضمنت بذلك انتقال الحكم إلى يد ابنها الإسكندر.

تأثر الإسكندر بمعلّمه أرسطو، كبير فلاسفة اليونان[3] وأحد تلامذة أفلاطون، الذي درّبه تدريبًا شاملًا في فنّ الخطابة والأدب وحفَّزه على الاهتمام بالعلوم والطبّ والفلسفة. تولّى أرسطو تعليم الإسكندر مذ كان في سن الثالثة عشرة وبقي يعلّمه ويؤدّبه أربع سنوات. أيقظ أرسطو في قلب الإسكندر رغبته المتوقّدة للمعرفة وإقباله على القراءة، وقيل إنّ الإلياذة كانت من أحبّ الكتب إلى قلبه. تأثر الإسكندر كثيرًا بـ"أخيل" بطل هذه الملحمة، وربما كان ذلك من الأسباب الّتي دفعته إلى الصمود أمام أسوار صور كما فعل قبله "أخيل" أمام أسوار طروادة.

 

1 -2 الجيش المقدوني وعقيدته القتالية

كان الإسكندر قائدًا فذًا لم يخسر معركةً قط، على الرغم من أنّ أغلب الجيوش الّتي قاتلها فاقت جيشه عددًا وعدّة. يركّز أصحاب الاختصاص الذين عالجوا العبقريّة العسكريّة لدى الإسكندر المقدوني على مجموعة من العوامل التي أسهمت في انتصاره في المعارك التي خاضها. أهم هذه العوامل هي قدرته على الاستفادة من طبيعة الأرض مهما اختلفت مميّزاتها. عُرِف عنه أيضًا اندفاعه الدائم وإصراره على أن يكون موقعه على رأس جنوده ضمن أسلوب جديد في القتال عُرِف بـ "أسلوب الجبهة المنحرفة".[4] نعرض في ما يأتي هذه العبقرية العسكرية ولكن بعد دراسة تاريخية موجزة لنشأة الجيش المقدوني.

يعود الفضل في تأسيس الجيش المقدوني إلى فيليب الثاني والد الإسكندر وملك مقدونيا، الذي امتدّت فترة حكمه بين العامين 359 و336 ق.م. كان الهدف الرئيس من إنشاء هذا الجيش منافسة باقي الممالك اليونانية والسيطرة عليها. فقد انخرط في صفوف الجيش المقدوني أبناء العائلات النبيلة ما جعل ذلك مصدر قوة ودعامة أساسية في تكوينه. استغل فيليب عائدات الذهب المستخرج من مناجم بلاده في تجهيز الفرسان بالمعدات والمستلزمات الحربية الحديثة، وفي تسليح عناصر المشاة بأحدث الأسلحة وتدريبهم على التقنيات العسكرية[5]. في البداية، قام الجيش بقيادة فيليب الثاني بتوحيد بلاد اليونان تحت راية مقدونيا، فيما اجتاز هذا الجيش حدود الوطن بقيادة الإسكندر ضمن مشروع كبير كان يرمي لفتح العالم القديم الذي كانت تسيطر عليه الإمبراطورية الفارسية. نقصد بالعالم القديم البقعة الجغرافية التي تضمّ اليوم كلًا من العراق وإيران وتركيا وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن ومصر وغيرها.

تعود عبقرية الإسكندر العسكرية إلى حسن استغلاله لموقع المعارك ولتدريبه المستمرّ لعناصر المُشاة والخيّالة ولاستراتيجيته المقدامة. كنَّ جنود الإسكندر له ولاءً مطلقًا لانخراطه شخصيًّا في المعارك ووجوده دائمًا معهم في أثناء التدريب. سلّح هذا القائد العظيم جيشه بآلة قتل متطوّرة سبقت عصرها، هي عبارة عن رماح يصل طولها إلى ستة أمتار قادرة على قتل الخصم عن بعد. لم يختر الإسكندر قطّ في معاركه ساحة القتال أو أرض المعركة، بل كان ينازل العدوّ عندما يلتقيه، أي فور وصوله إليه وفي المكان الذي يكون الخصم قد اختاره وتمركز فيه. إنّ نظرة هذا القائد المقدوني الثاقبة والمُلمَّة بكلّ معطيات ساحة القتال وقدرته الكبيرة على تعبئة جنوده وترتيب قطاعات جيشه، جعلته قادرًا على تنسيق فرقه وفقًا لطريقة تتماشى وطبيعة الأرض، فيحوّل ما كان يُفرَض عليه لصالحه.

كان الإسكندر يخوض المعركة على رأس جنوده وكان يحتفظ لنفسه غالبًا بالمَيمَنة في المهاجمة، تاركًا لأشهر قوّاده مهمة تثبيت العدوّ على الميسرة. كان اختياره هذا يلائم طبعه الهجوميّ، فقد عُرِف باندفاعه الشّديد في الهجوم حتّى قيل عنه أنه يكاد أن ينسى نفسه عند سماع صوت البوق المعلن بدء القتال. اتّبع الإسكندر في معاركه أسلوب الجبهة المنحرفة فضمنت له النصّر. جوهر الخطّة التي أخذها عن أبيه يقوم على أن تسعى خيّالة الميمنة، بزخمٍ هجوميّ شديد، إلى زحزحة ميسرة العدوّ عن مواقعها ودحرها إلى الوراء، بينما يبقى الجناح المقدونيّ الآخر صامدًا، فيتسنّى له إذ ذاك التوّغل جانبيًا في صفوف العدوّ والطعن في خاصرته المكشوفة.

 

1 -3 تاريخ العلاقات الفارسية اليونانية

تأسّست الإمبراطورية الفارسية على يد قوروش الكبير حوالى العام 559 ق.م. وامتدت في ذروة مجدها إلى كامل أرجاء الشرق الأدنى، فسيطرت مثلًا على منطقة غربي تركيا والعراق وإيران وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر. مكّن ذلك الفرس من التحكّم بالطرق التجارية المؤدية جميعها إلى البحر الأبيض المتوسّط عبر البر والبحر.

يُعتبر قوروش من أهم ملوك الفرس على الإطلاق، ويُحكى الكثير عن سياسة التسامح والانفتاح التي انتهجها، يليه في الأهمية داريوس الكبير، الذي تحدّث المؤرخون اليونانيون كثيرًا عنه وعن ابنه ارتحششتا الأوّل، كونهما قادا عدة حملات لغزو اليونان ضمن ما عرف بالحروب اليونانية - الفارسية. بدأت هذه الحروب في العام 499 ق.م وانتهت في العام 449 ق.م. وضمنت لفارس احتلال مساحات واسعة في آسيا الصغرى، إلّا أنّ إخفاقات عدّة اعترتها. استغلّ اليونانيون هذه الإخفاقات ليتحدّثوا عن انتصارات عظيمة حققوها وهزائم نكراء ألحقوها بالفرس. الإشكالية هنا تكمن في أنّ معظم معلوماتنا عن هذه الحروب تأتي من مصادر إغريقية، أي من أحد أطراف النزاع حصريًا، فنحن لا نعرف شيئًا عن الرواية الفارسية للأحداث. في معركة ترموبيل على سبيل المثال، تُحَدِّثنا المصادر الإغريقية أنّ 300 جندي إسبارطي استطاعوا أن يؤثّروا على مسير الجيش الفارسي المؤلف حسب المصادر نفسها من 180 ألف جندي. تجعل هذه المصادر من الإسبارطيين الثلاثمئة أبطالًا أسطوريين.

