قضايا إقليمية

العدو الإسرائيلي وإشكالية الملاذ الآمن
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

لعلنا لا نكاد نجد دولة في العالم تعيش هي وشعبها هوس البقاء والخوف من عدم إمكان الاستمرار في المستقبل مثل الكيان الإسرائيلي. وهذا ما بدأ يظهر بوضوح في السنوات الأخيرة في تصريحات العديد من قادته ومفكريه العسكريين والمدنيين من غير المهتمين بنبوءات التيارات الدينية الأصولية ونصوصها المزعومة، وذلك ضمن ما بات يعرف اليوم باسم "لعنة العقد الثامن".

لا يمكن تجاهل أنّ صورة "إسرائيل" في مرآة الرأي العام العالمي تعرّضت لانقلابٍ جوهري منذ هجومها الوحشي على مدن قطاع غزة، إذ باتت كعنوان للإرهاب وقتل الأطفال والنساء وتدمير البيوت السكنية والمستشفيات والمدارس والمعابد وحتى مؤسسات الأمم المتحدة. والمفارقة أنّ كل ما قامت به لم يَحُل دون التفاف الشعب الفلسطيني حول قضيته، وكشف في الوقت نفسه، وجه "إسرائيل" العنصري البشع والقبيح. وقد سلّط موقع «ميدل إيست مونيتور» الضوء على عنصريتها ووصفها بأنّها واحدة من أسوأ الدول المارقة في العالم، والتي جعلت من نفسها ملاذًا آمنًا للمجرمين والإرهابيين.

في خضم الأجواء المتوترة والمتفجرة، زادت في الكيان الإسرائيلي معدلات الهجرة الداخلية والخارجية، ما يؤشر إلى عدم شعور الكثير من المستوطنين الإسرائيليين بالأمان. ونشرت صحيفة «هآرتس» مقالة قالت فيها إنّ "إسرائيل" لم تعد ملاذًا آمنًا لليهود، بل باتت اليوم أخطر مكان عليهم في العالم من جراء تداعيات جرائم الحرب المرتكبة ضد قطاع غزة، وأنّها لم تعد حتى البيت أو الملجأ القومي، بل أصبحت سببًا لتهديد اليهود وأمنهم في كل مكان آخر في العالم. والشاهد على ذلك المظاهرات المناهضة للعدو الإسرائيلي التي عمّت جميع أنحاء العالم تعبيرًا عن الغضب الشعبي والإنساني حيال المجازر المتوحشة المرتكبة ضد المدنيين الفلسطينيين، وقد فاقت ما يُسمّى "الهولوكوست" بشاعةً وإجرامًا. ففي أميركا اللاتينية التي دان زعماؤها بشدة جرائم "إسرائيل"، ألغيت زيارات مقررة لزعمائها، وتمّ إدراجها على قائمة «الدول الإرهابية» ووصفت أفعالها بأوصاف غير مسبوقة مثل ارتكاب "الإبادة الجماعية" و"المذابح المروّعة".

 

