رحلة في الإنسان

الإنسان بطبعه يميل إلى التواصل مع الآخرين
إعداد: غريس فرح

فما حال الذات التي يجرحها رفضهم؟
من الطبيعي أن تتناقض مشاعرنا أحيانًا مع مشاعر من يسعى إلى اكتساب ودّنا. وهذا يعني أننا قد نخذله بشكل أو بآخر من دون أن نعير الأمر اهتمامًا. لكن من يتابع سير الأمور، يعلم جيدًا أن الكثيرين لا يتقبّلون فكرة الرفض بموضوعية تحفظ لهم ماء الوجه، وتجنّبهم الشعور بالدونية. وهو ما قد يتسبب لهم باضطرابات تختلف حدّتها بحسب استعدادهم الشخصي.
فكيف نتعامل مع الرفض باعتباره حالة اجتماعية طبيعيّة؟ وكيف نقيّم مسببات الحساسية المفرطة تجاهه، ونواجه سلبياتها؟

 

خيبة الأمل
من المعروف أن معظم الأحداث السلبية في حياتنا، ترتبط عمومًا بتناقض مشاعرنا مع مشاعر من يحيط بنا من أهل وأصدقاء وزملاء عمل.
فعندما لا يبدي الشخص الذي نوليه اهتمامنا، الرغبة نفسها في التواصل معنا، نشعر بخيبة قد تزول مع الوقت، أو تترسخ لتنمّي في داخلنا، حساسيّة ضد الرفض.
هذه الحساسيّة، بحسب الاختصاصيين النفسيين، هي حالة اجتماعيّة طبيعية، تنبع من الميل البشري الفطري إلى إقامة الروابط مع الغير. لذا، فعندما نفشل كبشر به، يصبح من الطبيعي أن نشعر بالإحباط، وأن نعاني تأثيراته، وخصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالعلاقات الشخصية الحميمة.

 

«تقدير الذات» هو المقياس الأساسي
حسب الباحث النفسي الأميركي مارك ليري، والذي أجرى في جامعة ديوك الأميركية أبحاثًا في مجال تأثير الرفض على الشخصية، فإنّ تقدير كلّ منّا لذاته في الواقع، المقياس الأساسي لطريقة تعاطيه مع الغير.
ويرى ليري أن تقدير الذات الاجتماعية ينبع عمومًا من قبول الآخرين لنا، وسعيهم للتقرّب منّا بسبل مختلفة. وهو يصف هذا النوع من تقدير الذات بالرادار الضمني، أي الآلية الداخلية التي تتولّى القيام بمسح شامل للبيئة الاجتماعية، وتقييم الذات من خلال كيفية التفاعل معها.
فعندما يرصد هذا الرادار أدنى إشارة تقلّل من شأننا في نظر الغير، يرسل على الفور إشارات دماغيّة تنعكس بشكل مشاعر سلبيّة، في مقدّمها الشعور بالنقص، وبالتالي الإحباط والاكتئاب والعزلة.

 

التواصل الاجتماعي متجذّر في جيناتنا
هذا الواقع الذي يشمل الأجناس البشرية كافّة، يعود إلى جذور نشأتنا على الأرض. فتاريخنا كبشر، قد حضّرنا منذ القدم للعيش في مجموعات بدائية صغيرة، والاعتماد عليها لمواجهة المخاطر. لذا، وحسب هذا المفهوم المبرمج للتواصل الاجتماعي، فإن عدم تقبل الغير لنا، يعتبر في لاوعينا إشارة إنذار تهدد كياننا. ومن هنا ردّات الفعل السلبية تجاه الرفض الاجتماعي أو العلائقي. والمعروف أن ردات الفعل هذه قد تتسع لتشمل – عدا الشعور بالدونية – الغيرة المفرطة من الأشخاص الناجحين إجتماعيًا، والذين يستقطبون اهتمام الغير. وهي مشاعر قد تزيد من تقوقع المعنيين بها، ومن فشلهم على الصعيد الاجتماعي والعلائقي.