لا تزال رواية ترموبيل موضوعًا لعشرات الكتب، ولعدد من الأفلام السينمائية إلى يومنا هذا. المفارقة هي أنّ النص لا يسلّط الضوء بشكل موضوعي على قوة الجيش الفارسي الذي تابع سيره بعد ترموبيل إلى أثينا فاحتلّها وأحرقها بل يبالغ في تمجيد من يصفهم بالأبطال اليونانيين. نحن لا ننكر دفاع اليونانيين عن أرضهم، ولكنّنا نعتقد أنّ البطولات التي تتحدّث عنها النصوص مبالغ فيها إلى حد كبير، في الواقع لا يمكن الحديث عن انتصارات استثنائية لليونان على فارس خلال هذه المعارك، فالوقائع تُثبت العكس ولا مجال للمقارنة برأينا بين العملاق الفارسي وبين المدن اليونانية الصغيرة والضعيفة الواقعة على أطراف الإمبراطورية الفارسية. على الرغم من ذلك، فإنّ هذا الواقع سيتغيّر جذريًا مع بدء حملة الإسكندر على الشرق في منتصف القرن الرابع ق.م. حيث سيصبح الحديث عن انتصارات عظيمة ضدّ الفرس على يد الإسكندر أمرًا ممكنًا لا بل أكيدًا. في مطلق الأحوال، من الواضح أنّ الإغريق كانوا دائمي القلق من التهديد الفارسي، لكنهم لم يكونوا قادرين على القيام بأي عمل عسكري لإزالة هذا التهديد قبل وصول الإسكندر الأكبر إلى الحكم.

 

1 -4 حملة الإسكندر على الشرق

مات الملك فيليب فخَلَفَهُ الإسكندر وهو في العشرين من عمره على عرش مقدونيا واليونان. احتاج الإسكندر إلى سنتين ليوحّد البلاد اليونانية كلّها تحت قيادته، واتّجه بعد ذلك نحو المشرق. كانت الإمبراطوريّة الفارسيّة تحكم العالم القديم بأكمله، فوقع أول صدام بين الطرفين في معركة نهر غرانيكوس الذي يجري في إقليم طروادة ويصب في بحر مرمرة في تركيا الحالية. نشر الفرس مع بدء هذه المعركة قوّة الفرسان وحشدوها على الضفة الشديدة الانحدار للنهر، ووضعوا المرتزقة خلفهم. وضع الإسكندر فرسانه على المجنبة، فنقل الفرس مقاتليهم أيضًا إلى المجنبة المقابلة للفرسان المقدونيين، إلّا أن الإسكندر قام على رأس مجموعة من هؤلاء الفرسان بعمل مباغت مهاجمًا حملة الرماح والنبال الموجودين على المجنبة الأخرى، فلم يستطع هؤلاء الصمود في وجهه. عامل آخر أسهم في حسم المعركة لصالح الإسكندر يكمن في اختيار توقيت الهجوم. لقد شنّ الإسكندر هجومه في فترة ما بعد الظهر، عندما كانت الشمس تلمع في الأفق مقابل صفوف الجنود الفرس، ما أدّى إلى انبهارهم وساهم في إخفاقهم. أثبتت هذه المعركة عبقرية الإسكندر في تنظيم صفوف جنوده ومباغتة أعدائه وقدرته على اتخاذ القرارات الحاسمة، بالإضافة إلى إخلاص قوّاده ووفائهم له.

كانت معركة نهر الغرانيكوس شبه مرتجلة، إلّا أنّها فتحت الباب أمام المنازلة الكبرى في إيسوس، حيث حشد الملك الفارسيّ داريوس جيشًا فاق عديده المئتي ألف مقاتل بحسب المصادر اليونانية. تقع إيسوس قرب ممر كيليكيا في خليج مدينة الإسكندرون في تركيا الحالية. بدأت المعركة عندما عَلِم الإسكندر أنّ داريوس الثالث وصل إلى سهل إيسوس وركّز قواه فيه. كان السهل ضيقًا، ما شكّل عاملًا إيجابيًّا لجيش الإسكندر الذي لم يكن يتجاوز الثلاثين ألفًا، وسلبيًّا للجيش الفارسيّ الكبير إذ كان يعيق انتشاره. إنّ التفوّق العددي للفرس كان عديم الفائدة في هذه المعركة، نظرًا لضيق المكان واستحالة الانتشار العرضي للقوى.

وصل المقدونيون عند حلول الظلام إلى الممرّ الذي يؤدي إلى معسكر الفرس، فاجتازوه بعد أن تمّ تأمين مرتفعاته. أراح الإسكندر جنوده على المنحدرات المشرفة على سهل إيسوس حتّى الفجر، عندها بدأ الهجوم اعتبارًا من بقعة الانطلاق الواقعة على المرتفعات حيث انطلقت القوى باتجاه السهل. لم يكن عسيرًا على الإسكندر، أثناء هبوطه إلى السهل، الإحاطة بتفاصيل تمَركُز فرق العدوّ. لاحظ الإسكندر بعينه أنّ الفرس عمدوا إلى تكثيف خيّالتهم على ميمنتهم، فأدرك أنَّهم قد يعدّون العدّة للقيام بحركة التفاف حول الميسرة المقدونية. كان لا بدّ من تعديل خطته استنادًا إلى هذه المعلومات، فأكمل تعبئة صفوف رجاله ثم أمر الخيّالة بالانتقال سرًا من الميمنة إلى الميسرة بهدف مفاجأة الفرس ومهاجمتهم في نقطة ضعفهم.

جعل الإسكندر هدفه خرق ميسرة الفرس للوصول إلى وسط جبهتهم حيث كان الملك الفارسيّ يتابع، من على مركبته الفخمة، مجرى القتال. وبالفعل قام الإسكندر بهذه المهاجمة المباغتة وغير المتوقّعة، فأحدث صدمة في صفوف القوى المعادية التي استطاع خرقها متقدّمًا بسرعة باتجاه الملك. لمّا رأى هذا الأخير أنّ الإسكندر أصبح على قاب قوسين منه، لوى عنان مركبته وهرب لا يسأل عن شيء. كان ذلك إيذانًا بتبعثر جيش الفرس وتشرذمه، فانهار سريعًا وحقّق المقدونيون انتصارًا حاسمًا. كان لانتصار الإسكندر أثر معنوي وعسكري عظيم على جنوده. على الرغم من أنّ داريوس الثالث، ملك الفرس، تمكّنَ من الفرار إلّا أنّ عددًا من أفراد أسرته وقعوا في الأسر، الأمر الذي دفعه إلى عرض التنازل عن الأراضي الفارسية الواقعة غرب نهر الفرات للإسكندر مقابل إطلاق سراحهم. ردَّ الإسكندر على ذلك العرض بالرفض وزحف باتجاه ساحل المشرق بغية إخضاعه وحرمان الفرس من موانئه. استسلمت مدنٌ كثيرة للمقدونيين وتمّ الاستيلاء على بعضها من دون صعوبة كبيرة، لكنّهم اضطروا إلى فرض حصار دام سبعة أشهر للاستيلاء على مدينة صور التي كانت تشكّل موقعًا حيويًا ضروريًا للسيطرة على القوّة البحرية.

 

2- القسم الثاني: خلفية وأسباب حصار الإسكندر لصور

نتناول في هذا القسم الأحداث التي جرت عشية بدء الحصار على صور. لقد ذكرنا في القسم الأوّل أنّ الإسكندر أدرك بعد انتصاره في معركة إيسوس ضرورة تعقّب الجيوش الفارسية التي أعادت تنظيم نفسها، بغية تدمير المدينة وتحقيق النصر النهائي عليها. كان ذلك مستحيلًا في ظل التفوّق البحري للأسطول الفينيقي الداعم للفرس، فقرّر القائد المقدوني الزحف على المدن الفينيقية لإخضاعها. فتحت أرواد وجبيل وصيدا أبوابها للجيش المقدوني بينما قرَّرت صور الوقوف على الحياد. أسباب كثيرة دفعت صور لاتخاذ هذا الموقف، سنقوم بعرضها في هذا القسم، سنعالج أيضًا الأسباب غير المباشرة لإصرار الإسكندر على احتلال صور ورفضه للموقف المحايد الذي اتخذته هذه المدينة.