فكرة اللعنة وتبعاتها

ترجع فكرة "لعنة العقد الثامن" إلى رواية يكاد يتفق عليها المؤرخون الذين يتناولون تاريخ الوجود اليهودي السياسي في فلسطين، ومفادها أنّ اليهود عمومًا أقاموا لأنفسهم في فلسطين على مدى التاريخ القديم كيانَين سياسيين مستقلين، وكلاهما سقط في العقد الثامن من العمر. والكيانان هما مملكة إسرائيل في الشمال وعاصمتها نابلس، ومملكة يهودا في الجنوب وعاصمتها القدس، وهما سقطتا لاحقًا على يد الآشوريين ثم البابليين بسبب الخلافات الداخلية. والتنبؤات الإسرائيلية عن اضمحلال إسرائيل الحالية وانهيارها وهزيمتها من الداخل صدرت عن تيارات فكرية مختلفة، إذ يوجد بين المتنبئين من هو مثل المؤرخ اليهودي بيني موريس، الذي رأى أنّ الإسرائيليين هم ضحايا تتربص بهم الأمم، في حين رأى آخرون أنّهم مذنبون ويكتبون نهايتهم "المأساوية" بأيديهم. ومن الفريق الثاني يبرز اسم أبراهام بورغ، السياسي الإسرائيلي المخضرم ورئيس الكنيست سابقًا، الذي أثار عواصف في الرأي العام الإسرائيلي على مدى سنوات بآرائه وكتبه التي حذّرت من توافر أسباب زوال إسرائيل كملاذٍ آمن لليهود. ورأى بورغ أنّ دولته بنبذها للديمقراطية وتمسكها العنصري بعقلية "الغيتو" وإهدارها للقيم الإنسانية، إنما تأخذ بأسباب الانهيار والتعجيل بنهايتها. وقال: "إن إسرائيل التي لم تعد تعبأ بأبناء الفلسطينيين لا ينبغي أن تتفاجأ حين يأتي الفلسطينيون إليها مشحونين بالحقد ويفجّرون أنفسهم في مراكز اللهو الإسرائيلية، لأنّ لديهم أبناء وآباء في البيت يشعرون بالجوع والذل". وقد أثار بورغ عاصفة أخرى من الجدل حين نشر كتابه "هزيمة هتلر" الذي يشبّه فيه حال إسرائيل بحال ألمانيا النازية قبيل هزيمتها. وقد حذّر من أنّ قطاعًا متضخمًا من المجتمع الإسرائيلي العنصري المتطرف يستخف بالديمقراطية السياسية ويعادي الأجانب، ويقول إنّ الدولة باتت تحت رحمة أقلية فاشية شرسة. وما زال بورغ ينشر هذه الفكرة التي يلخصها بالقول: "إنّ إسرائيل غيتو صهيوني يحمل أسباب زواله في ذاته". وهو يضيف قائلًا في أحد الحوارات الصحفية: "إنّ الناس يرفضون الاعتراف بذلك، لكنّ إسرائيل اصطدمت بجدار. إسأل أصدقاءك إن كانوا على يقين من أنّ أبناءهم سيعيشون هنا، كم منهم سيقول نعم؟ 50% على أقصى تقدير. بعبارة أخرى، النخبة الإسرائيلية انفصلت عن هذا المكان، ولا أمة من دون نخبة". وأخيرًا يفخر بورغ بأنه يحمل جواز سفر فرنسيًا اكتسبه بسبب زواجه من امرأة فرنسية المولد، وحين سُئل إن كان يوصي الإسرائيليين بالحصول على جواز سفر ثانٍ، قال: "إنّ كل من يستطيع، عليه أن يفعل ذلك".

 

الواقعية التاريخية

يجرّد الكاتب والمفكر المصري عبد الوهاب المسيري، صاحب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، توقعاته من التفاؤل والتشاؤم في ما يتعلق بنظرته إلى استمرارية الكيان الإسرائيلي كملاذٍ آمن لليهود في العالم، ويقول إنّه يقرأ معطيات وحقائق في سياقها الموضوعي التاريخي لاستخلاص النتائج المنطقية. وهو يرى أنّ إسرائيل هي في واقع الحال "دولة وظيفية" بمعنى أنّ "القوى الاستعمارية اصطنعتها وأنشأتها للقيام بوظائف ومهمات تترفّع عن القيام بها مباشرة، وبالتالي فإنّ بقاءها مرتبط ببقاء هذه الوظائف والمصالح. ويضيف المسيري أنّ هذه الدولة ستواصل التقهقر والسقوط، مما سيجعلها ملاذًا غير آمن ومرشحة للانهيار سياسيًا وديموغرافيًا خلال بضعة عقود، لأن "الدورات التاريخية أصبحت الآن أكثر سرعة مما مضى". ويوضح قائلًا : "في حروب التحرير لا يمكن هزيمة العدو وإنما إرهاقه حتى يسلّم بالأمر الواقع"، لافتًا إلى أنّ المقاومة في فيتنام لم تهزم الجيش الأميركي وإنما أرهقته لدرجة اليأس من تحقيق المخططات الأميركية، والأمر نفسه فعله المجاهدون الجزائريون في حرب تحرير بلدهم من الفرنسي.

