رحلة في الانسان

ضغوط العمل ما هي أسبابها وآثارها وما هو دور المسؤولين في معالجتها؟
إعداد: غريس فرح

منذ عقود، وتحديداً مع بداية العولمة وما واكبها من تغيّرات في مفاهيم العمل وأساليبه ومتطلباته المتزايدة، تصدرت عبارة «ضغوط العمل» قاموس اللغة العالمية المعاصرة، وأصبحت المتهمة الأولى بالمسؤولية عن مجمل ما يعانيه العاملون في مختلف القطاعات على الصعيدين الصحي والنفسي، إضافة إلى ما ينجم عن هذه المعاناة من تدن في مستوى العمل والانتاج.
هذا الواقع كان محور دراسات قام بها اختصاصيون بعلم النفس والمجتمع، لكشف الستار عن مسبّبات الضغوط وانعكاساتها على الموظفين والمؤسسات على حد سواء.
فكيف يُعرّف الاختصاصيون هذه الظاهرة، وبماذا ينصحون لتجنّب سلبياتها؟

 

المؤشرات الخارجية

ضغط العمل بالمفهوم العلمي هو تفاعل بين الدوافع والمنبّهات الموجودة في البيئة الخارجية، وبين الاستجابة الفردية لها بأشكال تحدّدها معالم الطباع والشخصية. وهذا يعني أن مستوى الشعور بضغوط العمل وانعكاساتها، يتفاوت من شخص إلى آخر وذلك بحسب كفاءته وطبيعته وموقعه في المؤسسة. وحسب رأي العالم النفسي الألماني كارل ألبرخت، الذي أطلق على عصر العولمة اسم «عصر الضغط»، فإن شكل التفاعل المشار إليه بين المؤثرات الخارجية والاستجابة الداخلية لها، يعتبر مسؤولاً أساسياً عن حجم الإحساس بحدة الضغوط، وذلك من منطلق التغيـير الذي يحدثـه في السلوك والأداء الوظيفي.

 

الطباع والشخصية

يمكن القول ان الإحساس بوطأة ضغط العمل لا ينبع من ثقل المؤثرات الخارجية، كعدد ساعات العمل، وتراكم المهام اليومية فحسب، بل تدخل في صياغته وتضخيمه أو الحد من وطأته سمات الشخصية الفردية ومنها، الكفاءة، ومستوى الطموح، والمقدرة على تحمّل المسؤولية، بالإضافة إلى قوة أو ضعف الحوافـز والمرونة في تقبّل التغيير وإقامة التواصل مع الغير. وهذا يؤكد بوضوح على أن الشخص الطموح والقادر على تحمّل المسؤولية، لا يشعر بوطأة ضغط العمل بالقدر الذي يتأثر به الشخص القلق وغير الواثق من قدراته المهنية. ويميز الاختصاصيون بين المنفتحين الذين يحاولون التعاون مع العاملين معهم، وبين الانطوائيين الذين يفضلون العمل بمفردهم.

 

الحياة الخاصة والمؤثرات الخارجية

تدخل حيثيات الحياة الخاصة كالمرض والمشاكل العائلية ومنها الطلاق، والأحداث المحزنة، كعوامل ضاغطة تضعف من تحمّل العاملين لانعكاسات مؤثرات الضغوط الخارجية، وبالتالي مقدرتهم على مواجهتها.
بالإضافة إلى ساعات الدوام وتراكم المهام اليومية وانعكاساتها على العاملين، تعتبر سياسة المؤسسات وأنظمتها واستراتيجياتها في مقدمة المؤثرات الخارجية المسؤولة عن زيادة المعاناة من ضغوط العمل وتأثيراتها السلبية.
فالدراسات التي أجريت في غير مؤسسة عالمية، أثبتت أن أنظمة الرقابة الصارمة والمترافقة مع التعامل غير العادل مع الموظفين، وخصوصاً لجهة زيادة الأجور، والتصنيف والتقييم، هي في مقدمة مسببات ضغوط العمل، وبالتالي معاناة الموظفين الصحية والنفسية، وانعكاساتها على الإنتاج وأهداف المؤسسات.

