من واقع الحياة

الرجوع عن حافة الهاوية ممكن
إعداد: الرقيب كرستينا عباس

كل سنة، يضع نحو ٨٠٠ ألف شخص في العالم حدًا لحياتهم، بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية. ونسبة كبيرة من هذه الحالات تحدث في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل. وقد برزت هذه المشكلة في لبنان في الآونة الأخيرة، إذ شهد أسبوعٌ واحد حالات انتحار عديدة.
تشدّد منظمة الصحة العالمية والمتخصصون في مجال الصحة النفسية على أنّ هذه المشكلة يمكن حلّها وتجنّب وقوعها. والحلول كثيرة تبدأ بالكلام، مرورًا بالتوجه إلى معالج نفسي، وصولًا إلى التنبّه لوجوب توخي وسائل الإعلام حذرها خلال نشر التقارير المتعلقة بحوادث الانتحار.

 

أسباب وعوارض
كشف عدد من الدراسات عن أنّ ٩٥٪ من المُقدِمين على الانتحار يقومون بذلك بسبب معاناتهم أمراضًا نفسية، وخصوصًا الانفصام بالشخصية واضطراب ثنائية القطب والكآبة. وأشارت الاختصاصية في علم النفس العيادي والأستاذة المحاضِرة في الجامعة اللبنانية الدكتورة جويل خراط غانم إلى أنّ من أبرز أسباب قيام أشخاص بوضع حدٍ لحياتهم حالة اليأس النفسي، الحزن العميق، الخوف من المستقبل، عدم قدرة الشخص على التحاور مع محيطه، والعزلة. وتضيف غانم: «تؤدي وسائل التواصل الاجتماعي أحيانًا إلى الانتحار من خلال بث أجواء اليأس في نفوس المستخدمين، كما قد تسبب لهم العزلة التي بدورها تصبح حالة مرَضية وذات تأثيرات سلبية على الصحة النفسية والجسدية».
وأضافت غانم أنّ المرض النفسي المرافق لما يسمّى بالشخصية الضعيفة سبب لافت للانتحار، إذ إنّ صاحب هذه الشخصية يتأثر كثيرًا بآراء مَن حوله، وبالتالي فأي يأس يظهره هذا القريب يؤدي بالمريض إلى اليأس أيضًا. ومن أسباب الانتحار: تقلبات المزاج، تعاطي الممنوعات، فقدان شخص عزيز أو عدم الرغبة بالعيش، علاقة عاطفية فاشلة، والتمييز الذي تعانيه الفئات المستضعفة. أما عن العوارض التي قد تظهر على الراغب بإنهاء حياته، تقول غانم: «الإنزواء عن المحيط، فقدان الاهتمام بأي نشاط محبَّب، انعدام الطاقة الجسدية، اضطراب في ساعات النوم، فقدان الشهية، قلة تقدير النفس، واتّسام الشخصية بالتهوّر ومحاولات انتحار سابقة». وتشدّد على أهمية الأخذ بعين الاعتبار أي ذِكر للرغبة بالموت لدى الشخص وعدم الاستخفاف بها، فالكثير من الحالات تبدأ بهذا النوع من الأحاديث، وبالتالي عدم التعاطي معها بجدية قد يؤدي إلى الإقدام على الانتحار.

 

درهم وقاية...
يقول المثل الشائع: «درهم وقاية خير من قنطار علاج»، وبالتالي فإنّ وقاية الشخص، الذي تبدو عليه عوارض الرغبة بالموت، تنقذ حياته. ومن أهم سبل الوقاية: الحدّ من فرصة الوصول إلى وسائل الانتحار، تطبيق سياسات خاصة بالكحول للحدّ من استخدامها على نحو مضرّ بالنفس أو الغير، التشخيص والعلاج والرعاية المبكرة للمصابين باضطرابات نفسية أو صحية (مثل تعاطي مواد الإدمان). وتنصح منظمة الصحة العالمية بالتنسيق التام والمتكامل بين مختلف قطاعات المجتمع، إذ تعتبر أنّه «لا يمكن لأي نهج أن يؤثر منفردًا على قضية معقّدة مثل الانتحار».
وتلفت المنظمة إلى أنّ عددًا كبيرًا من المجتمعات لا يعالج بشكل كافٍ هذه القضية بسبب ما يحيط بها من تكتّم وعدم اعتبارها مشكلة صحية رئيسية. فالبلدان التي وضعت استراتيجية وطنية للوقاية من الانتحار تبلغ نحو ٤٠ بلدًا فقط، بينما تعتبره دول كثيرة جرمًا أو وصمة عار. لذلك من الواجب على الأهل والمحيط المبادرة إلى مساعدة أي فرد تظهر لديه رغبة في إنهاء حياته، وأول ما يمكن تقديمه هو دعمه معنويًا وعاطفيًا وتقديره. وإذا لم يُجدِ ذلك نفعًا يتوجب توجيهه إلى المعالجة النفسية والمرافقة المتخصّصة للعلاج. ومن الضروري في هذه المراحل البقاء إلى جانبه والاستماع إليه.

