رحلة في الإنسان

الشائعات
إعداد: غريس فرح

تقنية دس مبرمج اهدافها متعددة وكذلك انواعها

تستغل ميل الانسان إلى نقل الأخبار الغامضة وتتغذى من سعيه إلى استقصاء المجهول

يسعى الإنسان بطبعه إلى كشف الأسرار ويستمتع بنقل الأخبار الغامضة المنشأ، إنطلاقاً من شوقه الفطري إلى إستقصاء المجهول لأهداف تخدم بقاءه. ومن هنا ميله الشديد إلى تقبل الشائعات ونشرها، وخصوصاً تلك التي تروي فضوله إلى إكتشاف ما يجهله، أو التي تحدث دوياً وترضي رغبته بتعميم الإثارة.
بهذا احتلت الشائعة منذ القدم حيزاً مهماً من نسيج المجتمعات البشرية، وتطوّرت مع تطوّر الفكر والتفاعل الإجتماعي، لتدخل لاحقاً في صلب تقنيات إستقطاب الرأي العام، ومن ثمّ غسل الأدمغة لغايات مختلفة.
 وقد ساعد الإعلام الحديث وسرعة الإتصالات على اعتماد الشائعة المدسوسة للتوجيه المبرمج، وذلك بعد صياغتها بأشكال تتناسب مع بناء المجتمع، وردات فعل أفراده المتوقعة مسبقاً.
فكيف تنشأ الشائعة وتتغذّى، وما هي أنواعها وردات الفعل الناجمة عنها، وكيف يمكننا التعرّف إلى أهدافها والتصدي لها؟

 

الشائعة تتغذى بحب الفضول

يؤكد إختصاصيو علم النفس والمجتمع في مجموعة دراسات أجريت في غير مكان من العالم، أن الشائعة تنشأ من حاجة الناس إلى معرفة معلومات في إطار تطلعاتهم الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، وخصوصاً المتعلقة منها بمصيرهم وأمنهم ووضعهم الإجتماعي بشكل عام.
إلى ذلك، فالشائعة تتغذى بحب الفضول، ونقل الخبر بدافع الشعور بأهمية معرفة أشياء يجهلها الآخرون، أو بدافع إرضاء الميل الفطري لتبادل الهمسات والتسلي بالدسّ وتضخيم الأكاذيب التي تحدث بلبلة وتوتراً.
هنا يشير الباحثون إلى أهمية دور الشائعة في دمج مجموعات بشرية يجمع بينها حب الثرثرة والفضول واهتمامات مشتركة أخرى. هذا إضافة إلى دورها اللافت على صعيد خلق أجواء تبادل الأفكار ووجهات النظر من قبل المجموعات البشرية المختلفة.
من هذا المنطلق، واستناداً إلى الاستعداد البشري الفطري لتقبّل الشائعة وتداولها، إستغلّت جهات متخصصة هذه الناحية النفسية للأهداف الآنفة الذكر، لنشر شائعات متعدّدة الأهداف والأشكال في الظروف المناسبة لتقبلها والتفاعل معها.

 

الشائعة الزاحفة والسم المخبأ

يختلف وقع الشائعة من مجتمع إلى آخر باختلاف البيئة والمعتقدات، لذا كان لا بد للباحثين من تصنيف الشائعة بحسب هذه الإختلافات والتي تتطلب توقيتاً معيناً لإطلاقها، وسرعة أو بطئاً يتناسب والهدف المقصود من ورائها.
فمثلاً، الشائعة الزاحفة أو البطيئة الانتشار، هي شائعة يقصد بها زرع معلومات في الذاكرة الطويلة المدى بهدف توجيه الرأي العام إلى اتجاهات تخدم غايات محدّدة على المدى البعيد، وفي مقدمها المقدرة على التحكم بالأجيال الطالعة، وإدارة الشؤون المستعصية آنياً. وهذا يتم عبر إستخدام الإعلام لنشر إيحاءات مموّهة وخلق هواجس جماعية هدفها إضعاف الثقة بالنفس والوطن والمؤسسات، أو إحياء آمال واهية غير مبنية على أسس سليمة. ويستهدف هذا النوع من الدس الإعلامي إلهاء الرأي العام لفترة طويلة يتم خلالها تمرير المخططات ذات الأهداف المدروسة.