 

2 -1 مدينة صور عبر التاريخ

تقع صور على الشاطئ الشرقي لحوض البحر الأبيض المتوسّط في المنطقة التي عرفت نشأة الحضارة الفينيقية العريقة وازدهارها. بناها أهل صيدا، على ما تقول بعض المصادر، في القرن الثامن والعشرين ق.م. لتعرف بعد عشرين قرنًا ازدهارًا وعظمة لم يكن لهما مثيل في ذلك العصر. جذب ازدهار المدينة أطماع شعوب الشرق الأدنى القديم إليها، ما سبّب لها الكثير من المآسي والمصاعب التي كانت تعظم أو تصغر مع اختلاف الوقت والمعتدي.

أُنشِئت صور مع بداية الألف الثالث ق.م على مجموعة من الجزر المنتشرة على مسافة حوالى الثمانمئة متر من اليابسة. كانت نواة المدينة عبارة عن هيكل للإله ملكرت تحيط به تجمعات سكنيّة تعتمد في معيشتها على الصيد. أطلق الصوريون على مدينتهم اسم "صـُر" الذي يعني بالفينيقيّة الصّخر دلالة على الأرض الصخريّة القاسية التي بُنيت عليها[6]. لم تلعب المدينة دورًا بارزًا في الألفيّتين الثالثة والثانية ق.م. فيما بلغت عصرها الذهبي مع حلول الألفيّة الأولى ق.م. إذ شهدت ازدهارًا عمرانيًّا وتجاريًّا وثقافيًّا كما لم يعرف تاريخ المنطقة من قبل. في بداية فترة الازدهار هذه، قام مَلكها أحيرام بوصل الجزر التي تمّ إنشاء المدينة عليها بعضها ببعض رادمًا جزءًا من البحر. أثار ازدهار صور أطماع شعوب الشرق الأدنى القديم من أشوريّين ومصريّين وفرس وغيرهم. هادنت حينًا بدفع الجزية وقاومت أحيانًا بأسوارها العالية، فحافظت بذلك على حريّتها. سجّلت صور في القرن السادس ق.م. رقمًا قياسيًا في فترة الصمود ضدّ الحصار، كان ذلك عندما حاول الملك البابلي نبوخذ نصّر احتلالها، فلم يستطع بسبب أسوارها المنيعة وقوّة دفاعاتها، فحاصرها مدّة ثلاث عشرة سنة ولم تسقط.

بنيت أسوار مدينة صور من الحجارة الضخمة تعلوها أبراج المراقبة والرمي. كانت الأجزاء العلوية من الأسوار مسنّنة بشكل يسمح للرماة بالرمي والاحتماء. توجد داخل الأسوار بوابة محصّنة أو أكثر تسمح بالدخول إلى المدينة والخروج منها. بنى الصوريون ميناءً رئيسًا لسفنهم من جهة الشمال وميناءً آخر من جهة الجنوب. كان مدخل الميناء الشمالي ضيّقًا، ومن الممكن منع أي سفينة أجنبية من عبوره باسطفاف بضع سفن صورية عرضياً، وقد تمّ بناء برجين على جانبيه لحمايته. ما زال جزء كبير من هذا الميناء موجودًا ومستعملًا إلى يومنا هذا، وهو يسمّى اليوم "ميناء الصيادين". الميناء الجنوبي كان أكبر ويمتاز أيضًا بوجود برجي حماية على جوانب مدخله. كان يتم تثبيت سلاسل حديدية ضخمة بين البرجين وشدّها لمنع السفن المعادية من دخول المرفأ.

 

2-2 الأسباب غير المباشرة للحصار

أراد الإسكندر بسط سلطته على الساحل الفينيقي بهدف حرمان الفرس من مرافئ وأساطيل مدن هذا الساحل، والاستفادة من أهميّة موقع فينيقيا كممر إلزامي باتجاه مصر. هناك أسباب أخرى غير مباشرة أثّرت على قرارات هذا القائد العظيم وجعلته مصممًا على احتلال فينيقيا. تتعلّق هذه الأسباب بالعلاقات التاريخية التي كانت تربط اليونانيين بالفينيقيين والتي سوف نسردها فيما يأتي:

جاب الفينيقيون البحر الأبيض المتوسّط مع بداية الألفية الأولى ق.م. ووصلوا إلى سواحل الأطلسي وأسّسوا لهم المستعمرات والمحطات التجاريّة ومن بينها قرطاج، المستعمرة الصورية في تونس الحالية. سيخرج من قرطاج في القرنين الرابع والثالث ق.م. جيشٌ قويٌ حقّق انتصارات عظيمة أهمّها الانتصار على روما في معركة "كان" التي نُفّذت تحت قيادة هنيبعل. خرج من صور أيضًا قدموس فعلّم الأبجديّة للإغريق وهو شقيق "أوروبا" التي أعطت اسمها للقارة الأوروبية. وقدموس في الأساطير اليونانية هو ابن أجينور ملك صور الذي أسّس مدنًا عدّة في اليونان. وصل قدموس إلى اليونان بحثًا عن شقيقته "أوروبا" التي خطفها الإله زويس عندما كانت تتنزّه على شاطئ صور. اتّخذ زويس هيئة ثور أبيض جميل امتطته أوروبا فخطفها وانطلق بها إلى اليونان حيث تزوّج منها. على الرغم من احتواء هذه الأساطير أحداثًا خرافية إلّا أنّها تعكس الكثير من الوقائع والأحداث التي جرت في حينه. فالفينيقيون اخترعوا فعلًا الأبجدية والعلاقات، لاسيّما التجارية منها، كانت قائمة بين فينيقيا واليونان. كان الفينيقيون يبحرون دومًا عبر البحر المتوسط باتجاه "الغرب" أو "الغروب" الذي أصبح فيما بعد "أوروب" أو "أوروبا"، وهكذا فلا معنى لاسم القارة الأوروبية إلّا في قاموس المفردات الفينيقية. أما حادثة خطف أوروبا فتعكس أيضًا واقع العلاقات المأزومة التي كانت تسود أحيانًا بين الفينيقيين واليونانيين.

كان الفينيقيون أسيادًا للبحر وللتجارة، وكانت مستعمراتهم التجارية بمثابة القلب الذي كان يضخّ الدم في شرايين حوض البحر الأبيض المتوسّط ويبعث الحياة فيه. يتحدّث بعض الباحثين عن شعور اليونانيين بالدونيّة تجاه التفوّق الفينيقي، على الأقل في بداية الألفية الأولى ق.م. جعل هذا الإسكندر المقدوني، بعد انتصاره على الفرس في إيسوس، يخطّط للقضاء على التفوّق الفينيقي. فالهيمنة الإغريقية لا يمكن أن تكون شاملة، طالما أنّ هؤلاء التجار الأثرياء يحتفظون باستقلالهم وامتيازاتهم التجارية. فكان لا بدّ من إخضاعهم كمرحلة أساسية من مراحل السيطرة على العالم القديم. كان هناك أسباب أخرى لرغبة الإسكندر ببسط سيطرته على فينيقيا، فالأساطيل البحرية الفينيقيَّة كانت قد شاركت في الحملات التي شنّها الفرس على مقدونيا واليونان ضمن ما عرف بالحروب اليونانية الفارسية (بين 499 ق.م و 449 ق.م.)، وكان لا بدّ من أن يدفع الثمن كل من شارك في هذه الحروب ومنهم الفينيقيون.

 

2 -3 حملة الإسكندر على فينيقيا

رغم انتصار الإسكندر في معركة إيسوس على الفرس إلّا أنّ البحر المتوسط بقي تحت السيطرة الفارسية بسبب انضمام السفن الفينيقية للأسطول الفارسي. وكان لا بدّ للإسكندر من مكافحة التفوّق البحري الفارسي من تعقّب الفرس لمحاربتهم في عقر دارهم. كان ذلك مستحيلًا في ظل التفوق البحري للأسطول الفينيقي الداعم للفرس، فقرّر الإسكندر الزحف إلى المدن الفينيقية لتسوية هذا الوضع.

