في مواجهة العدوان

«جنوبًا دُر»... الجيش في أرضه التي انتظرته طويلًا
إعداد: نينا عقل خليل

في مطلع التسعينيات تلقّى الجيش أمر «جنوبًا دُر»، فلبى الأمر وتوجّه إلى أرضٍ انتظرت طويلًا عودة الدولة إليها. توجّهت وحدات الجيش إلى الجنوب مزودة أوامر تقضي بالتصدي للعدوان الإسرائيلي بالإمكانات المتوافرة، ودعم صمود الجنوبيين في أرضهم، ومد يد العون لهم من خلال المساعدة في توفير الخدمات الأساسية، وتدبير شؤون الحياة اليومية.
أقام بين أهله في مدن وبلدات وقرى عانت ما عانته من وحشية العدوان وظلم الاحتلال وأطماعه، ووظّف طاقاته كلها في تنفيذ المهمة المقدسة. فمن التصدي لاعتداءات العدو الذي كان يحتل قسمًا كبيرًا من الجنوب ويعمل على زرع الفتنة وبث التفرقة بين أهله، إلى مساعدة الأهالي عبر شق الطرقات الزراعية وتوفير المياه وسواها من الخدمات، بات وجوده حاميًا للصمود ومصدرًا للأمل بزوال الكابوس وبزوغ فجر الحرية.
فجر ما لبث أن أطل في 24 أيار 2000.
في تموز 2006، عاد العدو ليثأر لاندحاره وانسحابه، فشنّ على لبنان حربًا مجنونة وزنّره بالنار من جنوبه إلى شماله. أطلق العنان لمختلف آلات التدمير التي يمتلكها، استخدمت قواه البرية والبحرية والجوية أقصى ما يمكن من حديد ونار. صبّت جام غضبها على المدنيين العُزّل، حوّلت المباني إلى ركام رقد تحته مئات المواطنين، دمّرت الجسور والطرقات والمنشآت... لكنّها وبعد 33 يومًا من الإجرام والوحشية، هُزمت أبشع هزيمة، فسكتت نيرانها، وعلت صيحات جنودها الخائبين وصرخات أهالي قتلاها: ماذا فعلتم؟
وانتصر لبنان...

 

في مطلع العام 1992 نفّذت إسرائيل عدوانًا في منطقة تقع ضمن نطاق عمل قوات الطوارئ الدولية. الجيش اللبناني الذي لم يكن قد مضى على انتشاره جنوبًا وقت طويل، تصدّى للاعتداء وثبت في مواقعه مؤكدًا للجنوبيين وللعالم أنّه لن يتراجع، وهذا ما أكدته التطورات اللاحقة.

 

1993: العدوان الفتنة
في 25/7/1993، شنّت إسرائيل اعتداءً مروّعًا على لبنان استمرّ عدة أيام، واستعملت فيه مختلف أسلحتها البرية والبحرية والجوية، محاولة من خلاله الضغط على الحكومة اللبنانية لوقف عمل المقاومة التي استمرّت مع استمرار الاحتلال. صبّت إسرائيل خلال العدوان- الفتنة نار حقدها على القرى الجنوبية، وكانت اعتداءاتها تتكرر وتتصاعد مع كل جولة محادثات في إطار مفاوضات السلام التي جرت آنذاك.
تصدّى الجيش للعدو وتعرّضت مراكزه للقصف الجوي والمدفعي، لكنّه لم يتأخر في القيام بواجبه متسلحًا بحقه في الدفاع عن أرضه، وبعزم رجاله وشجاعتهم. سقط للجيش اللبناني في هذا الاعتداء شهيدان وعدد من الجرحى، الدماء الزكية وثّقت ارتباطه بالأرض التي ارتوت من دماء أبطاله منذ نشأة الكيان المعادي، وعزّزت صمود المواطنين رغم الخسائر الكبيرة في أرواحهم وممتلكاتهم.
على خطٍ موازٍ، هرع الجيش إلى القرى مقدّمًا المساعدة لأهلها مخفّفًا عنهم وطأة الآثار التي خلّفها العدوان. فوفّر لهم المأوى المؤقت والمساعدات الغذائية والطبية مفشلًا سعي العدو إلى إجبارهم على النزوح من أرضهم.


