مظلة الأمان

الجيش جاهز في كل زمان ومكان
إعداد: ندين البلعة خيرالله

حرفية جيشنا وبطولاته لا تتجلّى في الملاحم البطولية التي خطّها والمعارك التي انتصر فيها فحسب، بل تنسجها خيوط المهمات الأمنية اليومية المتنوعة التي ينفّذها في الداخل كما على الحدود. فهو أثبت جدارته في التعاطي مع مختلف الملفات الأمنية بحزمٍ وحكمةٍ رغم الأزمات والتعقيدات على الساحة السياسية. وهذا ما تجلّى بوضوحٍ من خلال معالجته جميع التطورات والأحداث الخطرة التي شهدتها البلاد، ومواكبته الاستحقاقات والمناسبات الكبرى، رافعًا مظلة الأمان، حاميًا الجميع.

 

نفّذ الجيش التدابير المشدّدة لتوقيف المخالفات وقطع الطريق على محاولات الفتنة التي تمثّلت بعمليات التجسّس والعمالة للعدوّ، وبالتفجيرات المتنقلة التي حصدت المواطنين الأبرياء، وكادت تنال من الأمن والاستقرار، وتهدّد الاقتصاد وتدفع المواطن إلى فقدان الثقة بمؤسساته، وتنال من الوحدة الوطنية. ووفّر الظروف الأمنية لاستضافة القمم والمؤتمرات والبطولات والمهرجانات واللقاءات... وكان دائمًا الضمانة الثابتة، ومصدر الطمأنينة.  

 

الجهوزية الدائمة
بفعل الثقة بقدرة جيشه على توفير الأجواء الأمنية على الرغم من الظروف الصعبة التي شهدها، استقبل لبنان العديد من القمم والمناسبات التي استضاف خلالها  قادة ومسؤولين في مجالات مختلفة. في آذار 2002، انعقدت في بيروت القمة العربية وسط محاذير أمنية عالية، لذا كانت التدابير الأمنية على مستوى خطورة القرارات التي يمكن أن تصدر عن القمة، وكان الجيش على أهبة الاستعداد لكل السيناريوهات المحتملة، إذ أعدّ خطة أمنية مُحكمة أسفرت عن تأمين سلامة المشاركين وراحتهم.
وبعد ستة أشهر، كان لبنان على موعد مع تظاهرة دولية ثقافية جديدة، تمثّلت في القمة الفرنكوفونية التي حضرها عشرات الرؤساء والزعماء. عملت الأجهزة الأمنية بأقصى درجات التنظيم والدقة والتعاون والتنسيق، فاستنفر لهذا العمل حوالى 8500 ضابط وعسكري ونتج عن عملهم تناغم وتكامل في الأداء مع مستوى عالٍ من الانضباط والمناقبية، ما حدا بعددٍ كبير من رؤساء الدول المشاركة إلى الإشادة بالأداء الأمني المحترف، وبحسن التنظيم ودقّته والرقي في التعامل مع المؤتمرين والإعلاميين، وهذه الإشادة شملت القمّتَين.
 

حماية الممارسة الديمقراطية وتطويق محاولات الشغب
العسكريون جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي اللبناني يعيشون هواجسه، ويعانون الأوضاع المعيشية الصعبة نفسها، لذلك فهم يعتبرون أنّ المواطنين الذين يتجمهرون بغية رفع صوتهم مطالبين بتحسين الأوضاع المعيشية المتردية هم أهل وإخوان وأصدقاء، وعلى هذا الأساس تعاملت قوى الجيش مع المواطنين في مختلف المناطق اللبنانية، بمنتهى المناقبية، فسمحت للمواطنين بإسماع أصواتهم، ومنعت المشاغبين من المس بالأمن والاستقرار.
ومن خلال أدائهم الواعي المتجرّد، وسهرهم وتضحياتهم الجِسام، كان العسكريون يثبتون في كل مرة عمق التزامهم وصلابة عزمهم وتصميمهم على صون الاستقرار والديمقراطية والمؤسسات في آنٍ، ويواجهون الامتحانات الكبيرة وكَيد الفتنة بصدورهم وحكمتهم.