 

حقائق عامة
لوسائل الإعلام دورٌ بارز في الحد من المشكلة من خلال حملات توعية حول الموضوع، وتجنّب نشر صورة مَن أقدم على الانتحار أو الوسيلة التي استخدمها وسوى ذلك، باعتبار أنّ نشر هذه التفاصيل من شأنه تشجيع مَن يفكّر بالانتحار وما زال متردّدًا أو إعطاؤه فكرة لأي وسيلة يمكنه استخدامها. ومن المهم جدًا تبليغ المعنيين بالصحة النفسية عند ملاحظة أي اضطراب أو حركة غير مسبوقة عند أحد المقربين.
ما العمل عند انتحار أحد الأشخاص؟ تجيب غانم عن هذا السؤال بالقول:
في حال وفاة أحد أفراد العائلة انتحارًا، يجب على المحيطين بأهل الضحية منحهم الوقت الكافي لاستيعاب خسارتهم، خصوصًا أنّ الذي حصل قد يسبب لديهم رفضًا وغضبًا من المحيط والحياة. بعد ذلك يمكن مرافقتهم وإعطاؤهم أملًا بأنّ الحياة تستمر ولا يتوقف الزمن عند الموت. كما يجب العمل على إشعارهم بأنّ ما حدث كان نتيجة إرهاق الميت ومرضه النفسي وشخصيته مفرطة الحساسية، وبالتالي يجب ألّا يلوموا أنفسهم.

 

«الحكي بِطوّل العمر»
«خط الحياة» الذي وضعته جمعية Embrace بالتعاون مع وزارة الصحة العامة، هو مبادرة جدية في موضوع الحدّ من حالات الانتحار في لبنان مؤخرًا. هذا الخط المؤلف من أربعة أرقام (١٥٦٤)، يقدّم للمتّصل فرصة الاستماع إليه ومساندته بالدعم النفسي والمعنوي عندما لا يجده مع أفراد أسرته أو محيطه. يمنح هذا الخط المتصلين مساحة آمنة للتعبير من خلال الحديث المباشر أو من خلال جلسات حوار تتيح للمشاركين فيها الاستفادة من خبرات بعضهم بعضًا.
يقدّم لهم هذا الخط أيضًا نصائح تساعد من يعاني مشكلة تعذّر حلها، فيُصار إلى توجيههم نحو متخصصين في مجال خدمات الصحة النفسية والمعالجين. وإذا كان المتّصل قريب أحد المرضى، يطالبونه بعدم تقديم أي نصيحة له بل بالاكتفاء بالاستماع إليه، ما يعطيه أملًا أكبر بالحياة والعدول عن رغبته بإنهائها.
يقتضي الواجب الإنساني أن يستمع كل فرد إلى قريبه لأنّ الحياة تستحق أن يعيشها الجميع، ولا يستحق أحد الوقوع تحت رغبات جامحة تدمره، كما تستحق كل عائلة أن يكبر أبناؤها في حضنها وليس في ظلمات القبور.

 

أرقام مقلقة! في لبنان:
- أعمار النسبة الأكبر من ضحايا الانتحار هي بين ١٨ و٣٤ عامًا.
- نسبة المنتحرين ٢٪ من مجمل عدد السكان.
- الذكور هم أكثر عرضة للإقدام على الانتحار.
- تلقّى الخط الساخن نحو ١٥٠ اتصالًا في اليوم خلال الأسبوع الأول من كانون الأول المنصرم.

 

بيانات ضعيفة
لأنّ العديد من المجتمعات تعتبر الانتحار وصمة عار أو عملًا غير شرعي، تكون البيانات الصادرة حول عدد الوفيات بسبـب الانتحـار غير دقيقة. وبالتـالي يصبـح تلافي الأخطـار الناجمة عنها ومعالجة المرض المسبّب لها، أمرًا صعبًا في الكثير من الظروف.