1996 «عناقيد الغضب»: «قانا» وأخواتها
في نيسان 1996، نفّذت إسرائيل عملية «عناقيد الغضب» ضد لبنان، مرتكبة مجازر بالجملة توزّعت في قانا والمنصوري والنبطية. تسبّبت هذه العملية بسقوط 175 شهيدًا (بينهم أكثر من مئة امرأة وطفل قتلوا داخل مركز القوات الدولية في قانا وأربعة عسكريين من قوات الطوارئ الدولية) إضافة إلى 300 جريح. أما حصة الجيش من الشهادة فكانت أربعة عسكريين، ومن الجرحى 13 عسكريًا بينهم ضابطان. أدى هذا العدوان إلى نزوح 45 ألف عائلة، بالإضافة إلى أضرار مادية جسيمة في المنشآت والمرافق العامة والممتلكات.
العملية التي وظّف فيها العدو مختلف أسلحة الدمار والحقد، انتهت بتوقيع «تفاهم نيسان»، تلك الوثيقة التي بدأت معها مرحلة جديدة تُوّجت باندحار العدو وانسحابه مذلولًا في العام 2000.
عاش لبنان خلال عدوان «عناقيد الغضب» حالة استنفار وطني تجلّت في تكاتف اللبنانيين لمواجهته بموقفٍ واحد بدأ معه العد العكسـي لزوال الاحتلال. وقد تصدّت وحدات الجيش المنتشرة في الجنوب للعدوان الإسرائيلي بمختلف الوسائل والإمكانات المتوافرة لديها، على الرغم من استهداف مراكزها بصورةٍ مباشرة، وكان لصمودها وتشبُّثها بمواقعها الأثر الكبير في تعزيز صمود المواطنين وعودة النازحين منهم فور انتهاء العملية.
عمل الجيش على إغاثة المواطنين من خلال المساعدات الحياتية، وأمّنت فرقه الطبّية معاينة المصابين وإسعافهم، ووفّرت المساعدة لمستشفيات المنطقة التي عانت ضغطًا هائلًا.
في موازاة ذلك، أعادت الفرق الهندسية والوحدات العسكرية المنتشرة ربط المناطق بعضها ببعض بعد أن استهدف العدوان في ما استهدفه البنية التحتية وشبكة الطرقات في الجنوب والبقاع الغربي بقسطٍ وافر من الوحشية، فضرب الطريق الدولية التي تصل النبطية بصيدا، مرورًا بالمصيلح، وحاول عزل الجنوب إذ قصفت بوارجه الحربية الأوتوستراد عند مدخل صيدا الشمالي حيث جسر الأولي. استحدث الجيش معابر بديلة كالجسر الذي يصل بقسطا جنوبًا بعلما شمالًا، وأزال آثار الاعتداء عن الطرقات معيدًا فتحها أمام حركة السير.

 

1997: دماء الشهادة تحبط إنزالًا للعدو
في 5/ 9 /1997، أحبط الجيش والأهالي عملية إنزال للعدو الإسرائيلي في قضاء الزهراني قرب بلدة انصاريه، إذ رُصدت المجموعة العدوة والمروحيات التي تؤمّن لها التغطية، فتمّ قصفها وإطلاق قذائف مضيئة لإرباكها، ما أسفر عن إصابة طوافة ووقوع قتلى وجرحى في مجموعة الإنزال التي انسحبت تاركة أشلاء القتلى والكثير من القذائف والأجسام المشبوهة.
بعد أسبوع، عادت إسرائيل لتثأر من فشل عدوانها فتصدّى لها الجيش وكانت مواجهة استشهد خلالها الملازم أول جواد عازار وستة عسكريين ومواطنة. يومها تصدّت مضادات الجيش لمروحيات العدو التي ردّت بقصف ملالة للجيش، فأُصيب على متنها جنديان. تصدّت ملالة له في المركز المستهدف للعدو وآزرتها مراكز أخرى للجيش في عربصاليم وجرجوع، وأعاقت عمل الطوافات العدوة، فأطلقت إحداها صاروخًا على مركز عربصاليم حيث استشهد الرامي وجُرح الملقّم، وأعقب ذلك استشهاد الملازم أول عازار وبعض العسكريين الذين حاولوا إنقاذ رفيقهم.