 

الشائعة المتأرجحة

هي شائعة قابلة للظهور حيناً والانحسار حيناً آخر بحسب الظروف. وتستخدم هذه الشائعة عموماً في الحروب النفسية لإثارة الرأي العام ضد جهات معينة، كإشاعة خبر تسمّم المياه مثلاً، أو إنتشار العنف وعدم الاستقرار، وقد يترافق هذا النوع من الشائعات مع أحداث مفتعلة.
وتدخل في هذا الإطار الشائعة السريعة الإنتشار التي تسري كالنار في الهشيم، فتثير الغرائز وتغذّي الإنفعالات الفورية والمشاعر المكبوتة وما ينجم عنها من ردّات فعل غير متّزنة.
وفي هذا الإطار أيضاً، تعمد بعض المصادر إلى إستخدام وسائل إعلام غير محلية ومن ثم تمريرها إلى الإعلام المحلي باستخدام عبارة ˜نقلاً عنŒ، للإيحاء بمصداقية الشائعة وحيادية مصادرها. وتستخدم هذه التقنية عموماً لتسريب معلومات تمهيدية، أو لإحداث بلبلة في الرأي العام.

 

التنبؤ المسبق بردات الفعل

بالاعتماد على الإختصاصيين في حقلي علم النفس والمجتمع، يحاول ناشرو الشائعات  التنبؤ المسبق بردات الفعل تجاهها في المجتمعات المستهدفة. ولتحقيق ذلك، يعمدون إلى جمع معلومات دقيقة عن التوجهات الإجتماعية والسياسية العامة، إضافة الى الميول الفردية الطاغية في المجتمعات الصغيرة، وذلك بهدف إطلاق شائعة مناسبة لتحقيق الوقع المطلوب. وتجدر الإشارة إلى أن المعنيين عموماً ما يتعمّدون نشر القلق والخوف في المجتمعات المتعدّدة الإنتماءات لإثارة الصراعات العرقية والطائفية. واللافت أن المستمع إلى شائعات من هذا النوع لا يطلب دلائل ملموسة، بل يستمع وينقل ما سمعه مباشرة وفق آلية طبيعية تحدث الوقع المطلوب لنشرها. وفي هذا المجال يؤكد الإختصاصيون النفسيون أن تصديق الشائعة هو أسهل من تكوينها بسبب طغيان حالة جماعية طبيعية تسيطر على الوعي والإدراك العام وتسيّرهما وفق برامج محدّدة. وكما سبق وأشرنا، فإن القيّمين على ذلك قد يسرّبون أخباراً توحي بالتفاؤل والأمل لإحداث صمود مؤقت يساعد على المضي بالمخططات التدميرية.

 

مراحل ترويج الشائعة

تمر الشائعة عموماً بمراحل تمهيدية تهيىء الرأي العام لتقبّل الحالة المنوي إحداثها. وهذا يتم عبر الترويج للثرثرة ونشر الأقاويل ومن ثم خلق أجواء القلق وعدم الاطمئنان وصولاً الى مرحلة إحداث التوتر الأمني أو الشغب، وهي مرحلة قد يتقبّلها البعض ويرفضها البعض الآخر.
والمعروف أن الشائعات التي تغذّي التفاؤل قبل وقوع الشغب، هي التي تمهّد للرفض العام والإحباط أكثر من سواها. والسبب أن الأفراد والجماعات الذين يعيشون حالة من الاطمئنان والأمل بحصول الاستقرار المنشود، يصدمون لدى اكتشاف الحقيقة المغايرة للتوقّعات  المسبقة، الأمر الذي يدمّر معنوياتهم ويدفعهم الى السلوك السلبي بعيداً عن الإتزان والعقلانية.

بهذا يتحقق الهدف من إطلاق الشائعة، أي إضعاف المقاومة المعنوية والتفكير الإيجابي المطلوب للصمود أثناء الحروب النفسية.

 

كيف نحارب الشائعات؟

إنطلاقاً مما تقدّم، تجدر الإشارة الى أهمية دور التوجيه ونشر الوعي لإنهاض الفكر في المجتمعات المستهدفة، وذلك عن طريق إحداث يقظة ووحدة إدراك جماعي لمواجهة شتى المداخلات. وفي هذا المجال يلعب الإعلام الرسمي والخاص إضافة إلى الاستعداد النفسي العام، دوراً أساسياً في تنسيق المفاهيم التالية:

* محاربة الشائعة بالدلائل الحسية منعاً لانسياق الرأي العام في تيارات التضليل والضغوطات النفسية.
* تأهيل الإدارات وتوظيف مسؤولين من ذوي الكفاءة والخبرة لرفع الشعور بالثقة بين المواطنين.
* توخّي الصراحة لكسر طوق الغموض وحب الفضول وتبادل الهمسات المضللة.
* نشر الوعي عن طريق التعريف بالشائعات وأهدافها.
* محاربة الفساد علانية لإرساء الإطمئنان، مع العمل على الفصل بين الرقابة الضرورية والقمع.
* لفت الأنظار الى ضرورة تحليل الأخبار والأقاويل قبل تصديقها ونشرها.
* إعتماد التربية المدنيّة لإعداد أجيال أكثر وعياً وثقة وثقافة على مستوى تعزيز الانتماء الوطني المجرّد.