متاحف من بلادي

متحف الأمير فيصل مجيد أرسلان في عاليه
إعداد: جان دارك أبي ياغي

مقتنيات ولوحات وأسلحة قديمة... والسجلّ الأرسلاني

 

في يوم المتاحف العالمي العام 2015، إنضمّ متحف الأمير فيصل مجيد أرسلان إلى قائمة المتاحف الخاصة، ليحكي جزءًا من تاريخ لبنان السياسي- الاجتماعي. وقد جاءت هذه الخطوة تنفيذًا لرغبة الأمير فيصل الذي كان يصرّ على أنّ «ما حقّقه اللبنانيون هو ملك للبنان».ووفاء من زوجته الأميرة حياة أرسلان لتراثه وتراث أسرته، تحوّل قصره إلى متحف.

 

نذر نفسه لنهضة وطنه
هو الأمير فيصل أرسلان سليل عائلة أسهمت في تأسيس الكيان اللبناني، وفي استعادته أجزاء كانت قد سلخت عنه بموجب نظام المتصرفية. تميّز بالوفاء والصدق ونقاوة الروح. قاوم التدخلات الخارجية وأدان سياسة المحاور. آمن بالتعددية والحوار بين أبناء الوطن، وبأنّ العدالة وسيادة القانون أساس لدولة المواطنة.
في العام 1983، أُلبس عباءة الزعامة بعد وفاة والده الأمير مجيد، وكان ذلك بمبادرة من مشايخ خلوات البياضة، الذين يعتبرون المرجعية الروحية الأعلى للطائفة الدرزية.

 

شاهد على التاريخ
يؤرّخ متحف الأمير فيصل أرسلان لحقبة من تاريخ لبنان طُبعت بالجهاد الوطني الصادق والوفاء لقيم الاستقلال والحرية. مقتنيات القصر تشهد لتضحيات هذا البيت في سبيل الوطن، وتضحيات رعيل الاستقلال، من الأمير مجيد إلى بشاره الخوري ورياض الصلح وصبري حماده... شيّد القصر الأمير توفيق أرسلان (1870 -1931) في العام 1895. وقد كانت لهذا الأمير أدوار سياسية وإدارية عديدة، آخرها اختياره عضوًا في البرلمان اللبناني. وهو كان مناضلًا ضدّ الحكم العثماني، ومن ثمّ الانتداب الفرنسي، مؤمنًا بلبنان الكيان الواحد والمستقل.
في 15 نيسان 1915، وكان يومها قائمقام عاليه، تمّ نفيُه إلى الأناضول بسبب انخراطه في العمل من أجل استقلال لبنان. ودّع الأمير عائلته في عاليه وزرع أرزة... أصبحت تُعرف بـ «أرزة لبنان الكبير».
كان الأمير توفيق في عِداد البعثة الثالثة التي سافرت إلى باريس في العام 1920 للمشاركة في مؤتمر الصلح، وللمطالبة بلبنان الكبير، وقد نجحت في تحقيق هدفها.

 

نسّم علينا الهوا...
لاختيار موقع القصر قصة طريفة، ترويها لنا الأميرة حياة أرسلان، فتقول: يوم كان الأمير توفيق قائمقام مدينة عاليه، وفيما هو في طريقه إلى القائمقامية شعر بالتعب، فترجّل عن فرسه ووقف في هذا الموقع لأخذ قسط من الراحة، فهبّ نسيم عليل جعله يُعجب بهذه المنطقة وبمناظرها الخلاّبة.
وتضيف: هذا المتحف هو خير شاهد على أنّ للسياسة المتحضّرة مكانتها الوطنية. هذه السياسة انتهجها المير مجيد ومن بعده فيصل، وكان فيها من الحسّ الوطني ما جعلها تبدو أقرب إلى الصلاة منها إلى السياسة.
لقد نجح الأمير مجيد ومن بعده فيصل في تمزيق «الفرمانات» العثمانية وما أعقبها من تيارات هبّت على البلاد، وعملًا بوحي المصلحة الوطنية اللبنانية. «لم يصطفّ الأمير فيصل أو يتموضع، بل كان ثابتًا في مواقفه». مثل والده بطل الاستقلال مجيد أرسلان الذي جهد لجعل لبنان وطنًا وليس ساحة...

 

محطات مضيئة عاشها القصر
شكّل القصر مَقرًّا لشخصيات أبرزها الجنرال البريطاني إدوارد سبيرز الذي ساعد حركة الاستقلاليين من العام 1942 ولغاية العام 1945. وإبان الحرب العالمية الثانية، حفر الجنود البريطانيون دهليزًا تحت أرض الحديقة يصل إلى الجهة المقابلة من جنوب طريق الشام ليتحاشوا قصف الطيران المعادي. وقد أُغلق مدخلا الدهليز بعد الحرب مباشرة لدواعٍ أمنية.
كما سكن القصر الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني في العام 1962 عندما كان وليّ عهد دولة قطر، كذلك أقام فيه الأمير عبدالله يوم كان ولي عهد المملكة المغربية، وأثناء التحضيرات لاقترانه بالأميرة لمياء رياض الصلح. وكان الرئيس رياض الصلح يصطاف في عاليه ويعتبر القصر بيته الثاني، ويتردد إليه بشكل دائم. أما الرئيس الياس سركيس، فكان يعتبر شرفة القصر المطلّة على المتن الأجمل في لبنان.

