قطاعات إنتاجية

النبيذ اللبناني: العراقة والمذاق والانتشار
إعداد: د. تراز منصور

يرى البعض أنّ عمر صناعة النبيذ في لبنان يعود إلى ستة آلاف سنة قبل الميلاد، ويردها آخرون إلى 4000 سنة، أو إلى 2000 سنة...  في حين  يذهب البعض إلى القول إنّ لبنان هو من أول البلدان التي أنتجت النبيذ في العالم، وأول من صدّر هذا المنتج إلى الخارج. لكنّ الأكيد في جميع الأحوال هو أنّنا أمام صناعة عريقة لها جذور تاريخية عميقة، ومكانة عالمية مرموقة. فحبّات العنب في كروم لبنان تنسج قصة نجاح تعاكس عقارب الانهيار، بينما تُشكّل كل زجاجة نبيذ لبناني بألوانها الثلاثة (أحمر وأبيض وزهري) قصة نجاح وريادة، من الأرض إلى رفوف الأسواق العالمية في 35 دولة في العالم.
صناعة النبيذ من الصناعات المهمة في لبنان، فهي تؤمّن فرص عمل وتخلق حركة اقتصادية كبيرة، وفق ما يؤكّد مدير عام وزارة الزراعة المهندس لويس لحود، الذي أشار إلى وجود 62 مصنعًا مسجلًا للنبيذ تنتشر في جميع المناطق اللبنانية. تُنتج هذه المصانع سنويًا نحو 15 مليون زجاجة نبيذ، وتصدّر إلى دول الاتحاد الأوروبي وأميركا والبرازيل وكندا.
وأشار لحود إلى تسويق منتجات النبيذ في الخارج بالتعاون مع الجالية اللبنانيةDiaspora  موضحًا أنّ مساحة الأراضي المزروعة بالعنب في لبنان تبلغ حوالى 106093 دونمًا، 70 % منها تُنتج عنب المائدة، بينما تنتج الـ 30% الباقية أصنافًا خاصة بالنبيذ وهي تتطلّب طريقة زرع مختلفة.
وأوضح لحود أنّ التحديات كبيرة أمام زراعة العنب وصناعة النبيذ لناحية أكلاف الكهرباء واليد العاملة والوضع الاقتصادي الصعب، ورغم ذلك، سجلت الصادرات أرقامًا كبيرة في الأعوام السابقة، وهي في تنامٍ مستمر.

 

قصة نجاح وريادة
قصة النبيذ في لبنان هي قصة نجاح وضعت اسمه في الريادة منذ آلاف السنين، يخبرنا عنها رئيس مجلس إدارة المعهد الوطني للكرمة والنبيذ السيد ظافر شاوي، فيقول: "لبنان هو من أقدم الدول المنتجة للنبيذ في العالم. ويقال إنّ الإنتاج الأول كان منذ نحو4000 سنة قبل الميلاد، غير أنّه لا إثبات أكيدًا لكونه الأقدم، فقد يكون الموطن الأول لهذا المنتج في أرمينيا أو جورجيا أو إيران. ولكن ما يمكن تأكيده هو أنّ لبنان هو أول من صدّر النبيذ إلى العالم، إذ وُجد النبيذ اللبناني في مقابر الفراعنة في مصر، وفي قرطاجة وإسبانيا وجميع دول المتوسط".
ولفت شاوي إلى أنّ الرسومات على جدران معبد باخوس في بعلبك تثبت دور النبيذ في تاريخ لبنان القديم، وقد مر إنتاجه بمراحل ازدهار وأخرى مُنعت فيها صناعته، إلى أن عاد لأول مرة في كساره - البقاع في العام 1857 على يد الآباء اليسوعيين.
لم يكن عدد منتجي النبيذ في ثلاثينيات القرن العشرين يتجاوز أصابع اليد الواحدة حسب تقديرات البعض، وما لبث العدد أن تكاثر بشكل هائل وفق شاوي، الذي لفت إلى أنّ نسبة 70% من الأراضي المزروعة بالعنب تتوزع بين البقاع وبعلبك و30%  في جبل لبنان، الجنوب، جزين والبترون.
وأكّد شاوي أنّ التركيز تحوّل باتجاه التصدير إثر الأزمة المالية وجائحة كورونا، مؤكدًا نجاح النبيذ اللبناني في غزو العالم، إذ يُصدّر 55% من إنتاجه إلى 35 دولة. وفيما يستمر التصدير إلى فرنسا وسويسرا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا، والدول الاسكندنافية، والولايات المتحدة وكندا، تتواصل المساعي للتصدير إلى الصين.  
يُعدّ قطاع النبيذ واحدًا من أهم القطاعات المنتجة في لبنان، لكنّه يواجه عددًا من المعوقات وأبرزها استيراد الآلات والزجاجات وسواها من المستلزمات، فبشكل عام يتم استيراد كل شيء باستثناء العنب.
ويوضح شاوي أنّ أسعار الأرض مرتفعة في لبنان نظرًا لمساحته الصغيرة، ما يجعل من نسب عائدات هذه الصناعة منخفضة نسبيًا، مشيرًا إلى ميزة لبنان بفصوله الأربعة وبالتربة الجيدة وبكميات الأمطار التي تُسهم في إنتاج عنب جيد، ما يجعل النبيذ اللبناني "الأطيب والمميّز عالميًا"، فالمنافسة البنّاءة بين المنتجين ترفع من جودة المنتج سنويًا. ويقول شاوي في هذا الصدد: " إذا كنا عاجزين عن إنتاج النبيذ الأرخص للأسباب المذكورة أعلاه، فنحن قادرون على إنتاج النبيذ الأفضل في لبنان وفي معظم دول العالم".
يرتبط التخطيط للمشاريع المستقبلية المتعلّقة بإنتاج النبيذ بالوضع العام في لبنان، مع ذلك يؤكد شاوي نجاح قطاع النبيذ بفضل انفتاحه على معظم دول العالم، مُعلنًا عن مشاركة منتجي النبيذ هذه السنة في المعرضَين الدوليَّين الخاصَّين بالنبيذ: الأول هو "Wine Paris & Vinexpo Paris 2024   " الذي يقام في شهر شباط الحالي، وهو من المعارض الأكثر شهرة في العالم. والثاني، معرض"ProWein" الذي يُقام  في مدينة دوسلدورف في ألمانيا خلال شهر آذار المقبل. وهذا ما يؤكد إرادة منتجي النبيذ في الاستمرار وتثبيت وجودهم على الساحة العالمية الصناعية.  وإذ يؤكد ضرورة مراقبة جودة المنتج وتحسينه، يلفت شاوي إلى حصول عدد كبير من منتجي النبيذ في لبنان على الجوائز والميداليات إثر مشاركتهم في مسابقات عالمية.

