كتب

أسعد قطان في «عن جبال في الغيم»: هكذا نتعرف إلى إسهام كل من الأخوين رحباني في إرثهما الرائع

«عن جبال في الغيم» يكتب الباحث أسعد قطان مقدمًا «مطلّات دراسية على إرث الأخوين رحباني وفيروز»، في كتاب صدر عن «الدار العربية للعلوم ناشرون».
يشكّل الكتاب مرجعًا قيّمًا للباحثين في الفن الرحباني - الفيروزي، وهو يتضمّن خمسة بحوث تعالج عدة جوانب من إنتاج عاصي ومنصور الرحباني، بما في ذلك المسرحيات التي وُضعت لفيروز.
أول هذه البحوث مطالعة في كتاب المستشرقة الألمانية إينيس فايزيش عن الأخوين رحباني وفيروز بعنوان «بين الرمز الملتبس والحلم المنكسر»، والذي يرسم الإطار التاريخي والثقافي لأعمال الأخوين الفيروزية. يلي ذلك دراسة في مفهوم الزمن في أعمال الأخوين رحباني. أما البحث الثالث فهو الأكثر تشويقًا، إذ إنّه يحاول الإجابة عن سؤال ملحّ ما زال يُطرح منذ عشرات السنوات. مَن لَحّن هذه الأغنية، أهو عاصي أم منصور؟ ومن كتب تلك الأغنية... يحاول هذا البحث الذي اقتضى إنجازه خمس سنوات أن يقدم مفتاحًا معرفيًا يتيح التمييز بين ما لحّنه كلٌ من الأخوين، متخذًا القصائد الفيروزية مادة يركز على الجانب التلحيني منها. أما الجانب التأليفي الذي لا يقل أهمية فيتمّ تناوله في ملحق قصير.
ويتناول البحث الرابع إشكالية القائد والحاكم من زاوية علاقتهما بالشعب في بعض مسرحيات الأخوين رحباني.أمّا البحث الخامس والأخير فهو عبارة عن قراءة تحليلية في مسرحية «المحطة» كنصٍ أدبي نُشر في حوليات كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة البلمند.
والآن، ما هو المفتاح المعرفي الذي اعتمده الباحث ليجيب عن سؤال: من لحّن قصائد الأخوين رحباني، ومن ألّفها؟
في البداية، يؤكد قطان مشروعية السؤال من منطلق علمي معرفي، ويعرض لشهاداتٍ من الياس سحاب وزياد الرحباني ونزار مروّة وآخرين، من شأنها إلقاء بعض الضوء على الإشكالية. وهو يستخلص من شهادة نزار مروّة مثلًا أنّ عاصي تميز بقدرته على التوزيع الموسيقي للمقامات الشرقية، ما أخرجها من منطق التخت الشرقي، الذي تلعب فيه الآلات غير الإيقاعية كلها الميلوديا ذاتها.
تستند مقاربة قطان إلى منهجية بسيطة تقوم على دراسة المواصفات التلحينية والتوزيعية التي تعزوها المصادر الموثوقة إلى عاصي أو منصور الرحباني، والتفتيش عن هذه المواصفات في القصائد التي اعتُمدت نموذجًا، وبالتالي اكتشاف هوية ملحنها.
ووفق هذه المنهجية يكتشف الباحث مثلًا اتجاه عاصي إلى الانخراط في إطار القصيدة العربية الكلاسيكية عبر الارتكاز على إيقاع «الوحدة» الرباعي، وقدرته على استنباط الميلوديا من عدد قليل نسبيًا من الدرجات اللحنية، والميل إلى التقليل من الوثبات الواسعة. أما في ما يخصّ التوزيع، فهو يستخدم تقنية النقر بالإصبع على آلة الكمان، وصنوج آلة الرق بشكلٍ لافت، وذلك للتعبير عن أفكار موسيقية مبتكرة... ويورد في هذا الإطار قصيدة «لقاء الأمس» وأعمالاً أخرى.
في المقابل، يظهر ميل منصور إلى الأجواء السمفونية كما في «راجعون»، وإلى الوثبات الكبيرة وغير المألوفة أحيانًا بين درجات السلم الموسيقي، على حساب التدرج الدؤوب الذي يجتهد في الاستفادة من كل محطة ممكنة...
وعلى أساس ما تقدم، يميل الباحث إلى اعتبار «إلى راعية» من تلحين عاصي، وكذلك «وطني سماؤك» و«سوف أحيا» و«رد يا أسمر» فضلًا عن «أندلسيات» الخمسينيات، ومثيلات لها في المراحل اللاحقة (أرجعي يا ألف ليلة، شهرزاد، يا حبيبي كلما هب الهوا، بروحي تلك الأرض...، وبعض الدمشقيات مثل «سائليني» و«شام يا ذا الصيف».
أما قصائد «أحب دمشق»، «بالغار كللت»، «حملتُ بيروت» و «يا شام عاد الصيف»، فيقول الباحث إنّه يمكن عزو تلحينها إلى منصور، إذ يظهر فيها بوضوح حضور الجوق والافتتاح الإيقاعي مقابل ضحالة إيقاع «الوحدة». تشمل هذه الاستنتاجات أيضًا عدة قصائد مهداة إلى دول أو مدن عربية مثل: «أردن أهل العزم» و«الكويت»، و«قصيدة الإمارات»، التي تحمل بوضوحٍ بصمات منصور الرحباني، فيما تحمل «غنيت مكة» بصمات عاصي.
أخيرًا، «عن جبال في الغيم»، كتاب قيّم يقدم إلى أبحاثه التحليلية في إرث الأخوين رحباني وفيروز، منهجية علمية تتيح التعرف إلى إسهام كل من الأخوين في هذا الإرث الكبير والرائع.