بدأ الملك المقدوني، كما ذكرنا سابقًا، سيره بعد معركة إيسوس بمحاذاة الشاطئ الفينيقيّ[7]. قابل في طريقه ابن ملك أرواد فقدّم له هذا الأخير تاجًا من الذهب مع مفتاح المدينة وكل ما يخضع لسيطرة ملكها الذي كان في البحر يقود أسطوله تحت إمرة الفرس. تابع الإسكندر سيره ﺇلى جبيل فاستسلمت دون مقاومة، وعند وصوله ﺇلى صيدا استقبله أهلها بحفاوة واعتبروه محرّرًا لهم من النّير الفارسي. كانت صيدا قد ثارت ضدّ الفرس في العام 346-345 ق.م. فحاصرها الملك الفارسي ارتحششتا الثالث. تقول بعض المصادر إنّ الصيداويين المحاصرين وعددهم كان 40 ألفًا، فضّلوا الموت على السبي والأسر من قبل الفرس فأحرقوا مدينتهم وهم بداخلها مستسلمين للموت. هذه الأحداث يتناولها بعض المؤرخين بشكل مختلف إذ إنّهم يعتقدون أنّ الصيداويين دافعوا عن مدينتهم وهم بداخلها، بعد أن سقطت أسوارها بيد الفرس الذين دخلوها وأحرقوا بعض أحيائها وقتلوا أهلها وقمعوا ثورتهم. سنرى في سياق هذا البحث أنّ التاريخ أعاد نفسه مع المقدونيين بعد نجاحهم في احتلال صور. ما يهمّنا هنا هو الإشارة إلى أنّه في الوقت الذي كانت فيه صيدا تتعرّض للتدمير على يد الفرس كان هؤلاء يتمتّعون بأفضل العلاقات مع صور.

وصل الإسكندر إلى مشارف صور، فأرسلت المدينة وفدًا قدّم للقائد المقدوني تاجًا من الذهب وكثيرًا من المؤن الغذائية كبادرة حسن نيّة. أظهر الإسكندر حفاوة باستقبال الوفد وأبلغه رغبته تقديم القرابين لملكرت في هيكله داخل الأسوار. كانت رغبة الإسكندر تنطوي على غايات مبيَّتة، فدخول قائد عسكري للصلاة في هيكل المدينة كان يعتبر في حينه بمثابة إقرار بزعامته. رفض الصوريون أن يسمحوا لأي مقدوني أو فارسي دخول مدينتهم، فنصحوا الإسكندر الذي كان يعتبر نفسه سليل هرقل أن يقدّم أضاحيه في هيكل صور البرية زاعمين بأنّه أقدم بكثير من هيكل الجزيرة، أضافوا أنّ تقديم القرابين في هيكل ملكرت الموجود داخل أسوار الجزيرة هو حق حصري لملوك صور[8]. أرادت صور أيضًا من خلال هذا الموقف المخالف لمواقف المدن الفينيقية الأخرى، البقاء على الحياد في الحرب الدائرة بين الفرس والمقدونيين، كانت المدينة تميل إلى عقد معاهدة مع الإسكندر لا إلى الخضوع له. رفض الإسكندر مبدأ الحياد وقرّر محاصرة صور بغية احتلالها مهما كلَّفه الأمر.

 

2 -4 صور تمنع الإسكندر من الدخول إليها

رحّبت صور بالفاتح المقدوني عند اقترابه منها لكنّها رفضت استقباله في هيكلها أو داخل أسوارها. شكّل هذا الموقف تحديًا كبيرًا للإسكندر ففرض حصارًا على المدينة بغية إضعافها فاحتلالها. اختلف موقف صور عن مواقف مثيلاتها من المدن الفينيقيّة الأخرى التي استقبلت الإسكندر وفتحت له أبوابها. يعود سبب رفض صور الخضوع للإسكندر إلى أنّ أهلها كانوا واثقين من عظمة اقتصادها، ومتانة تحصيناتها، وقدرة أسطولها، وقوّة نظامها السياسي كما سنوضح بالآتي.

بُنيت صور على جزيرة في وسط البحر تحيط بها الأسوار المنيعة وتحميها الأبراج العالية. كان يفصل بين الجزيرة والبرّ قناة بحرية بعرض حوالى ثمانمئة متر. لم يكن هناك مكان حول الجزيرة لنصب السلالم وتسلّق الأسوار أو لتثبيت آلات الحصار تمهيدًا لضرب هذه الأسوار بغية تدميرها. مقابل ذلك لم يكن للإسكندر سُفن يستطيع بواسطتها التقدم من أسوار المدينة تمهيدًا لضربها أو محاولة تسلّقها. كان لدى صور أسطول بحري عظيم قادر على الدفاع عن الجزيرة، ما جعل أهلها يعتقدون أنّ احتلالها مستحيل. من جهة أخرى، وعد الفرس الصوريين إعطاءهم الاستقلال المطلق والتوقّف نهائيًا عن التدخّل في شؤونهم في حال مقاومتهم للإسكندر ورفضهم الخضوع له.

كما الفرس كذلك القرطاجيون، فهؤلاء شجَّعوا الصوريّين أيضًا على منع الإسكندر من دخول المدينة. قام بهذا التشجيع الوفد القرطاجي الذي وصل إلى صور للمشاركة باحتفالات العيد السنويّ للإله ملكرت. دعاهم الوفد ﺇلى الثبات في وجه المقدونيين واعدًا ﺇيّاهم بالمساعدات التي ستأتي عن قريب من قرطاج. لا بدّ لنا من الإشارة هنا إلى أنّ صور تعتبر الأم الحنون لقرطاج التي تأسّست على يد الأميرة أليسار الصورية حوالى العام 814 ق.م. ومعنى قرطاج هو"قَرْتْ حَدَشْتْ" أي "المدينة الحديثة". أسّست قرطاج إمبراطورية عظيمة سيطرت على أجزاء واسعة من حوض البحر الأبيض المتوسط. كان لدى قرطاج أسطول بحري مهم وقوّة عسكرية واقتصادية ناشئة لا يستهان بها.

كان الحكم في صور ديمقراطيًا، إنّه الوجه الأقدم للديمقراطيات التي عرفها التاريخ. يتّفق المؤرخون اليوم على أنّ الديمقراطية انطلقت من أثينا. نحن لا ننكر ذلك، فالإرث الثقافي والسياسي اليوناني الذي بقي محفوظًا إلى يومنا هذا، يوضح الوجود الفعلي لهذه الديمقراطية بشكلها الأوّلي. على الرغم من ذلك، فالديمقراطية اليونانية لم تكن الوحيدة في العالم القديم ولا حتى الأقدم، فالمدن الفينيقية كانت أكثريتها عبارة عن دولة-مدينة ذات حكم ديمقراطي. والأبحاث في هذا المجال ما زالت في بداياتها، إلا أنّ الكثير من الباحثين باتوا يتحدثون عن الجذور الفينيقية للديمقراطية اليونانية. لو تعمّقنا أكثر في الموضوع سوف نجد أيضًا أنّ جذور النظام الديمقراطي تعود إلى المجتمعات البدائية الأولى. لا يمكن التخيّل أنّ هذه المجموعات التي كانت تتألف من عدد قليل من الأشخاص قد حكمها ديكتاتور مثلًا، ومن المؤكّد أنّ نظام حكمها كان قائمًا على شكل من أشكال التشاور والتعاون. إنّ النظام القائم في صور كان نظامًا ديمقراطيًا قويًا، وقد رأى الصوريون في الإسكندر حاكمًا عسكريًا توتاليتاريًا قد يقضي على نظامهم الاستشاري الديمقراطي في حال خضوعهم له.