 

موقع الفرد في المؤسسة

أظهرت الدراسات أن تقسيم العمل داخل المؤسسة يعتبر أحد العوامل الأساسية المـؤثـــرة فـي حجم الإحساس بالضغوط. وهذا يحدّده حسب رأي الاختصاصيين، موقع الموظف وشخصيته وطريقة تعاطيه مع متطلبات موقعه.
فمثلاً، المدراء الذين يعتبرون مسؤولين عن نجاح المؤسسة أو فشلها، وعن اتخاذ القرارات الحاسمة وخصوصاً المتعلقة بالأهداف المستقبلية، يعانون من ضغوط العمل بحسب مؤهلاتهم ومقدرتهم على ضبط الأمور والتعامل مع التغيرات في الأوقات الصعبة.
أما موظفو المراكز الوسطى، فتنبع معاناتهم من الصراعات القائمة في ما بينهم من أجل البروز والحصول على رضى الرئيس، وبالتالي مواقع ورواتب أفضل. من هنا، فإن شعورهم بوطأة الضغط يتفاوت بحسب نجاحهم في تحقيق رغباتهم وأهدافهم.
وبالنسبة إلى صغار الموظفين، فيعتقد الباحثون أن شعورهم بوطأة ضغط العمل، ينبع من مدى احساسهم بالغبن، أو عدم توازن المسؤولين الملقاة على عاتقهم، بالإضافة إلى التمييز في تقييمهم بسبب انحياز المشرفين أو عدم كفاءتهم.
واللافت أن صغار الموظفين قد يعانون من عدم مشاركتهم بالمسؤولية والإنتاج، الأمر الذي يشعرهم بالنقص والملل وعدم الجدوى. وقد يعانون أيضاً من الصراعات الداخلية نتيجة محاولاتهم للبروز أو النجاح باتمام مهامهم بأشكال تتماشى مع توقعات رؤسائهم لقدراتهم الفردية.

 

حلول وتوصيات

من هذا المنطلق، وباعتبار أن هذه وسواها من العوامل المتفاعلة مع الشخصية والظروف، تتسبّب بالضغوط وبتأثيراتها المتناقضة، فقد وضع اختصاصيو علم النفس جملة حلول ونصائح موجهة إلى المسؤولين في المؤسسات العامة والخاصة، للأخذ بالاعتبار بعض المؤثرات الخارجية والداخلية الهامة، وبالتالي التخفيف من سلبيات تأثير الضغوط في بيئة العمل، وصولاً إلى تفعيل الإنتاج، وتحقيق الأهداف. وهنا أهم هذه الحلول:
* وضع هيكلية عمل تتناسب وقدرات كل موظف في مركز عمله، حتى لا يتعارض الأداء مع التوقعات المنتظرة، ويتسبب بمعاناة الموظفين من الضغوط.
* إحلال العدالة لجهة تصنيف الموظفين وتوزيع العمل، وتحديد الرواتب والأجور.
* تقيـيم الموظفين ضمن أسس منطقـية وعادلة لضـمان عدم الانحياز وراء العواطـف الشخصية، أو أخـذ التأثـيرات الخارجية بعين الاعتبار.
* من المعروف أن الموظف ينتظر مردوداً مادياً ومعنوياً من جراء عمله، لذا لا يحق للمسؤول أن يبخل عليه بالإطراء والتشجيع، بهدف التخفيف من وطأة شعوره بضغط العمل.
* اضـفاء روح التعاون علـى أجـواء العمل، وعدم تعزيز الميل إلى البـروز عنـد البعض على حساب البعض الآخر.
* أخذ معاناة الموظفين ومشاكلهم الخاصة بعين الاعتبار والمشاركة في حلّها، الأمر الذي يعزز العمل الجماعي ويخفف من وطأة الضغوط.
* تعزيز موقع «إدارة الموظـفين» أو أي جهاز إداري آخر تنحصر صلاحياتـه بالتعامـل مع الأفراد والاطـلاع على مشاكلهم ومشاعرهم الدفينة وفي مقدمتها الشعور بالغبن، أو التمييز. والمعروف أن المؤسسات العصرية تحرص على توظيف اختصاصيين بعلـم النفس في إدارة الموظفـين من أجل المساعـدة على حل المشاكل الناجمة من تفاعل مؤثرات العـمل مع الشخصية، وتجنب تأثيـراتها السلبية على الإنتاج.