ثقافة وفنون

أنطوان غطاس كرم
إعداد: وفيق غريزي

شخصية أدبية تتمرأى في حدقتي فنان

أمضى القسط الأكبر من حياته الأدبية كطالب للأمثل، في جلاء مع نفسه، يكتب ثم يتجاوز ما كتبه أو هو يكتب ويتريث في نشر الكثير مما يكتب ريثما يوقن أن الحياة قد أسلست لقلمه قيادها كما يشتهي، فتجسدت في كلماته، وتمَّ له من خلال تلك الكلمات أن يعانق الفن الأروع.
"آمن الإيمان كله بأن الحياة هي الفن الأروع، حتى ليبدو ذلك الإيمان وكأنه المفتاح الأمثل إلى دراسة شخصية هذا المبدع الشاعر الناقد وأعماله جميعاً، وإلى فهمها وتذوقها. لقد إتخذ في مرهف حسّه، من كمال الحياة معياراً للروعة الفنية إن في أدبه أو في آداب منقوديه فأقحم نفسه كناقد وكأديب وشاعر في المسلك الأوعر". إنه انطوان غطاس كرم.


بين فجر ومساء

ولد انطوان غطاس كرم في 12 نيسان العام 1919 في جزين. حاز على شهادة الليسانس من الجامعة الأميركية في بيروت، عام 1945، ثم شهادة الماجستير من الجامعة نفسها عام 1947، بعد ذلك انتقل إلى جامعة السوربون في باريس، ونال شهادة دكتوراه دولة في الأدب عام 1959.
خلال هذه الفترة تولى مراكز تربوية عدّة، منها: تسلّمه رئاسة الدائرة العربية من الانترناشيونال كولدج في بيروت من العام 1952 إلى العام 1959، وعُيِّن عميداً لكلية الآداب في الجامعة اللبنانية من العام 1960 حتى العام 1963، ثم أستاذاً زائراً في كلية كولومبيا في الولايات المتحدة من عام 1967 الى العام 1968، ثم رئيساً للقسم العربي في الجامعة الأميركية في بيروت من العام 1971 الى العام 1974، بعدها شغل منصب أستاذ زائر في جامعة بركلي في الولايات المتحدة الأميركية من عام 1974 إلى عام 1975، وحاز على جائزة الدولة اللبنانية في الأدب عام 1974، كما عمل أستاذاً لمادة الأدب والفكر في الجامعة الأميركية والجامعة اللبنانية والجامعة الأميركية اللبنانية. من مؤسسي جمعية أصدقاء الكتاب، وعضو في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، وحامل وسام الأرز من رتبة ضابط. له العديد من الكتب النقدية والشعرية، وعدد من المؤلفات المترجمة لشعراء غربيين. توفي في بيروت في 12حزيران العام 1979، وهو في أوج عطائه الفكري والأدبي والشعري. من أبرز أعماله، الرمزية والأدب العربي الحديث، في الأدب العربي الحديث والمعاصر، كتاب عبدالله، وأبعاد.

 

الرمزية عند الغرب

إختلف مفهوم الناس لما يسمّى رمزية، فتضاربت آراؤهم بحسب المظاهر التي بها تجلّت، واختلطت عليهم الحقيقة حتى ذهبوا في أمر تحديدها مذاهب شتى، واعتبر معظمهم أن كل أدب غامض هو أدب رمزي، وأن الغموض كل أركانه ومجمل شروطه الأساسية. ويؤكد انطوان غطاس كرم، أن هذا الإضطراب حيال إدراك جوهر هذا الأدب إدراكاً صحيحاً لا يرجع إلى عدم الرؤية عند الدارسين فقط، بل هو راجع أيضاً إلى تباين الإشاعات الشعرية عند الرمزيين أنفسهم ويقول: "فبينما يُعنى بودلير بمشكلة العلاقات بين مجالي الكون من ناحية وذاته من ناحية أخرى، وبالانطلاق إلى ما وراء الأشياء المحدودة وفكرة الخير والشر، يتوخى رانبو الصور التي تتداعى في النفس الإنسانية، ويتحد لذلك بكلية الخلق الواحدة مبصراً خلال "الحروف الصوتية" ألواناً ذاتية تشع فيها ومنها، فيستخرج قيم هذه الحروف الملوّنة ويسخرها للأداء. أما ملارمه فاستهدف المطلق في وجهتيه: إدراك العقل الباطن الذي لا يبلغ إلا في حالة الحلم. فيبلغ معرفة الجوهر، جوهر الحياة الداخلية، وإدراك "الفكرة المطلقة المجرّدة" فعمد إلى ترويض اللغة".
فالرمز حسب إعتقاد هذا المبدع هو وسيلة للتعبير عن زوايا غامضة في النفس لا تقوى لغتنا ­ وهي لغة الجوامد ­ أن تعرب عنها.