 

الفشل بالنقاط

 لقد تصرفت إسرائيل منذ نشأتها حتى الآن، انطلاقًا من أنّها نواة لـ"دولة كبرى" تمتد من النيل إلى الفرات، ومرشحة للهيمنة العسكرية والاقتصادية والثقافية على المنطقة العربية برمتها، وبكل ما تملك من ثروات وطاقات، وابتعدت كثيرًا عن فكرة "الملاذ الآمن" لشعب مضطهَد. وهي طالما راهنت على التصفية الاعتباطية للشعب الفلسطيني وقضيته بصورة نهائية وعلى تطبيع علاقتها بالدول العربية الرئيسة في هذه المنطقة. ولأنّ الدول الغربية ألقت بثقلها وراءها وزوّدتها كل الأدوات والوسائل المادية والمعنوية التي تمكّنها من تحقيق طموحاتها غير المشروعة، فقد كان من الطبيعي أن تتعامل بقدر كبير من التعنّت والصلف مع كل قواعد القانون والشرعية الدولية السياسية والأخلاقية والإنسانية، ومع كل مبادرات التسوية السلمية التي صدرت عن مؤتمرات القمة العربية. لكنّ خيبات أملها وسقطاتها العسكرية المدوية توالت في لبنان وفلسطين بشكل خاص، بالتزامن مع الهجرة العكسية من داخلها إلى الخارج، ناهيك عن مشاكل عدم الانصهار الاجتماعية والسكانية والعرقية داخل المجتمع والجيش، فيما تزايدت أعداد الإسرائيليين الذين يطلبون الحصول على جوازات سفر غربية.

تعتبر "إسرائيل" نفسها دولة عرقية يهودية، وتطالب الفلسطينيين وسائر العرب بالاعتراف بها كذلك، أي أنّها تريد أن يتحوّل الجميع إلى "صهاينة" غرباء في خدمة اليهود. لكنّ حكمها التعسفي لشعب محتل منزوع الحقوق السياسية والإنسانية ليس وضعًا يمكن أن يدوم في القرن الحادي والعشرين. والمفارقة أنّه بمجرد أن تعطى لهذا الشعب حقوقه المغتصبة من قبلها فإنّها لن تبقى عندئذ دولة يهودية، وبخاصةٍ أنّ الشعب الفلسطيني يواصل منذ نحو مئة عام نضاله وكفاحه من أجل حريته وكرامته وحقه في تقرير مصيره. وما حدث في 7 تشرين الأول 2023 قلَب المعايير والموازين رأسًا على عقب، إذ تفاجأ الإسرائيلي بأنّ الحرب تدور في "بيته" المغتصب ولم تعد تدور على أرض الآخرين كما كان يحصل في الماضي، وهذا يعني ضرب فكرة الملاذ الآمن في الصميم. وعندما يكون العدو الإسرائيلي بحاجة إلى الأساطيل والدعم الخارجي غير المحدود لحماية نفسه، فهذا يعني أنّ دولته فقدت مبررات الردع الذاتية التي تتباهى بها باستمرار، وأنّها لم تعد الدولة التي لاتقهر، ناهيك عن التكلفة العالية جدًا لقيامها الافتراضي كملاذٍ آمن مزعوم لليهود، وهذه التكلفة ستتزايد بالضرورة في المستقبل مع تطور الأحداث وضرورات الحرب وأدواتها وتعقيداتها.