ما بعد النكبة

المرفأ: إرادة النهوض تصنع المعجزات
إعداد: نينا عقل خليل - الرقيب كرستينا عباس

مضى أكثر من شهرين على الانفجار الكارثي الذي حصل في المرفأ، المشهد من بعيد ما زال مرعبًا، لكن كلما اقتربت كلما تبين لك أنّ معالم الحياة تعود إلى المكان، الدمار أعمى، صحيح، لكنّ الأصح أنّ الإصرار على النهوض يصنع معجزات.

الحركة ناشطة، ومدير عام المرفأ السيد باسم القيسي يعلن أنّ هذا المرفق الحيوي استعاد نشاطه مئة في المئة، ولو أنّ مشكلة التخزين ما زالت قائمة بسبب ما حل بالعنابر من دمار.

 

«استعاد المرفأ عمله كالمعتاد، فلم تتأخر أي باخرة ولم نرفض استقبال أخرى، كل ذلك بفضل الجيش اللبناني»، يقول القيسي. أعمال رفع الركام والأنقاض مسحت المشهد المروّع، وسمحت بعودة حركة التحميل والتفريغ...

وأشار مدير المرفأ إلى أنّه «بفضل جهود الشركة التي تهتم بمحطة المستوعبات، والمتعهدين أصحاب الأوناش، وبتنظيمٍ من إدارة مرفأ بيروت وعَمَلِ فرق الصيانة، تم تصليح ثماني رافعات ثابتة وأربعًا أخرى متحركة، وتفريغ نحو 540 مستوعبًا، وحوالى سبعة آلاف طن».

ويضيف القيسي: «المشكلة الوحيدة التي نواجهها هي انفجار الإهراءات، إذ لم يعد لدينا أماكن لتخزين القمح والمواد الغذائية. نعمل على تسليم المواد مباشرة، أي من الباخرة إلى الشاحنات المعقمة، ومن ثم إلى المطحنة أو أي مكان خارج بيروت. ونعمل اليوم بالتعـاون مع الهيئـة العليا للإغاثـة وبعض الدول الأجنبية عبر سفاراتها في لبنان على بنـاء مستـودع أو أكثـر في الباحـات التـي عمـل الجيـش علـى تنظيفهـا (وهي بمساحـة تبلـغ نحـو 120 ألـف متـر مربـع)».

ويشير القيسي إلى أنّه «اعتبارًا من 11 آب ولغاية الأسبوع الأخير من شهر أيلول تمّ استيراد وتصدير حوالى 92 ألف حاوية، كما استقبلنا مئة باخرة، أي أنّ المرفأ يعمل بالنسبة التي كان يعمل بها قبل الانفجار. كذلك تمّ تفريغ 155 ألف طن، منها 85 في المئة قمح ومواد غذائية وذرة وطحين، و 15 في المئة حديد وبضائع أخرى».

 

لغز الحاويات

وحول وجود حاويات قابلة للانفجار في المرفأ، يكشف القيسي أنّ هناك 49 حاوية، بعضها موجود منذ الأعوام 2009، 2010، و2012، وهي تحتوي على مواد كيميائية قابلة للانفجار، وتشكّل لغزًا ينتظر الإجابات من أصحاب الشأن، إذ هناك من يستورد هذه المواد ويتركها فلا هو يسحبها، ولا الجمارك تبيعها أو تتخلص منها. وأعلن أنّه رفع كتبًا إلى المعنيين، داعيًا إلى تطبيق القانون وإجبار شركات الملاحة على إعادة شحن الحاويات. وقال: «الجيش حاول تفجير البعض منها ولكنّه لا يستطيع التصرف بالباقي بسبب اهترائها واحتوائها على السوائل وغيرها... ويعمل فوج الهندسة بالتنسيق مع المعنيين على إجراء اللازم بشأنها».

وعن نوعية المواد بداخلها، قال: «إنّها مواد قابلة للاشتعال مثل الدهانات والعطورات والسبيرتو وغيرها... وهي تشكل خطرًا إذا بقيت مدة أطول، مؤكدًا أنّه يجب أخذ خطوة عملية لإجبار شركات الملاحة على إعادة هذه الحاويات وما فيها من بضائع كما أتوا بها».

 

الحريق

وعن الحريق الذي شبّ في العاشر من شهر أيلول الفائت في المنطقة الحرة، أشار القيسي إلى «أنّه أثّر بشكلٍ كبير على هذه المنطقة، لأنه حصل تحديدًا في مبنى الخدمات اللوجستية». وعن التجار الذين يعانون مشكلة إخراج البضائع الخاصة بهم من المنطقة الحرة، أشار إلى أنّه تمّ تكليف شركة خاصة تشرف على كيفية إخراجها وفق شروط السلامة العامة. وأوضح: «قدمنا لهم جزءًا من المباني الخاصة بالمنطقة الحرة من أجل تخزين البضائع أو وضع خيم لذلك».