 

1999- 2000: الضرب في العمق فشل في تحقيق أهدافه والعدو انسحب مندحرًا
خلال العامين 1999 و2000، نفّذت إسرائيل اعتداءات واسعة مستهدفة بشكلٍ خاص محطات الكهرباء (الجمهور، بعلبك ودير نبوح) والجسور وسواها من منشآت حيوية. جابه لبنان الرسمي والشعبي الاعتداءات بموقفٍ واحد متمسّكًا بحق مقاومة الاحتلال حتى زواله، فكان انسحاب إسرائيل من جزين في العام 1999 ومن الجنوب والبقاع الغربي (باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقسم الشمالي من قرية الغجر) في 24 أيار 2000. شهد ذلك التاريخ اندحار العدو في مشهد تاريخي لم يعرفه النزاع العربي- الإسرائيلي الطويل. انسحب العدو ذليلًا من أرضنا بعد أن رفض على مدى عقود تنفيذ القرار 425 وسواه من القرارات الدولية. وبات يوم 25 أيار عيدًا للمقاومة والتحرير.
ميدانيًا، اتُّخذت سلسلة تدابير فورية لمعالجة آثار العدوان وإعادة التيار الكهربائي بأسرع ما يمكن، وكان للجيش اللبناني فضل كبير في تسريع العمل وتسهيله من خلال مبادرته إلى إزالة الركام والأنقاض، وإعادة بناء ما تهدم وإصلاح ما تضرر واستبدال المحولات بأخرى.
فوج الأشغال المستقل الذي كُلّف مهمات رفع الأنقاض وإزالة الركام بدأ العمل فورًا بالتعاون مع اللواء اللوجستي ومديرية الهندسة ووحدات من لواء المشاة الخامس في بعلبك وأخرى من لواء المشاة العاشر في الشمال. وباندفاعٍ لا مثيل له، نفّذ العسكريون ما طُلب منهم في أيام قليلة فرفعوا ما خلّفه العدو من أنقاض وركام، وتجاوز الوطن ظلمة التدمير واستعاد نور الكهرباء بسرعةٍ قياسية.

 