 

3- القسم الثالث: سير الأعمال القتالية وانتصار الإسكندر

اندلعت الأعمال القتالية في كانون الثاني من العام 332 ق.م. بين المقدونيين والصوريين الذين قاوموا الإسكندر الأكبر ببسالة، ساعدهم في ذلك موقع مدينتهم القائمة على جزيرة في البحر تحيط بها الأسوار العالية. لدينا تفاصيل دقيقة حول مجريات العمليات العسكرية في معركة صور، كتب معظمها المؤرخون الإغريق. على الرغم من أنّ هذه المصادر غير محايدة إلّا أنّها بغاية الأهمية والدقة وهي تعطي صورة واضحة جدًا عن تفاصيل المعركة. سنعرض هذه الأحداث في هذا القسم بدءًا بالمراحل التحضيرية التي سبقت الحصار مرورًا بالتفوّق الصوري الذي كان واضحًا في بداية المعركة وصولًا إلى انقلاب ميزان القوى بعد تدخّل أساطيل عدّة مدن فينيقية لصالح الإسكندر، ما أدّى إلى انتصاره ودخوله صور وتدميرها وارتكاب أفظع المجازر فيها.

 

3 -1 المراحل التحضيرية للمعركة

رفضت صور الخضوع للإسكندر الأكبر فحشد أمام أسوارها جيشًا قوامه خمسون ألف عنصر. بدأ القائد المقدونيّ يخطّط ويحضّر لاحتلال المدينة، فشحن عزيمة جنوده وأقنعهم بضرورة خوض المعركة. جَمَع المعلومات ووضع خطّة استمدّ مضمونها، بحسب زعمه، من الإله هرقل فأضفى عليها بذلك بعدًا دينيًا وجعلها غير قابلة للنقد. كانت خطة الإسكندر تقضي بوصل الجزيرة باليابسة بواسطة ممرّ من الأحجار ينتقل عليه الجنود سيرًا لمهاجمتها[9].

قبل البدء بالحصار، أرسل الإسكندر وفدًا إلى المدينة مُهدِّدًا ومتوعّدًا الصوريّين. ألقى هؤلاء القبض على الوفد وقتلوا أعضاءه ورموا جثثهم من فوق أسوار المدينة، فكان ذلك بمثابة الشرارة الأولى أو السبب المباشر لبدء المعركة [10]. جمع الإسكندر بعد ذلك جنوده وألقى فيهم كلمة بليغة لتحفيزهم على القتال ورفع معنوياتهم وإقناعهم بضرورة فرض الحصار على صور. ذكرهم أنّ هذه المدينة هي الوحيدة التي تجاسرت على مجابهتهم وإيقاف موجة انتصاراتهم، وقال إنّه لا يمكنهم الذهاب إلى مصر ومن بعدها إلى فارس دون السيطرة على صور بأسطولها البحريّ العظيم وموقعها الاستراتيجي المهم. إنّ احتلال صور ومن ثمّ مصر سوف يحرم الفرس من القدرة على إعادة تجميع قواهم ويمهّد لطردهم إلى منطقة نهر الفرات وفقًا لخطاب الإسكندر. أوضح هذا القائد أيضًا أنّه لا يمكن إطلاقًا الإبقاء على مدن غير موالية ضمن المناطق التي يتم احتلالها لما قد تشكّله هذه المدن من خطر داخلي على المشروع المقدوني في المستقبل.

حلم الإسكندر أنّ الإله هرقل أمسكه بيده وقاده سيرًا على أرض صلبة باتجاه أسوار صور فاتحًا له أبوابها فدخلها وقدّم القرابين في هيكلها. في الميثولوجيا الإغريقيّة هرقل هو ابن زيوس الأكبر وهو البطل الأسطوري المؤلَّه بعد موته الّذي أنقذ جبل أوليمبوس من شرور عمّه إله الموت بعد بذله جهودًا جبارة. إنّ الحديث عن هرقل في هذا الإطار يرمز إلى المصاعب الكثيرة التي ستواجه الإسكندر ولكنّه سيتغلّب عليها تمامًا كهذا البطل الأسطوري. استوحى الإسكندر الخطّة المتعلّقة بحصار صور من حلمه، فقرّر ردم القناة البحريّة التي كانت تفصل الجزيرة عن الساحل ما يؤمّن له الانتقال على أرض صلبة لمهاجمة الأسوار. استطلع الإسكندر المناطق الساحلية الواقعة مقابل صور باحثًا عن المواد اللازمة لتنفيذ مشروعه، فوجد أنّ الأخشاب والصخور اللازمة للأعمال متوافرة في صور البرية وفي جبل لبنان[11].

قام المهندسون المقدونيّون بغرز صفّين متوازيين من الدعائم الخشبيّة عند النقطة الساحليّة الأقرب للجزيرة وباتجاهها. كان ذلك عملًا شاقًا ولا سيّما في البقعة القريبة من الجزيرة حيث المياه العميقة. ملأوا بعد ذلك المساحة الفارغة بين الدعائم بالأحجار والردميّات التي كان يُؤتى بها من البرّ. تقدّمت الأعمال بسرعة في البداية ولكنّها تباطأت مع ازدياد عمق المياه. راقب الصوريّون ما يجري بقلّة اكتراث ولا سيّما أنّ الممر لم يكن ظاهرًا فوق مياه البحر في البداية. كان البحّارة الصوريون يقتربون بسفنهم من العمال مستهزئين فيسألونهم إن كان ملكهم الإسكندر أقوى من إله البحر الفينيقي[12]. مع تقدّم الأعمال فوّض الإسكندر قيادة الحصار إلى أحد جنرالاته وتوجّه إلى منطقة البقاع. يندرج ذلك على ما يبدو ضمن إطار الحرب النفسية، إذ إنه كان يريد أن يعطي انطباعًا أنّ حصار صور ليس بالأهمية أو الخطورة التي تطلب تواجده الدائم، كما وأراد من خلال ذلك أن يوضح أنّه لن يبذل كل جهده أو كل وقته في حصار مدينة واحدة.

 

3 -2  التفوّق الصوريّ في بداية المعركة

لاحظ الصوريّون، مع تقدّم الأعمال المقدونيّة، أنّ قسمًا من الممر البحري بدأ بالظهور فوق سطح الماء. أدركوا حينها حجم الخطر الذي قد يهدّدهم فيما لو استطاع العدو إنجاز البناء وقرّروا المواجهة. كان ميزان القوى يميل لصالحهم في البداية فنفّذوا هجمات منتظمة على بناة الممر. تميّزت الهجمات بحركيّة صوريّة عالية وقدرة على ابتكار الجديد دائمًا كما ونفّذت وحدات خاصة من سكان الجزيرة أعمالًا قتاليّة في عمق دفاع العدو.

أرسل الصوريّون قوارب قتال خفيفة إلى جانبَي الممرّ على متنها جنود رموا سهامهم على العمّال المقدونيّين فقُتل وجُرح منهم الكثير. لم يتكبّد الصوريّون أيّ خسائر مقارنةً بالمقدونيّين الذين وقفوا على ممرّ ضيق وسط البحر عاجزين عن حماية أنفسهم. ارتدى المقدونيون دروعًا مصنوعة من الجلد والحديد ولكن الحماية التي قدّمتها هذه الدروع لهم بقيت محدودة. عمد المقدونيون إلى حماية أنفسهم من خلال الاختباء أثناء العمل خلف ستائر كبيرة من الجلد أو القماش الخشن مثبتة على هياكل خشبية. بالإضافة إلى الحماية التي كانت تؤمنها، فقد سمحت هذه الستائر بإعادة جمع الأسهم العالقة عليها تمهيدًا لاستعمالها من جديد من قبل المقدونيين ضدّ الصوريين.