وعن التعاون مع مرفأ طرابلس، قال القيسي إنّ التعاون دائم ومستمرّ بين الجانبَين، لكن محطة الحاويات والشحن العام تعمل لدينا بصورةٍ طبيعية، المشكلة في التخزين فقط، وبالتالي، من يريد تخزين البضائع يذهب إلى مرفأ طرابلس، هذا القرار يعود للتاجر.

«أتمنى أن يتسلّم الجيش المرفأ، وأطالب بعدم خروجه منه قبل إقرار الإصلاحات الضرورية»... بهذه الكلمات ودّعنا القيسي مؤكدًا: «عند وقوع الكارثة كان الجميع يعتقد أنّ مرفأ بيروت لن يتمكّن من استئناف عمله ونشاطه إلا بعد مرور أشهر طويلة، ولكن بفضل جهود الجيش تغيرت الصورة بسرعةٍ قصوى».

 

المواجهة الصعبة

الجولة في المنطقة الحرة للمرفأ تضعك في مواجهة صعبة بين اليأس والأمل، لكن ما أن تبدأ بالتحدث إلى الناس حتى تشعر بأنّ إرادة الحياة أقوى من كل الدمار الجاثم فوق الأرزاق وتعب العمر. تختلف نسبة الأضرار بحسب الموقع أو متانة البناء. فالمباني المخصصة لبضائع بعض الشركات لم تسقط بالكامل وكانت الأضرار فيها جزئية. أما العنابر التي بُنيت على أرض مستأجرة من إدارة المنطقة فهي مدمّرة بالكامل بحسب ما يفيدنا رئيس مصلحة المنطقة الحرة السيد فادي طياح الذي يوضح: «الأضرار في البضائع المخزنة في المباني اقتصرت على نحو 5% من البضائع بشكل عام، لكنّ النسبة تختلف بحسب كل شركة».

نلتقي السيد روبير باولي صاحب شركة Keyfreight، ونسأله عن الوضع في ما خص شركته، يقول: «إنّ بضائع الشركة انتُشلت بالكامل من تحت الردم، وقد تم تسليم 80% منها إلى الزبائن، والعمل مستمر لتسليم الباقي». من ناحية أخرى، وفي ما يتعلق بالوثائق والمستندات، يؤكّد: «بالطبع أُتلفت بعض الوثائق الموجودة في مستودعات دُمرت بالكامل من جراء الانفجار. لكنّنا نحفظها جميعها على backup system موجود في مكاتبنا التي تقع خارج المرفأ، لذلك لم نفقد أي معلومة».

 

فعل الأمل والإرادة

ويلفت باولي إلى عقبات تؤخّر عمليات الاستيراد مثل عدم توافر عدد كبير من مستوعبات الغروباج (مستوعبات تتضمن بضائع مختلفة لأكثر من مستورِد) والتدابير الأمنية المتّخذة بعد الحريق الذي اندلع في 10 أيلول الماضي، لحماية البضائع والحدّ من خطر احتراق المواد القابلة للاشتعال. ويقول «ننتظر الآن أن ينتهي التحقيق لتخفيف الإجراءات فنستطيع مباشرة العمل»، و«نشكر قيادة الجيش لأنّها كانت سندًا كبيرًا لنا، وساعدتنا على تخطّي هذه المحنة بسرعة».

في السياق نفسه، يؤكد رئيس شركة «إنترورلد أوف شور» السيد طوني عقيقي أنّ الشركة تابعت أعمالها في مستودعاتها الخاصة والسوق الحرة في مرفأ بيروت، كما أنّها باشرت عملية ترميم المباني وإعادة الإعمار بعد انفجار الرابع من آب الماضي، لكنّ الحريق الذي اندلع لاحقًا أوقف العمل فالبقعة الآن قيد التحقيق، والأعمال تقتصر على أمور بسيطة. وعن الأضرار التي لحقت ببضائع الشركة المخزّنة في المرفأ يقول: «تتعدى الـ30% من مجمل البضائع. كما أنّنا فقدنا عدة مستندات ووثائق، نحاول الآن إعادة تجميعها من مصادر مختلفة».

في ما يخص حركة الاستيراد والتصدير، انتهت الشركة من تخليص البضائع القديمة ما عدا تلك المشحونة غروباج، فهي ما زالت بحوزة شركات الشحن. ويقول «لم نباشر الاستيراد حاليًا ونقوم بأعمال التصدير ببطء بسبب الأضرار الناجمة عن الانفجار والحريق، وتعذّر متابعة أعمال الترميم وإعادة البناء في الوقت الراهن». عقيقي شكر الجيش اللبناني الذي يؤمّن حماية البضائع والمستودعات، بالإضافة إلى المساعدة في عملية إعادة الترميم وتسهيل أعمال الشركات.

نتابع جولتنا، ونقارن بين المشهد الذي كان في الأيام الأولى التي أعقبت الانفجار وبين الوضع الحالي، فعلًا الحياة أقوى، وهي كذلك بفعل الأمل والإرادة.

الخسائر فادحة، لكنّ العزم على تخطي المحنة، يَعِدُ بالنهوض مجددًا.