تحت الضوء

في أسباب الحروب ودوافعها
Prepared By:العميد جهاد الحسن

على الرغم من سعي المؤسسات الدولية الدؤوب لتجنّب الحروب وحلّ المشاكل العالمية سلميًا، تزداد قدرة الحكومات على تعبئة شعوبها للحرب، كما تزداد وبشكل مستمر تكنولوجيا العنف الجماعي، فتبدو الحروب وكأنّها ظاهرة ملازمة للمجتمع الإنساني. فهل هي فعلًا كذلك؟ ولماذا تنشب الحروب؟ وإذا أدركنا أسبابها هل نكون في وضع أفضل للحيلولة دون وقوعها؟

 

ما هي الحرب؟
لا يمكن النظر إلى أي شكل من أشكال العنف الجماعي باعتباره حربًا. وقد عرّف كل من ديفيد سنجر وملفين سمول الحرب بأنها صراع بين طرفين، كل منهما دولة واحدة على الأقل، ويتجاوز عدد القتلى الناجم عنه الألف شخص.

 

لمن القرار؟
وفق بعض الآراء، فإن أسباب الحروب تعود إلى طبيعة الإنسان بوجه عام، وإلى أشخاص معيّنين بشكل خاص. وعلى هذا الأساس يشار إلى العدوان كخاصية فردية أكـثــر مــن كونه خاصية جماعية شاملة، وهو يتعلق بصنّاع القــرار الذيــن يمسكــون بزمام القدرة على الاختيار بين الحرب والسلام.
تقع الحروب إجمالًا بين الــدول، وهذه الأخيرة قد تصنّف كدول عدوانية أو غير عدوانية قياسًا إلــى الخصائــص الشخصية والسيكولوجية لزعمائها. لكن ما تقدّم لا يعني أن الرئيس هو من يصنع قرار الحرب أو السلم. فهو يظل واحدًا من صنّاع هذا القرار، خصوصًا في الدول التي تسودها التعددية الحزبية والسياسية، والتي غالبًا ما تتبنى الحلول الوسط، وهي حلول سياسية بحكم طبيعتها.
مع ذلك، لا يستبعد أن يكون صنع القرار عملية شخصية فردية أكثر منها جماعية. ولا شك في أن لِسمات الزعيم السيكولوجية أهميتها. مثلًا بوسعنا التأكيد أن المجموعات التي يرأسها رؤساء تنفيذيون استبداديون ومتسلطون، لن تعير اهتمامًا لاتجاهات السياسة البيروقراطية. ومن جهة أخرى، فإن المجموعات التي يتزعمها زعماء لا سلطويون، ومنفتحون، هي الأقرب إلى اتباع عمليات سياسية تشاورية.

 

ما دور طبيعة الدولة؟
يركّز العديد من خبراء العلاقات الدولية على طبيعة الدولة باعتبارها المحرّك الأول للحرب، ويعتبر هؤلاء أن اختلاف الشخصية والتكوين السيكولوجي للزعماء مسألة عديمة الأهمية نسبيًا، بالنظر إلى أن صفات الدولة هي التي تملي على صناع القرار طريقة التصرف.
ومن بين أكثر الأفكار إثارة للاهتمام في أبحاث الحرب، الاعتقاد بعدم المساواة بين الدول في الميل للعنف. فبعض الأمم تبدو أكثر استعدادًا من غيرها لاتباع السلوك العدواني، وقد استنتج كل من ديفيــد سنجر وملفين سمول من دراستهما لحــروب القــرنين التاســع عشــر والعشرين، «أن معظم الحروب المتلاحقة كانت من صنع فئة صغيرة من الأمم»، فما الذي يجعل بعض الدول أكثر ميلًا للحرب من الدول الأخرى؟

 