قام المقدونيون ببناء برجين متحرّكين من الخشب لتأمين حقول مراقبة ورمي لصالح العاملين في الممر. جهّز الصوريّون سفينة قديمة وملأوها بالأغصان اليابسة والزفت والكبريت، ثمّ أضرموا النار فيها وأرسلوها باتجاه الممر كي ترتطم بالأبراج. انتشرت النيران بسرعة وقبل أن يتمكّن العمّال من حصرها أحاطت بالبرجين وبآلات الحصار الأخرى وأتت عليها. عند عودة الإسكندر من البقاع وجد أضرارًا كبيرة قد لحقت بالأعمال التي تمّ إنجازها. كان ذلك بمثابة صفعة لكبريائه، فأصرّ على متابعة العمل ولجأ إلى إجراء تعديلات جذرية على شكل الممرّ وموقعه. ارتكزت هذه التعديلات على تغيير اتّجاه الممرّ ليتلاءم مع التيارات المائية الجارفة وعلى توسيعه ليسمح بمناورة أكبر. نتيجة لمخطّط العمل الجديد، أصبح الممرّ قادرًا على استيعاب الأبراج المتحركة وآلات الحصار التي تمّ تطويرها وتزويدها بعجلات يمكن دفعها كلما تقدم البناء.

مقابل ذلك نفّذت مجموعات صغيرة من الصوريّين عمليات قتاليّة خاصّة لإفشال التقدم في بناء الممرّ. قامت مجموعة بالتسلّل إلى الشاطئ حيث كان العمّال ينقلون الحجارة، فتمّت مُهاجمتهم وأغارت فرقٌ خاصّة على العمّال المقدونيّين الذين كانوا يقطعون الأشجار في جبل لبنان ملحقةً بهم الخسائر. بالإضافة إلى ذلك سبح الغطّاسون الصوريون باتجاه الممرّ بهدف نزع الدعائم الخشبيّة التي كانت الردميات والأحجار ترتكز عليها فقاموا بتثبيت الخطافات على هذه الدعائم، ثمّ عادوا إلى الجزيرة وسحبوا بواسطة الحبال هذه الخطافات فانهارت الدعائم جارفة كل ما عليها وما حولها من صخور إلى الأعماق[13].

 

3-3 انقلاب ميزان القوى لصالح المقدونيّين

أخضع الإسكندر آسيا الصغرى بسرعة لا مثيل لها، ووقف أمام أسوار صور يخسر الوقت ولا يحقق أيَّ نتائج. بدأ يفكّر بفكّ الحصار ومتابعة الزحف إلى مصر لكنّه كان يخشى على اسمه وشهرته إذ قد يعيّره أعداؤه بالهزيمة. في ظل هذا التخبّط استطاع الإسكندر إنشاء أسطول بحريّ كبير وإدخاله في المعركة، فيما أنهى جنوده بناء الممرّ وأصبح بإمكانه أن يصل إلى أسوار صور عبر البرّ. إلى جانب ذلك لم يصل التعزيز الذي كان ينتظره الصوريّون من قرطاج. غيّرت هذه الأحداث مجريات المعركة وقلبت ميزان القوى لصالح الإسكندر.

كان الإسكندر يدرك أنّه يسير بخطى ثابتة نحو الهزيمة ما لم يُدخِل في أعماله القتالية آلة الحرب البحريّة بهدف فرض حصار بحري على صور. توجّه الإسكندر إلى صيدا لإنشاء أسطوله البحري، في هذه الأثناء قرّر ملكا أرواد وجبيل اللذان علما بسيطرة الإسكندر على مدينتيهما، تَرْك الأسطول الفارسي والعودة إلى موانئهما ومن ثم الالتحاق بأسطول الإسكندر. إضافة إلى ذلك انضمّت مجموعة كبيرة من السفن التابعة لقبرص ولبعض الجزر اليونانية للأسطول المقدوني. عاد الإسكندر من صيدا بأسطول بحري يقدر بـ223 سفينة، ففرض حصارًا بحريًا على صور. نفّذ الصوريّون هجومًا بحريًّا لفكّ الحصار، اختاروا فترة بعد الظهر لتنفيذ هذا الهجوم كونها فترة الاستراحة لدى المقدونيّين. أسعف الحظّ الإسكندر الّذي لم يكن قد أخذ قيلولته بعد، فقاد هجومًا بحريًّا معاكسًا محقّقًا النجاح ففشل الهجوم الصوري.

إنّ الخطر الذي شكّله دخول الأسطول المقدوني المستحدث في المعركة لا يكمن في فرض الحصار البحري على صور فقط. فقد تمّ استعمال السفن كحاملات لماكينات الحصار التي كانت تتألف من الأبراج والمدقّات. المدقّة عبارة عن عامود خشبي ذات رأس معدني معلّق بواسطة حبال على مركبة تسير على عجلات، بحيث يمكن أرجحة العامود ودفعه بقوة لضرب أسوار المدن. في حصار صور، كانت تتمّ الاستعانة أحيانًا بسفينتين لحمل البرج الواحد أو المدقّة الواحدة. إنجاز آخر حقّقه المقدونيون في المعركة شكّل ضربة قوية للصوريين، فقد انتهى بناء الممرّ وأضحى من الممكن الوصول إلى صور عبر البرّ. نتيجة لذلك نُصِبت أبراج الحصار والمدقّات أيضًا مقابل الأسوار وثُبِّتت على الأرض اليابسة فوق الممرّ. دافع الصوريّون ببسالة عن المدينة فملأوا أكياسًا من الجلد ووضعوا داخلها أعشابًا بحريّة وألصقوها بالأسوار لتخفيف صدمات المدقّات، ثم ملأوا قدورًا بالرمل المتوهّج والزيت المغليّ وأفرغوها من أعلى الأسوار، فكانت حبّات الرمل تُغرز في دروع وأجساد المقدونيّين. إضافة إلى ذلك قام الغطّاسون بقطع حبال تثبيت المراكب التي كانت تحمل الأبراج والمدقّات بمحاذاة الأسوار ما أجبر الإسكندر على استبدالها بجنازير حديدية.

ضربة أخرى تلقاها الصوريون تتعلّق بالدعم الذي كانوا ينتظرونه من قرطاج. لقد وصل إلى صور وفد قرطاجيّ معلنًا أنّ قرطاج لن تتمكّن من إرسال التعزيزات إلى صور كونها منشغلة هي الأخرى بالحرب. إزاء هذه التطوّرات، رأى كبير الكهنة في حلمه الإله ملكرت وهو يغادر المدينة، فكان ذلك نذير شؤم كبير. أدرك الصوريّون خطورة الموقف، وبدأوا بإجلاء مَن استطاعوا إجلاءه من نساء وشيوخ وأطفال إلى قرطاج، ورُفعت الصلوات في هيكل ملكرت علّه يتدخّل لنجدة المدينة.

 

3 -4 سقوط المدينة وارتكاب المجازر بحق أهلها

رأى الإسكندر أنّ الوقت قد حان لشنّ الهجوم الحاسم على صور، فالمتغيّرات الّتي طرأت على سير أحداث المعركة كانت لصالحه بحرًا وبرًا. شنّ هجومه الحاسم في شهر آب مستعملًا عظيم قواه، فاستطاع فتح ثغرة في الأسوار الجنوبية للمدينة ساعدته على دخولها. دافع الصوريّون عن أرضهم حتى الرمق الأخير، فكان ذلك سببًا آخر لجعل انتقام الإسكندر كبيرًا. ارتكب الإسكندر أفظع الجرائم في صور بعد دخولها، ثمّ عمد إلى تنظيم احتفالات النّصر بداخلها وتقديم القرابين لإلهها.

شنّ المقدونيّون هجومًا حاسمًا على صور. كانت الأبراج والمدقّات تحيط بالجزيرة من كل صوب. كان ارتفاع الأسوار شاهقًا من الجهة الشرقية للجزيرة، بينما كانت التحصينات في الجنوب أضعف والأسوار أقل ارتفاعًا. استغل الإسكندر ذلك، وحاول إحداث ثغرة في الأسوار الجنوبية لكي ينفذ منها إلى الداخل فنجح. وجّه الإسكندر جهده الرئيس باتّجاه الخرق، فرمت السفن السلالم ووثب بعض المقاتلين من خلالها عبر مجموعات منظمة إلى الأسوار ومنها إلى داخل المدينة. تمكّنت مجموعة الأسوار من احتلال برجين من أبراج الجزيرة، فيما تقدّمت المجموعة المخترقة تحت حماية مجموعة الأبراج إلى الداخل عبر الثغرة، وتوجّهت مباشرة إلى القصر الملكي فحاصرته وداهمته. في هذه الأثناء تقدّمت السفن الفينيقيّة باتجاه موانئ المدينة. تمكنت سفن الصيدونيين والجبيليين والأرواديين من فتح المرفأ الجنوبي، بينما هاجمت سفن القبارصة المرفأ الشمالي فتدفَّق المقاتلون المقدونيّون إلى الداخل. ما إنّ ضعف جهاز الدفاع، حتّى شكّلت الأبراج الملاصقة للأسوار جسور عبور لآلاف المقاتلين المقدونيين إلى داخل المدينة.