عدوان تموز 2006: وانتصر لبنان
مرة جديدة دفع العدو الإسرائيلي نيران أسلحته المدمرة باتجاه لبنان، في حرب مفتوحة بدأت من الجنوب، امتدت إلى المناطق كافة، فلفّت لبنان من البر والبحر والجو بزنارٍ من الحمم في عملية تدمير منهجي لبناه التحتية ومنشآته، وترويع لأهله.
العدوان الذي استهدف، إلى المدنيين، مواقع للجيش خلّف الشهداء والجرحى بالمئات، أما البنى التحتية ومنشآت الخدمات فأصيبت بدمارٍ هائل.
وتحت وطأة الغارات العنيفة والقصف من البر والبحر والجو، نزح المواطنون من المناطق المستهدفة بمئات الألوف، إلّا أنّ نيران العدو لاحقت قوافل النازحين واستهدفتها بالصواريخ موقعة الضحايا بالجملة، مبيدة عائلات بأكملها في مجازر بربرية. واستهدفت نيران العدو المنشآت المدنية الحيوية من كهرباء وخزانات وقود وجسور أساسية تربط الجنوب بباقي المناطق. وطاول القصف مطار الرئيس الشهيد رفيق الحريري مستهدفًا مدرّجاته، ليتصاعد العدوان ويمتد إلى مزيد من المناطق والمرافق: طائرات تقصف الضاحية الجنوبية، بوارج تحاصر الشاطئ اللبناني وتمنع دخول السفن إليه أو خروجها منه.
المطارات العسكرية في رياق والقليعات وحامات كانت هدفًا للعدوان، وتتالت الأهداف: مراكز للجيش في صيدا وبيروت وجونية وجبيل والبترون تقصفها النيران المعادية، إضافة إلى أخرى في مرفأي بيروت وطرابلس، وفوج الأشغال المستقل الذي دفع ثمنًا غاليًا، فقد انتقم العدو من زنود العسكريين التي عملت على تأمين جسور وطرقات بدلًا من تلك التي دمّرها.
واكب تصاعد الاعتداءات توجيه العدو الإنذارات إلى المواطنين في الجنوب لإخلاء مناطق بأكملها من السكان. وفيما اختار البعض البقاء في بيوتهم محاولين الاحتماء بما تيسر من ملاجئ أو منشآت لمؤسساتٍ إنسانية، نزح البعض الآخر. وفي الحالتين لم توفر النيران المحتمين في أماكن ينبغي تحييدها عن الأعمال الحربية ولا النازحين الهاربين من جحيم الاعتداءات، فاستشهد المواطنون في مجازر جماعية معظم ضحاياها أطفال ونساء.
العدوان الذي استهدف ثكنات ومواقع للجيش، أدى إلى سقوط عدد كبير من الشهداء والجرحى، وارتكب مجزرة بحق عسكريين يقتصر عتادهم على المستلزمات الضرورية لأعمال الإنشاء والصيانة والترميم في فوج الأشغال المستقل حيث استشهد ليل 17- 18 تموز أحد عشر عسكريًا من بينهم أربعة ضباط وأُصيب العشرات بجروحٍ مختلفة فضلًا عن الأضرار المادية الجسيمة في العتاد والآليات والمنشآت.
تصدّت مضادات الجيش الأرضية للطائرات المغيرة في المناطق المستهدفة، وتمّ تعزيز المراكز العسكرية للتصدي لأي محاولة إنزال أو اختراق معادية، كما عملت الوحدات العسكرية على استحداث معابر بديلة في المناطق التي استهدفها الاعتداء تسهيلًا لتنقل المواطنين.
كذلك، شكلت قيادة الجيش لجان إغاثة عملت بالتعاون مع الهيئة العليا للإغاثة والوزارات المعنية، على استلام المساعدات الإنسانية وتوزيعها بأقصى سرعة ممكنة.
أدّى العدوان الإسرائيلي إلى سقوط نحو 1400 شهيد بينهم 47 شهيدًا للجيش اللبناني، ونحو 4000 جريح بينهم عشرات الجرحى من عسكريي الجيش. لكنّه انتهى بعد 33 يومًا بهزيمةٍ موجعة للعدو ما زالت آثارها تلاحقه إلى اليوم. فقد تحولت تلال أرضنا وأوديتها إلى مقابر لأحدث دبابات العدو وأسلحته، ومُنيت وحدات النخبة فيه بخسائر لم يستطع استيعابها، وفشلت كل وسائل الدمار التي استخدمها في ترويض الإرادة اللبنانية.
بانتهاء العدوان وصدور القرار 1701، عاد الجيش إلى حدوده الجنوبية بعد غياب تجاوز الثلاثة عقود وأكثر من الزمن، مواكبًا عودة النازحين وإعادة إعمار قراهم.
عملت الوحدات في المنطقة المحددة لانتشارها بين نهر الليطاني والخط الأزرق (بلغت مساحتها 1101 كلم وضمّت 247 قرية) على إقامة الجسور وردم الحفر على الطرقات وإنشاء المعابر المؤقتة.
وهو يعمل منذ ذلك الحين على حفظ الأمن والاستقرار في الجنوب بالتعاون مع قوات الأمم المتحدة تنفيذًا للقرار 1701.

 

الشهادة على الحدود
في الثـالـث من آب 2010، اعتـدت إسرائيــل مجــددًا على لبنان في انتهاك سافر لقرار مجلس الأمن رقم 1701، حيث أقدمت دوريّة تابعة لجيشها على تجاوز الخط التقني عند الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلّة في خراج بلدة عديسة، وضمن أراضٍ متحفظ عليها لبنانيًا، وقد حاول جنودها إزالة شجرة من داخل الأراضي اللبنانية بينما كانوا يحاولون تركيب كاميرات مراقبة على الحدود بين عديسة ومستعمرة مسكافعام.
وعلى الرغم من تــدخّل قوات الأمم المتحدة المؤقّتــة في لبنان لمنعها، تابعت الدوريّة تجاوزها، فتصدّت لهــا قوة من الجيش اللبناني بالأسلحة الفرديــة وقذائف الــ«آر. بي. جي»، وحصل اشتبــاك استعملت فيه القوات الإسرائيلية الأسلحــة الرشاشة وقذائف الدبابات، مستهدفة مراكز الجيش ومنازل المدنيين في المكان، مما أدى إلى سقوط شهيدين للجيش اللبناني هما الرقيب روبير الياس العشّي، والرقيب عبداللـه محمد الطفيلي، والمراسل الصحفي في جريدة الأخبار عسـاف أبو رحّال.
عناصر الجيش اللبناني الذين حقّقوا إصابات مباشرة في صفوف العدو، قاموا بواجبهم المشرّف في التصدي للعدوان الإسرائيلي بمسؤوليّة وشجاعة، مؤكّدين حق لبنان في الدفاع عن سيادته وإن كان المعتدى عليه مجرّد شجرة.