 

الخوف من الرفض في المجتمعات الحديثة
من الملاحظ أن الحساسيّة تجاه الرفض تزداد حدّة في المجتمعات الحديثة، وتترافق أحيانًا مع ظهور أمراض نفسية تختلف حدّتها من شخص إلى آخر. وعلى الرغم من اعتراف الباحثين بوجود استعداد وراثي لمعظم هذه الأمراض، إلاّ أنهم لا يستبعدون دور المجتمعات الحديثة في تأجيجها لأسباب مختلفة، منها، التغيرات التي طرأت منذ عقود على طرق التعامل مع الأطفال.
فالأهل والمرّبون على حدٍ سواء أصبحوا يبالغون في تقييم أداء الطفل، وإحاطته بالمديح لأدنى خطوة ناجحة يخطوها. وهو ما يدفعه إلى التركيز الزائد على ذاته وانتظار تقييم الناس له بشكل ايجابي، وإشادتهم بأعماله، وخصوصًا خلال المراحل الأولى للبلوغ. والأهم أنه قد يزيد من حساسيته تجاه انتقاد الغرباء لسلوكه، أو عدم الاهتمام الزائد بوجوده. يجب الإشارة هنا إلى أن المبالغة في تقدير الطفل تتسبّب بعدم شعوره بالاطمئنان. وهذا يعود إلى كونه يمتلك، كسواه، ردارًا داخليًا يعمل على تقييمه.
لذا فإن مجرّد تقييده بصفات لا تتلاءم ومعطياته، يجعله يتساءل ضمنًا: «هل يحبني الناس حقًا؟ وهل أنا مقبول في محيطي الاجتماعي؟»، وهي أسئلة تدفعه مع الوقت إلى الشّك بقدراته والخوف من رفض الناس له.
على كلٍ فإن انتقاد المبالغة في تقييم الطفل، لا يجيز إفساح المجال أمام إهماله أو توبيخه بعنف. فالطفل الذي يواجه لامبالاة الأهل، وخصوصًا خلال سنواته الأولى، ينمو وفي أعماقه أيضًا خوف من الرفض وعدائية تجاه المجتمع. والأمر نفسه ينطبق على الطفل الموبّخ. والأهم أن الإثنين قد يواجهان عجزًا في التأقلم والانصهار في أجواء الدراسة والعمل والحياة الاجتماعية.

 

زوال الروابط الاجتماعية
من جهة ثانية، يوجد سبب رئيس آخر لهذا الشعور المتنامي في المجتمعات الحديثة، وهو تناقص الروابط الاجتماعية أو حتى زوالها. فهذه الروابط التي طغت في الماضي على حياة الأفراد، منحتهم الشعور بالأمان والثقة بالنفس.
اليوم، لم تعد العائلات تعيش في مجتمعات ضيّقة تؤمّن التواصل بين أفرادها، وهو واقع أجبر الكثيرين على إعادة صهر ذواتهم في أطر اجتماعية معقدة. أطر قوامها غرباء يصعب التفاعل معهم أو التقرّب منهم، الأمر الذي ينمي الخوف من الرفض والحسّاسية المفرطة تجاهه.

 

إنّه ألم حقيقي
بيّنت دراسة أجرتها الباحثة الأميركية جيرالدين دوني، أن الخوف من رفض الغير قد يتحوّل إلى ألم حقيقي يعذّب المعنيين به، ويتمثّل بأشكال من الهلع الاجتماعي. وعلى الرغم من أن جهاز الإنسان الدفاعي مصمم، بحسب الباحثين، لتصحيح العلاقات الاجتماعية، الاّ أنه يعجز في بعض الأحيان عن إخفاء الانفعالات العدائية لدى الأشخاص الذين يشعرون بالمهانة لأتفه الأسباب. واللّافت هنا أن الحسّاسين تجاه الرفض لا يتوقفون عن التفكير بحلول تمنحهم المقدرة على المواجهة، الأمر الذي يزيد وضعهم تعقيدًا ويجعل التعايش معهم في غاية الصعوبة.

 

الحلّ: الدعم الاجتماعي والعاطفي
الحلّ لهذه المشكلة لا يبدو ظاهريًا سهل التحقيق. فالذين يعانونها هم على العموم ضحايا تراكمات مزمنة من الأحداث السلبية الكامنة أطيافها في لاوعيهم، مع ذلك يرى الاختصاصيون أن الحلّ يصبح ممكنًا في حال تعرّف المعنيون إلى رواسب مشكلتهم وأبعادها. وهذا يحصل بداية بمساعدة إختصاصيين، أو أشخاص مقربيّن جديرين بالثقة. وهنا ينصح هؤلاء بالتحّلي بالوعي والإدراك الصحيح لإبعاد شبح الخوف الاجتماعي المتجذر في نفوسهم. ومع الزوال التدريجي لهذا الخوف، يصبحون مؤهلين لبناء شبكة صداقات وعلاقات قادرة على مساعدتهم في مختلف مجالات حياتهم. ولا ننسى دور العلاقات العاطفية الناجحة، فالشريك المتفهم والمتجاوب مع المشكلة، قادر على القيام بالمعجزات.