 

مواكبة الانتخابات
لا يحق للعسكري أن يقترع، لكنّه معني بتوفير الأجواء الملائمة للجميع لممارسة هذا الحق. وقد أثبت الجيش من خلال الاستحقاقات الانتخابية، وبإجماع المسؤولين والفعاليات والمواطنين، أنّه حامي الأمن والحرية وحصن الديمقراطية المنيع. فقد كان الجيش اللاعب الأساس في حفظ الأمن خلال الانتخابات البلدية والاختيارية المختلفة التي شهدها لبنان، وأسهمت تدابير الجيش في إشاعة أجواء الاطمئنان والارتياح خلال عمليات الاقتراع في المناطق اللبنانية كافة.
ففي أيار 2004، واكـب الجيش الانتخابات البلدية والاختيارية بتدابـير أمنـية خاصة كانت نتيجتها سير عمليات الاقتراع بشكلٍ طبيعي، رغم الإشكالات التي فرضتها سخونة المعارك في عدة مناطق.
وفي أيار 2005، انطلقت المرحلة الأولى من الانتخابات النيابية في العاصمة بيروت في ظل وجود مراقبة دولية، وكان الجيش كعادته موجودًا في كل منطقة وعلى باب كل مركز، لضمان سلامة سير هذه العملية وخصوصًا أنّ لبنان كان يمر بمرحلةٍ دقيقة جدًا بسبب تداعيات استشهاد الرئيس رفيق الحريري.
في السابع من حزيران 2009، توجّه اللبنانيون إلى صناديق الاقتراع، وفي يوم واحد انتخبوا نواب البرلمان الجديد. خاض الجيش تحدي توفير الأمن في يوم الانتخابات الأطول في تاريخ لبنان، وقد نجح بامتياز.
في أيار 2010، شهدت البلاد إجراء الانتخابات البلدية والاختيارية، ونجح الجيش مرّة جديدة في هذا الاختبار الوطني، وفي تثبيت الثقة الغالية التي أولاها إياه الشعب اللبناني.

 

اغتيال الرئيس رفيق الحريري 2005
كان العام 2005  من أصعب السنوات التي عرفها لبنان، فعلى أثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري في انفجار استهدف موكبه يوم الإثنين 14 شباط 2005، والخسائر التي خلّفها من أرواح وأضرار مادية، أعلنت قيادة الجيش استنفارًا عامًا لجميع الوحدات، كما تمّ رفع الجهوزية القتالية إلى الحد الأقصى، وأوقف العمل بجميع الإجازات وتمّ استدعاء المأذونين. اتخذت القيادة تدابير احترازية في مختلف المناطق للحفاظ على الاستقرار العام، وسيّرت الدوريات في شوارع العاصمة وبعض المناطق، مع إقامة حواجز ونقاط مراقبة، إضافة إلى متابعة دقيقة للأوضاع الأمنية.
شهد لبنان عقب جريمة اغتيال الرئيس الحريري، موجة من التحركات الشعبية التي لم يسبق له أن عرف مثلها في تاريخه. فمن الحشود التي شيّعت الرئيس الشهيد، إلى التظاهرات التي توالت في ما بعد، وتواتر نزول اللبنانيين إلى الشوارع والساحات بمئات الألوف، بالإضافة إلى استمرار التجمعات في ساحة الشهداء قرب ضريح الرئيس الشهيد، وإقامة مسيرات ونشاطات بشكلٍ شبه يومي... كل هذه التحركات الشعبية الضخمة تطلّبت مواكبة وعلى مدى أيام طويلة، فاستدعت تدابيـر استثنائيـة وجهـودًا جبّارة للحفاظ على الاستقرار العام، وضمان عدم الإخلال بالأمن، وفي الوقت عينه إتاحة المجال لجميع المواطنين بممارسـة حقهـم في التعبير عن آرائهم.
كان الجيش المسؤول الأول عن حماية قيم الديموقراطية والحرية والمساواة، وواكب هذه المرحلة الحرجة بأقصى درجات الوعي والمناقبية، مُظهرًا قدرة كبيرة في التعامل مع الظروف الصعبة المستجدة.
ومع امتداد أيادي التخريب والفتنة إلى مناطق تجارية وصناعية وسكنية عبر وضع متفجرات فيها، كثّفت وحدات الجيش جهودها، واتخذت تدابير إضافية. وباشرت لجنة في الجيش بالتنسيق مع الهيئة العليا للإغاثة أعمال الكشف ومسح الأضرار الناتجة عن المتفجرات، وقامت وحدات من فوج الأشغال المستقل بأعمال ترميم وإزالة ركام من الأبنية المتضرّرة.

 

الانسحاب السوري... وأمن الحدود
شهد العام 2005 أيضًا عملية انسحاب القوات العربية السورية من لبنان بمواكبةٍ حثيثة من الجيش اللبناني الذي انتشر في الأماكن التي أخلتها هذه القوات، داعيًا المواطنين أصحاب العقارات التي أُخليت لاستلامها بعد إتمام الإجراءات القانونية.
في موازاة ذلك، كانت المعابر الحدودية تشهد أزمات وانفراجات واكبها الجيش بكل حيثياتها ومراحلها. وفي العام 2007، عدّل الجيش خطط انتشاره على الحدود عدة مرات بغية تأمين أكبر نسبة من التغطية، وعلى مدى سنوات أحبط عمليات تهريب مخدرات وأسلحة وآثار وأشخاص، وأوقف المخالفين وضبط الأسلحة والذخائر والمبالغ المالية والمواد الغذائية الفاسدة والمسروقات... كما عملت وحداته على مكافحة المخدرات والجرائم المنظمة.