سقطت صور من الناحية العسكرية إلّا أنّ أهلها لم يستسلموا، بل واجهوا آلة القتل المقدونيّة ببسالة قلّ نظيرها عبر التاريخ. لقد اتّخذ أغلبية الصوريين قرار المقاومة حتّى الرمق الأخير. انتشر جنود المدينة أمام المنازل وبين المهاجمين، يقاومون ويقاتلون حتّى الموت فلا يقضون دون أن ينتقموا من الغزاة، فيما صعد من لا يملك منهم سلاحًا إلى سطوح المنازل واستلّوا حجارة وصخورًا رموا بها الأعداء في أثناء مرورهم في الأزقة. احتمى عدد من الشيوخ والنساء والأطفال في هيكل ملكرت، وأغلق عدد آخر منهم أبواب منازلهم بعد أن احتموا بداخلها منتظرين مصيرهم، بينما التجأ آخرون إلى السفن الفينيقيّة الرابضة في المرفأ الجنوبي. على الرغم من مشاركة هذه السفن في الحرب إلى جانب الإسكندر، إلّا أنّ صلات القربى التي تربطهم بأبناء صور حرّكت ضمائرهم أخيرًا فدفعتهم إلى نجدة إخوتهم ولو سرًّا.

أمر الإسكندر بقتل السكان جميعًا باستثناء من يلجأ منهم إلى معابد المدينة. جاب المنادون الشوارع يعلنون ذلك مرارًا لكنّ أحدًا من المدافعين لم يرضخ، فحصلت مجازر أدّت إلى مقتل ثمانية آلاف صوريّ بحسب المصدر اليوناني. وبعدما تعب المقدونيون من القتل قاموا بصلب ألفي مقاتل صوري على الشاطئ، كما وتمّ بيع ثلاثين ألفًا من الناجين كعبيد. مشى الإسكندر على الدماء متوجّهًا إلى هيكل ملكرت وقدّم الأضحية فيه أمام جنده وملك صور والهيئة الإداريّة، الذين أجبرهم على الحضور للاحتفال بالنصر. كانت السفن التي شاركت بالقتال مزيّنة بالأعلام والأنوار وتتهادى في هذه الأثناء أمام الجزيرة في مشهد مهيب، كما وتم تنظيم مباريات رياضية وسباقات بالمشاعل أمام هيكل ملكرت خلال هذه الاحتفالات. كان فرح الإسكندر عارمًا، فالكابوس الذي كاد أن يقضي على أحلامه قد انتهى[14]. فهو قادر الآن على متابعة زحفه إلى مصر ومنها إلى فارس وغيرها ليسطّر اسمه كواحد من أعظم القادة العسكريين في التاريخ وكواحد من مجرمي الحرب بمفهومنا المعاصر.

 

الخاتمة

في نهاية البحث لا بد لنا من استقاء العبر من معركة حصار صور التي راح ضحيتها عشرات آلاف الجنود أثناء دفاعهم عن موطنهم. لقد قاومت صور ولفترة سبعة أشهر واحدًا من أعظم الجيوش التي عرفها التاريخ، وكادت أن تهزمه. إنّ الشواهد على ملاحم الشجاعة الّتي سطّرها الصوريّون وصلت إلينا من خلال المؤرِّخين المقدونيّين أنفسهم ما يسبغ عليها كثيرًا من المصداقية. قد تختلف النظرة إلى ما فعل الصوريّون وفقًا لاختلاف الزمان والمكان، فيرى البعض أنّ خيار الخضوع للإسكندر الذي اتّخذته باقي المدن الفينيقيّة كان من الممكن أن يوفّر على صور الدمار الّذي حلّ بها. على كلّ حال، مهما اختلفت وجهات النظر، يبقى ثابتًـا أنّ أهل صور بذلوا أنفسهم من أجل مدينتهم. من المهم أن نذكر أيضًا أن دعم صيدا وجبيل وأرواد للإسكندر أدى إلى قلب ميزان القوى لصالحه. إنّ تحليل هذا الموقف يجب ألّا يكون من خلال إسقاط عاموديّ للحاضر على الماضي. وبالتالي، فإنّ مقاربة الأحداث لا يمكن أن تتمّ بفصلها عن خلفيّتها التاريخيّة والجغرافيّة؛ على الرغم من ذلك، يمكننا القول أنّ تشرذم الإخوة نتيجة إعلائهم لمصالحهم الضيّقة أدّى إلى تدمير صور.

لا بد لنا من التأكيد أيضًا أنّ معركة صور تعتبر مصدرًا مهمًا لا بل نادرًا يمكن الارتكاز عليه في محاولة فهم التاريخ العسكري للفينيقيين. لقد اشتهر هذا الشعب ببراعته في التجارة والعمارة والإبحار وباختراعه الأبجديّة، لكنّنا لم نعرف الكثير عن قدراته العسكريّة. لذا، فإنّ أحداث هذه المعركة تعتبر كنزًا من المعلومات في التاريخ العسكري. نذكر أيضًا أنّ المعلومات الواردة في هذا البحث قد تصلح لتشكيل نواة لدراسة أكبر وأشمل تُلقي المزيد من الضوء على تاريخ الفينيقيين العسكري. نأمل أيضًا أن يسهم هذا البحث في التوعيّة على أهميّة دراسة التاريخ لفهم الحاضر واستقاء العبر. نتمنّى أخيرًا أن تساعد هذه الدراسة ولو جزئيًا في التنبيه على ضرورة الحفاظ على المواقع الأثريّة في لبنان باعتبارها شاهدًا على الأحداث الغابرة.

 

المراجع

•  هارولد لامب، الإسكندر المقدوني، ترجمة: عبد الجبار المطلبي ومحمد ناصر الصانع، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، بغداد، نيويورك، 1965.

•  متوديوس زهيلاتي، الإسكندر الكبير، دار طلاس، الطبعة الأولى، دمشق، 1999.

•  قيس الجنابي، الإسكندر المقدوني ومشروعه العالمي في بابل، مجلة مركز بابل للدراسات الإنسانية، المجلّد 5، العدد 1، 2015.

•  رؤوف سلامة، أعلام ومشاهير: الإسكندر الكبير، دار المستقبل، الطبعة الأولى، بيروت، 1985.

 

•  Arrian, The Campaigns of Alexander, Penguin Books, London, 1971.

•  Clausewitz, On War, Campbell Publishers Ltd, London, 1993.

•  DeVries, Siege of Tyre, 332 BC, In Battles that Changed Warfare 1457 BC – AD 1991, 28-37, Amber, London, 2008.

•  Jidejian, Tyre through the Ages, Dar el-Mashreq Publishers, Beirut, 1969.

•  Plutarque, La vie des hommes, Didier, Paris ,1844.

 

[1]-     تقع مقدونيا في الزاوية الشمالية الشرقية لشبه الجزيرة اليونانية وعلى الرغم من أنّ بعض اليونانيين القدماء كانوا يعتبرون أنّ حدود بلادهم الشمالية تقع عند جبال الأولمب أي أنّها لا تمتد لتشمل مقدونيا إلّا أنّ الباحثين يتفقون اليوم على اعتبار المقدونيين جزءًا من الشعوب اليونانية أو الهلينية.