 

الرمزية في الشعر العربي

يرى انطون غطاس كرم، أن الإتجاه الرمزي لم يبلغ مبلغه في لبنان إلا خلال عهد الإنتداب الفرنسي أي بعد عام 1919، وذلك أن الآداب الفرنسية تعممت وغدت أُسساً من أسس الثقافة، و"توغّل أدباؤنا في إستقصائها، فأحرقوا منها في نفوسهم ما ليس باليسير. ولم ينحصر هذا التأثير في لبنان، فكان لمصر منه نصيب أيضاً، فبعد أن زالت المصالح الفرنسية السياسية في مصر تبقّت المصلحة الثقافية. على أن بوادر هذا الإتجاه لم تظهر قبل عام 1928" كما يقول أنطون غطاس كرم.
ومن أبرز الرمزيين العرب لدى ناقدنا: بشر فارس، توفيق الحكيم، يوسف غصوب، سعيد عقل، وصلاح لبكي.


الشاعر الرؤيوي

يعتبر انطوان غطاس كرم، أن فعل الكشف يأتي نتيجة المزج العضوي بين إكسير القيامة وعطر الدهشة في مراقبة العالم قبل إستعادته. فعبدالله، في كتاب عبدالله، يعي أن أعجوبة القيامة قد تمت، فاهتزت شجرة الطفولة الهاجعة فيه، وعاودته الدهشة البكر، فانكشف العالم، ماضيه مثل حاضره، في حال من التجلي. وحسب رأي أمين ألبرت الريحاني، يبدو عبدالله الشاعر رؤيوياً نابعاً من السمة الشعرية التي حاول كرم أن يسنّ لها قوانين الإبداع الشعري. وقد يكون فعل الكشف فعلاً متوهجاً، فعلاً موضوعياً متسماً بسمة الإبداع. غير أن عملية الإبداع يقول الريحاني: "قد تتميز بالذاتية المطلقة التي تدفع بصاحبها إلى الخروج عن العام والموضوعي والمتوقع بحيث يتم الإنتقال من حال إلى حال، كما جاء على لسان كرم. هذا الإنتقال قد يُخرج الكاتب أو الشاعر من المألوف والمتعارف والمتداول والمعقول الى حد غير المألوف وغير المتعارف واللامتداول وغير المعقول، قد يخرجه من الواقعية إلى ما فوق الواقعية". لو شئنا استجماع إشارات كرم حول فعل الكشف لاختصرناها بمفردتين ومصطلح واحد. "أما المفردتان فهما العلاقات والرؤيا، أي العلاقات غير المنظورة بين الأشياء المؤدية إلى رؤيا تتكوكب من خلالها المعاني غير المتوقعة، ويأتي المصطلح ليفسّر المفردتين بما معناه إعادة تركيب العالم".

 

قصيدة النثر وحكايات الحب

كتاب "أبعاد" هو باكورة أعمال انطوان غطاس كرم، وقد تشكل البذرة الحية لمسيرته الأدبية والنقدية والإبداعية. حيث صدر هذا الكتاب العام 1944، وقد تصدرت الغلاف كلمة "فن" وهي محاولة لتصنيف محتواه في خانة "الفن"، وهو التصنيف الأكثر تحديداً والأعم، لا الشعر، حسب رأي البعض، لأن مصطلحي "قصيدة النثر" و"الشعر المنثور" كانا في تلك الفترة قد ظهرا في استعمال نقاد الأدب، إلا أن إستعمالهما لم يكن قد اتخذ بعد موقعاً ثابتاً لديهم.
في مقدمة الكتاب يرى كرم أن مفهوم الأدب في لبنان لا يختلف عنه في البلدان العربية الأخرى. حيث أن تذوق الأدب فيه، يرتكز على مدرستين فتحهما رجل فرد من لبنان هو جبران خليل جبران. ويشبّه تأثير جبران على مصير الأدب في لبنان بتأثير "غوته" على التيار الرومنتيكي في أوروبا. كذلك فإنه يتطرق إلى الأثر الذي نفحه الأدب الفرنسي في لبنان بحيث أصبح مفهوم الأدب مفهوم الشاعر الأميركي إدغار إلن بو عن طريق فرلين، بودلير ورانبو وجماعة البرناس وبنوع خاص فرلين.
في قراءة معمقة لنصوص أبعاد، نجدها في معظمها حكايات حب شاعرية، لا بل ريفية، تدخل في طياتها تأملات وأفكار قد تتصف بالفلسفية. إلا أن ميزتها الأساسية تقع في لغتها المتينة التي اتخذت مثالها لغة روّاد النهضة الحديثة. وهي لغة آخذة برشاقة التركيب النحوي البلاغي العربي، غير متأثرة بالتراكيب الهجينة التي نتجت لاحقاً بتأثير الترجمات في لغة الإعلام.
يتخذ انطوان غطاس كرم في جميع أعماله الأدبية: النقدية والشعرية، دور المرأة التي هي حسّه المرهف، وقدرته على النفاذ، وثقافته الأصيلة العميقة المتشاسعة، وولاؤه المطعم بالمحبة، وشعريته الحانية على الشجي، ولغته المدهشة في استجابتها لولع صاحبها بالتجسيد والتجسد، وشخصيته البالغة في دماثتها وحرصها حتى في لباسها الشخصي على إختيار الأنيق، لا تمظهراً بل استجابة لالتزام جمالي نابع من داخل. ويقول نديم نعيمه: "انطوان غطاس كرم ليس أديباً أو شخصاً آخر مفارقاً، بل هو الشخص الواحد عينه كما تمرأى في حدقتي فنان وهو منكب على إعادة تمثله ورسمه بكل ما أوتي من فن...".