 

أمن المخيمات
كانت المخيمات مسرحًا للاشتباكات والتوترات في مراحل مختلفة، ما اقتضى من الجيش التدخل لمنع انتقال الأحداث إلى خارجها، وتأمين سلامة المناطق المحيطة بها. وقد اشتبك مرات عدة مع مجموعات فلسطينية، خلال تنفيذه مهمات التفتيش عن مطلوبين، كما تعرّضت مراكزه وخصوصًا المحيطة بالمخيمات، لاعتداءاتٍ أدّت إلى استشهاد وجرح عدد من العسكريين.
واعتبارًا من العام 2011، بدأت موجات النزوح السوري إلى لبنان، وراحت أعداد النازحين تتفاقم ومخيماتهم تتوسّع. تحديات النزوح السوري كانت في جزءٍ أساسي منها أمنية، ما رتّب على الجيش مسؤوليات كبيرة واقتضى منه بذل جهود جبارة. ورغم الخطر الأمني الذي أطل من مخيمات النازحين في أكثر من منطقة، حافظ الجيش على مناقبيته والتزامه السلوك الإنساني الذي تقتضيه المواثيق والأعراف الدولية. نتذكر في هذا السياق كيف عمل عسكريو فوج الحدود البرية الرابع على جمع ثمن الحليب وحاجيات أخرى لأطفالٍ اضطُرّ إلى إبقاء عائلاتهم لديه، إلى حين انتهاء الإجراءات القانونية...

 

«شيخ صلح» في المناطق
لم يكن أداء جيشنا لمهماته الأمنية روتينيًا، أو مجرد واجب عادي، بل كان يحمل رسالة سامية أكبر وأعمق من أن يحدّها إشكال هنا ومخالفة هناك، إنّها رسالة المواطنة والحفاظ على روح الأخوّة بين أبناء الوطن الواحد. ففي الكثير من الأحيان، أدّى دور «شيخ صلح» في الإشكالات بين أبناء المنطقة الواحدة وعائلاتها، وعمل بحكمةٍ ورويّة لفكفكة العقد المستعصية.
في نيسان 2007 مثلًا، احتضن الجيش مصالحة بين قرى البقاع الشمالي، واستقبلت إحدى ثكناته في رأس بعلبك لقاءً جامعًا لترسيخ ثوابت العلاقة الأخوية بين هذه القرى. وبالنهج نفسه، تدخّل لفضّ الخلافات والحدّ من جرائم الثأر، واحتواء الأزمات وإرساء الهدوء والمصالحة.
 

... في الأوقات الصعبة وكل زمان ومكان
في 24 تشرين الثاني 2007، وفي ظلّ الشغور الرئاسي وتعذّر انتخاب رئيس جديد للبلاد، باشرت قيادة الجيش تنفيذ خطة أمنية مكثّفة الإجراءات والتدابير، فتحوّل لبنان إلى ما يشبه الثكنة العسكرية. ألوية، وأفواج مقاتلة، لم يجفّ دم شهدائها في نهر البارد ولم تلتئم جراح الكثيرين من عسكرييها بعد، نزلت إلى ساحة الوطن الغارقة في أزمات سياسية جعلت لبنان في مهب العاصفة.
أرخى وجود الجيش على الأرض جوًا من الأمان والاطمئنان في مختلف المناطق على الرغم من الأجواء السياسية المتوترة التي هدّدت استقرار البلد.
لم يمرّ يوم تقريبًا إلّا وكان فيه للجيش، مداهمات ومهمات ودوريات لملاحقة المطلوبين للعدالة والمخلّين بالأمن، سقط خلال عددٍ منها شهداء وجرحى. كذلك، واجه الجيش الإرهاب المتنقل الذي تمثّل بعددٍ من التفجيرات التي توزّعت في مناطق عدّة من الهرمل إلى بئر حسن والشويفات ومزرعة يشوع والأشرفية وعكار وغيرها، ذهب ضحيتها أبرياء مدنيون وعسكريون وجرحى...
وخلال الأعياد، حين يبدأ الجميع بالاستعداد للسهر والمرح والاحتفال، وحده العسكري لا يعرف عطلةً ولا عيدًا، لا يفكّر حتى بالحجز لسهرةٍ في مطعم، فقد يضطر لإلغاء حجزه في اللحظة الأخيرة. اعتادت عائلته غيابه عن مأدبة العيد، لأنّه «محجوز في الخدمة»...