[2]-     هارولد لامب، الإسكندر المقدوني، ترجمة: عبد الجبار المطلبي ومحمد ناصر الصانع، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، بغداد، نيويورك، 1965، ص 15.

[3]-     متوديوس زهيلاتي، الإسكندر الكبير، دار طلاس، الطبعة الأولى، دمشق، 1999، ص 12.

[4]-     متوديوس زهيلاتي، الإسكندر الكبير، دار طلاس، الطبعة الأولى، دمشق، 1999، ص 52.

[5]-     قيس الجنابي، الإسكندر المقدوني ومشروعه العالمي في بابل، مجلة مركز بابل للدراسات الإنسانية، المجلّد 5، العدد 1، 2015، ص 211.

[6]-     Jidejian, N., Tyre through the Ages, Dar el-Mashreq Publishers, Beirut, 1969, p.39

[7]-     متوديوس زهيلاتي، الإسكندر الكبير، دار طلاس، الطبعة الأولى، دمشق، 1999، ص 57.

[8]-     Clausewitz, Carl von, On War, David, Campbell Publishers Ltd, London, 1993, p:120

[9]-     Arrian, The Campaigns of Alexander, Penguin Books, London, 1971, p.124

[10]-    DeVries, Kelly. “Siege of Tyre, 332 BC.” In Battles that Changed Warfare 1457 BC – AD 1991, 28-37, Amber, London, 2008, p:30

[11]-    اسم لبنان كان يطلق على الجبال المشرفة على الساحل الشرقيّ للبحر الأبيض المتوسط وقد ذكر لبنان للمرة الأولى في التاريخ في الألفيّة الثالثة قبل الميلاد حيث قصده البطل الأسطوريّ غلغامش باحثًا عن الخلود في جبال الأرز. الأمر نفسه فعله المصريون الذين استعملوا خشب الأرز في بناء الأهرامات وفي تصنيع مراكب الشمس الفرعونية.

[12]-    Arrian, The Campaigns of Alexander, Penguin Books, London, 1971, p. 124

[13]-    رؤوف سلامة، أعلام ومشاهير: الإسكندر الكبير، دار المستقبل، الطبعة الأولى، بيروت، 1985، ص 57.

[14]-    Plutarque, La vie des hommes, Didier, Paris ,1844, p.291

The siege and storming of Tyre by Alexander the Great in 332 B.C.
Alexander became king of Macedonia in 336 BC, he submitted Greece then undertook the conquest of Asia Minor. At Issos, he defeated the persian army and urged it to retreat to the Euphrates. The Persians, however, continued to master the Mediterranean through the phoenician fleets. To deprive Persia of its naval bases in Phoenicia, Alexander launched a military campaign on the levantine coast. He seized, without much effort, Byblos and Sidon. Arriving in front of Tyre, he expressed his willingness to offer a sacrifice in the intramural temple of this city. This attitude seems to be like a subterfuge to occupy Tyre. The Tyrians, aware of the intentions of Alexander, declined his demand by proclaiming that no foreigner can enter the fortified island. Thus, Alexander decided to seize the city by force, a project that he put into execution by building a 800 meters mole to connect the island to the continent.
Tyre was indeed an island that was 800 meters away from the coast. It was surrounded by massive fortifications and it had two ports that housed a large fleet. Construction work on the mole began in January 332 BC. The building materials were brought from the mainland while the woods came from the mountain of Lebanon. To hinder the project of Alexander, the tyrian archers embarked on ships and started attacking the Macedonians building the mole. The latters protected themselves by wearing cuirasses made of animal skins and by building two wooden towers of observation. The Tyrians also filled a ship with flammable substances, burned it and sent it to the mole to burn the towers and damage the construction machineries. They continued to attack the mole trying to demolish it and succeeded at the end to destroy a part of it.
Trying not to be discouraged, Alexander gave the order to his soldiers to rebuild a wider mole. The Macedonian leader, however, became convinced that it is impossible to defeat Tyre without managing to undertake a double assault on it from both the land and the sea. He then assembled the ships of Byblos, Arwad, Sidon and Cyprus and started a naval siege of the city. Meanwhile the construction of the new mole was completed which encouraged Alexander to launch his main offensive in the month of August. The siege machines were placed on ships at the sea and on the floor of the mole, against the walls of Tyre. Those machines began to strike the walls of Tyre to demolish them.
The Macedonians finally managed to make a breach in the southern fortifications of the island through which they entered and dominated the city. Most Tyrians continued to fight heroically until the last breath. The Macedonians took revenge by savagely slaughtering 8000 Tyrians and selling 30000 others in slavery. The battle of the siege of Tyre ended with Alexander's triumph, but it never ceased to be a Tyrian epic of heroism, bravery and sacrifice and a witness to the love of the homeland.

Le siège et la prise de Tyr par Alexandre le Grand en 332 av. J.-C.

Alexandre devient roi de Macédoine en 336 av. J.-C. Il soumet la Grèce, puis entreprend la conquête de l’Asie Mineure. À Issos, il refoule l’armée perse qui se retire jusqu’à l’Euphrate. Les Perses continuèrent cependant à maitriser la Méditerranée à travers les flottes phéniciennes. Pour les priver de leurs bases navales en Phénicie, Alexandre entreprend une campagne militaire sur la côte levantine. Il s'empare, sans effort d’Arwad, de Byblos et de Sidon. En arrivant devant Tyr, il exprime sa volonté d’offrir un sacrifice dans le temple intra-muros de la ville. Ce souhait n’était qu’un subterfuge pour occuper la ville. Les Tyriens, conscients des intentions d’Alexandre, déclinent sa demande en proclamant qu’aucun étranger ne pourra pénétrer dans l’île fortifiée. Ainsi, Alexandre décida de s'emparer de la ville par la force, un projet qu’il mit en exécution en construisant une digue de 800 mètres de long pour relier l'île au continent.
Tyr se constituait en effet d’une île qui se trouvait à 800 mètres de la côte. Elle était entourée par des fortifications massives et elle possédait deux ports qui abritaient une importante flotte. Les travaux de construction de la digue commencent en janvier 332 av. J.-C. Les pierres de construction provenaient de la ville continentale de Tyr et le bois de la montagne du Liban. Pour entraver le projet d’Alexandre, les archers tyriens montent au bord des navires légers et attaquent les Macédoniens qui construisent la digue. Ces derniers se protègent en portant des cuirasses en peaux d’animaux et en construisant deux tours de siège en bois. Les Tyriens remplissent un navire de substances inflammables, l’incendient et l’envoient jusqu'à la digue pour brûler les tours et endommager les machines de construction. Ils continuent à attaquer la digue en essayant de la démolir et réussissent à la transformer en un tas de décombres.
Alexandre ne se laisse pas se décourager et donne l’ordre de reconstruire une digue plus large. Le chef macédonien fut cependant convaincu qu’il est impossible de vaincre Tyr qu’à l'issue d'un double assaut venant à la fois de la terre et de la mer. Il rassemble alors les navires de Byblos, d’Arwad, de Sidon et de Chypre et cerna Tyr par la mer. Entre temps la construction de la nouvelle digue fut achevée ce qui encourage Alexandre à lancer sa principale offensive au mois d’août. Les machines de siège se placent sur des trirèmes à la mer et sur le sol de la digue, contre les murs de Tyr et se mettent à frapper ces murs pour les démolir.
Les Macédoniens réussissent enfin à effectuer une brèche dans les fortifications sud de l’île à travers laquelle ils s’emparent des tours et affluent à l’intérieur de la ville. La plupart des Tyriens continuent à combattre héroïquement jusqu’au dernier souffle. Les Macédoniens se vengeaient en massacrant sauvagement 8000 Tyriens et en vendant en esclavage 30000 autre. La bataille du siège du Tyr s’est achevée donc par le triomphe d’Alexandre mais elle n’a jamais cessé d’être une épopée tyrienne d’héroïsme, de bravoure et de sacrifice et un témoin de l’amour de la patrie jusqu’à la mort en martyr.