 

جولة في القصر- المتحف
تتوزع الموجودات في القصر - المتحف في خمس فئات رئيسة: مقتنيات تاريخية، لوحات من القرنين التاسع عشر والعشرين، السجل الأرسلاني الذي يعود لأكثر من 700 عام، أسلحة وفخاريات قديمة، وأسلحة استعملت ضد إسرائيل إبان معركة المالكية.
نبدأ من مدخل المتحف حيث نجد الفرمان العثماني الموجّه إلى الأمير توفيق يوم كان قائمقام عاليه، وقد جاء فيه: «بمحل مأموريتكم يوجد أديان ومذاهب مختلفة، فلا تستثني ولا تفرّق أبدا لأحد على الآخر من هؤلاء وأجري المساواة الكاملة، وبامكانك استثناء الفقراء فقط، وهذا الاستثناء لا يكون منافي الشرع والقانون بل معناه المساعدة والمعاونة حيث أن تبقى بلا استثناءهم وديعة اللى لي».
كما نجد معاملة إدارية بأختام رسمية تنص على بيع أراض وأملاك وشرائها. وفي زاوية أخرى مِشجَب (خشبة لتعليق الثياب) فرنسيّ الصنع يعود إلى حقبة نابليون بونابرت جلبه الأمير توفيق من باريس يوم إعلان دولة لبنان الكبير، وخزانة إيطالية تعود إلى القرن التاسع عشر.
ردهة استقبال الرجال، كانت المحطة الثانية في جولتنا، وفيها: السجل الأرسلاني الذي كتب بالخط القرآني منذ أكثر من 700 سنة، وهو منسوخ عن السجل الأساسيّ الذي كان مكتوبًا بالخط الكوفيّ، ويعود تاريخه إلى أكثر من 1300 سنة. أسلحة تزيّن حائطيّ الغرفة تعود إلى أوائل القرون الميلادية، وأخرى استُعملت في الحرب ضدّ إسرائيل. كما نجد رشاش لواء حطين ورشاش لواء المأهول، والمدافع التي كسبها الأمير مجيد أرسلان يوم كان قائدًا للجيش اللبناني العام 1948 في حربه ضدّ الجيش الإسرائيلي في المالكية. ويزيّن إحدى زوايا الغرفة مدفع المالكية، مدفع الناصرة، قبعة الهاغانا، والأسلحة التي استعملت في معركة الاستقلال في بشامون، إلى الأغراض الشخصية للأمير فيصل أرسلان (تضم مجموعة كبيرة من مسابح التسلية).
صحن الدار الذي يتكوّن من أربعة أقسام مفتوحة على بعضها البعض، يشكّل مكانًا للقاء العائلة التي كانت تسكن الغرف المحيطة به. كما كان يُستخدم لاستقبال النساء من الزوّار. وقد احتلّت الجدران مجموعة لوحات تعود إلى القرنين التاسع عشر والعشرين، ومن بينها لوحة زيتية من مدرسة جان بروغل الذي اشتهر في القرن الثامن عشر برسم الأزهار على الخشب. وفي واجهات خشبية، مجموعة فخاريات تعود إلى عصور ما قبل الميلاد، ومجموعة أخرى من الزجاجيات الملونة تعود إلى القرن التاسع عشر.
المحطة ما قبل الأخيرة كانت في غرفة السفرة، على حائطها سجّادة من القرن الثامن عشر، قدّمها شاه إيران محمد رضا بهلوي بمناسبة زيارته للأمير مجيد أرسلان، أما الصحون الخزفية الفرنسية التي تعود إلى القرن نفسه فقد جلبها الأمير توفيق من باريس، وفي الغرفة نفسها شمعدانات فضيّة جميلة يدوية الصنع.
آخر المطاف كان في ردهة تابعة لغرفة السفرة وفيها: مغاسل جلبها أيضًا الأمير توفيق من باريس، سجادة كازاخستانية وصندوق شامي وجرن ماء ورديّ اللون، وكلها تعود إلى القرن التاسع عشر.

 

أبواب القصر مفتوحة
اليوم، تفتح أميرة القصر أبواب المتحف للزوار وللتلامذة ولطلاب التاريخ الذين يتوافدون إليه ليتمتّعوا بجمال الفنّ الهندسي في العمارة، ويستمعوا إلى تاريخ الشخصيات التي مرّت بهذا القصر، ولمتابعة حصص في التاريخ تسكن في حناياه العابقة بالمجد والعنفوان.
تقول الأميرة حياة أرسلان، كلّما احتفلنا بالاستقلال، نتذكّر رجالاته الكبار... ونشعر بالاطمئنان لأن استقلال لبنان هو في عهدة جيشنا.
نشير إلى أنّ أبواب المتحف تُفتح لاستقبال الناس أربعة أيام في السنة: يوم المتاحف العالمي، الذي يُصادف في شهر أيار، يوم لبنان الكبير في أيلول، ذكرى وفاة الأمير فيصل في 17 كانون الأول، وعيد الإستقلال. وتتمّ الزيارات الخاصة وفق اتصالات مُسبقة، «ولا رسوم دخول... طالما أنا على قيد الحياة» تقول الأميرة حياة أرسلان، معربة عن أملها بمستقبل لبنان الذي يحميه جيش وفيّ متفانٍ في أداء واجبه الوطني.