الديمقراطية والاستبداد
ثمة نظرية تقسم الدول إلى فئتين: دول خيّرة ومسالمة ودول عدوانية شرّيرة. والشائع هو الزعم بأن الدول الديمقراطية هي الدول المسالمة، بينما تتسم الدول الاستبدادية بالعدوانية. هذه النظرية ليبرالية أساسًا، وهي تعتبر أن البشرية مسالمة، وأن الرغبة في السلام تنعكس في سياسات الحكومات وبخاصة عندما تتصف بالديمقراطية، فالحكومات الديمقراطية تمثّل مواطنيها المسالمين. في المقابل فإنّ رجال السلطة في البلدان غير الديمقراطية لا يتقيّدون بالإرادة الشعبية ولا بالقيود الدستورية. وعلى هذا الأساس يمكن ترجيح القول بأنّ زعماء الحكومات الأوتوقراطية هم الذين يشعلون الحروب، فهل هناك دليل يثبت صحة هذه النظرية؟
بنتيجة الأبحاث التي قام بها، توصّل كوينس رايت في كتابه «دراسة في الحرب»، إلى أن الديمقراطيات قد تورّطت إلى درجة قصوى في الحرب، علمًا أن ذلك لا يرجع فقط إلى كونها أرغمت على الدفاع عن نفسها ضد هجوم الآخرين.
وتوصّل كل من سنجر وسمول إلى نتائج مماثلــة في دراستهما التي شملت الحروب بين 1861 و1965، إذ اكتشفا عدم وجود اختلاف بين الدول الديمقراطية والدول اللاديمقراطية، لا من ناحيــة الاشتــراك فــي الحــرب ولا من ناحية العمل على إشعالها. وقد اتضح لهما أن الدول الديمقراطية تورطت في استعمال القوة مثل الدول اللاديمقراطية.
وهكذا يتبين لنا وهن الارتباط بين نوعية النظام السياسي الذي تتبعه الدولة وبين نزوعها إلى الحرب.

 

النظام الاقتصادي
لقد وجد الاقتصادي البريطاني جون هوبسون وهو من المؤمنين بالديمقراطية، نفسه مضطرًا للحديث عن سبب تورّط البلدان الديمقراطية – خصوصًا بلده – في الإمبريالية، المتمثلة بالتوسع العدواني سعيًا إلى إنشاء مستعمرات. ووفق رأيه، المشكلة غير موجودة في طبيعة النظام السياسي ولكنّها قائمة في طبيعة النظام الاقتصادي.
لقد جاءت الإمبريالية، وبحسب رأي هوبسون، نتيجة الأعراض غير الصحية والمزمنة التي عانتها البلدان الرأسمالية بسبب الإفراط في الإنتاج مقابل انخفاض مستوى الاستهلاك والكساد الموسمي. لذلك كان لا بد للرأسمالية من الاعتماد على الأسواق الخارجية الأجنبية لبيع فائض إنتاجها، وذلك في موازاة السيطرة على الأراضي الأجنبية لتأمين المواد الخام الضرورية لاستمرار إنتاج مصانعها.
ويرى هوبسون أن السياسة الإمبريالية كانت وبشكل رئيس مصدر نفع لقلة من الجماعات القوية ماليًا والنافذة سياسيًا من كبار المصدّرين وأصحاب المصارف الدولية وتجّار السلاح. إنهم أولئك الذين وصفهم الرئيس الأميركي أيزنهاور، بعد عشرين سنة من موت هوبسون، بأنهم رابطة المستفيدين من الصناعات الحربية. وقد تمكّن هؤلاء من دفع الحكومات إلى اتباع سياسة استعمارية لتحقيق مصالحهم الخاصة.

 

بين الرأسمالية والأمبريالية
تتنافس البلدان الرأسمالية للسيطرة على الأسواق والمواد الخام ومصادر العمالة الرخيصة والقواعد العسكرية البرية والبحرية، فيؤدي الصراع الاقتصادي في نهاية المطاف إلى وقوع الصراع العسكري. والحرب العالمية الأولى مثال واضح على ذلك. فنهوض ألمانيا الصناعية وسعيها للحصول على أسواق عالمية لمنتجاتها، أدى إلى تصادمها مع الدول الأوروبية الرأسمالية الأخرى مثل فرنسا وبريطانيا. ولكن هل أن الدول التي تتبع سياسة إمبريالية عدوانية هي فقط دول رأسمالية؟
في الحقيقة، ليست الرأسمالية شرطًا ضروريًا للإمبريالية. فالدول الاشتراكية أظهرت أيضًا ميولًا عدوانية. وقد شهد منتصف القرن العشرين غزو الاتحاد السوفياتي السابق (روسيا حاليًا) بلدان البلطيق وفنلندا (1939)، والمجر (1956) وتشيكوسلوفاكيا السابقة (1968) وأفغانستان (1979). وهاجمت الصين التيبت (1956) والهند (1962) وفييتنام (1990) كما هاجمت فييتنام كمبوديا (1975). ومن بين 61 صراعًا دوليًا في الفترة الواقعة بين العامين 1945 و1967، شاركت الأنظمة الاشتراكية في 15 صراعًا، أي ما نسبته 25 بالمئة تقريبًا، على الرغم من أن الدول التي تتبع الأنظمة الاقتصادية الاشتراكية هي فقط 15 بالمئة من مجمل دول العالم.

 

قوة الدولة كمعيار لشن الحروب
ثمة وجهة نظر طالما رددها الواقعيون، ومفادها أنّ الدول الكبيرة القوية (بغض النظر عن أنظمتها السياسية أو الاقتصادية) تميل إلى شنّ الحروب أكثر من الدول الصغيرة، نظرًا إلى مقدرتها على تحقيق النصر، ولكونها الأكثر تعرّضًا للتورط في المسائل الدولية، بسبب مصالحها وتحالفاتها والتزاماتها.
وهناك مقدار كبير من الأدلة التي تنـزع إلى تأييد هذه الفكرة. فلقد اكتشف سنجر وسمول في معرض دراستهما الحروب بين 1815 و1965، أنّ البلدان الأكبر والأقوى، هي الأكثر ميلًا للحرب. ذلك أن تسعين بالمائة من خسائر المعارك في تلك الفترة أصابت بلدانًا مثل بريطانيا وفرنسا وروسيا وتركيا والصين وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأميركية واليابان والنمسا والمجر، والتي دارت فيها معارك استمرت معظم سنوات الحرب.
كذلك اكتشف ستيورات بريمر، وجود علاقة قوية اتخذت شكلًا مستقيمًا بين درجة القوة وبين التورط في الحرب. فلقد تورّطت الدول ذات الإمكانات الأكبر في غالبية الحروب، وكانت لها المبادرة في إشعال عدد منها يفوق العدد الذي أشعلته الدول الأقل قوة.

 

تبديل المسار
يبدو أن الدول الكبرى، وبعد الثمن الهائل الذي دفعته خلال الحرب العالمية الثانية (أكثر من خمسين مليون ضحية)، قد سلكت مسارًا جديدًا. فهي ما تزال شديدة التورط في الحرب، لكنها نادرًا ما تتواجه في ما بينها بشكل مباشر. فمن أصل 18 حربًا وقعت بين 1945 و1980، لم تتورط غير دولة واحدة (كوريا) في حرب تواجهت فيها القوى الكبرى.
فاستراتيجية الدول القوية الكبرى الحالية، وكما أثبتت دراسة الحروب في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تقوم على مبدأ تجنّب التصادم في ما بينها، لكنها تستبيح كلها القوانين الدولية وسيادة الدول الصغرى، وتتمتع بحرية التدخل المطلقة دفاعًا عن مصالحها الاقتصادية ونفوذها العالمي، متسلّحة بحق الفيتو الذي تتمتع به في مجلس الأمن الدولي.