 

 

سياحة النبيذ والتراث الثقافي اللبناني
تُعدّ سياحة النبيذ رافعة للاقتصاد المحلي، من خلال مهرجانات التذوّق التي يقصدها جمهور من المتذوقين والخبراء، والعروض السياحية، ورحلات استكشاف مواقع الإنتاج التي تتوزع في مناطق ريفية. وعندما نتحدث عن مواقع الإنتاج فالأمر يتعلق بنظامٍ بيئي واسع. ولا تُشكّل هذه السياحة مصدر إيرادات لمناطق إنتاج النبيذ والمجتمعات المحلية فحسب، بل يمكن أن تعمل على إظهار وتطوير وحماية التراث الثقافي للنبيذ ودعمه، واستدامة مناطق إنتاجه. يغطي هذا النموذج الاقتصادي جميع المناطق والمجتمعات اللبنانية كافة، وجدير بالذكر أنّ صيف 2023 شهد مهرجانات للنبيذ في جبيل وضهور الشوير وبولونيا والبترون وزحلة.
في هذا السياق يُذكر أنّ وزارة السياحة وقّعت في تشرين الثاني 2022 مذكرة تفاهم مع تطبيق "100% LIBAN” الذي خصص موقعًا إلكترونيًا لسياحة النبيذ، وقد تمّ تصميمه للسماح للأشخاص الذين يرغبون في استكشاف تاريخ وتقاليد وثقافة صناعة النبيذ اللبناني، والتعرّف إلى المناطق المخصّصة لإنتاج النبيذ، مع إمكان المشاركة في جولات داخل الكروم ومواقع التصنيع فضلًا عن التذوّق وزيارة المتاحف وغيرها... تأتي هذه الخطوة لتعزيز سياحة النبيذ في لبنان بالتعاون مع جهات محلية ودولية، بما في ذلك المسار الثقافي للمجلس الأوروبي - طريق الكرمة والنبيذ "Iter Vitis" ، وتشكّل فرصة لإلقاء الضوء على طُرق هذه السياحة ومساراتها.  

 

 

قوانين وقرارات ترعى إنتاج النبيذ ومراحل تسويقه
ترعى صناعة النبيذ اللبناني وتسويقه قوانين وقرارات كان آخرها القانون رقم ٢١٦ الصادر في 29 أيار 2000 الخاص بإنتاج وصنع وبيع واستيراد النبيذ على اختلاف أنواعه. ويُعتبر نبيذًا لبنانيًا النبيذ المنتج من العنب اللبناني فقط والمخمّر في لبنان على أراضيه كافة. لا يُنتج النبيذ اللبناني إلا من الصنف الأم المعروف بـ “Vitis Vinifera”، ويُمنع استخدام محاصيل الكرمة الناتجة عن تلقيح أنواع غير مخصصة للنبيذ في صناعة هذا المنتج.
كذلك صدرت عن وزارة الزراعة قرارات وتوجيهات تشمل عمليات التصنيع والتخزين والتعبئة والنقل وتحدد المتطلبات الفنية والصحية في مختلف هذه المراحل، وتجنّب كل ما يُمكن أن يؤثر سلبًا على سلامة المُنتج النهائي.

 

 

 متطلبات المرحلة: منافسة وصمود
بدورها أكّدت رئيسة الاتحاد اللبناني للكرمة والنبيذ ميشلين توما، تمتّع لبنان بالمناخ والتربة المثاليَّين لزراعة العنب وصناعة النبيذ، بالإضافة إلى وجود الخبراء اللبنانيين والأجانب، ما يسمح بإنتاج نبيذ ذي جودة عالية، يستطيع منافسة أهم المنتجات العالمية. وأوضحت أنّه من المستحيل زيادة كمية الإنتاج نظرًا لصغر حجم المساحات المزروعة، وارتفاع كلفة الإنتاج الصناعي، وبالتالي يتم التركيز على جودة المنتج. ولا شكّ أنّ قطاع النبيذ اللبناني قد حقّق سمعة طيبة جدًا في الخارج، بالإضافة إلى الخبرة التي كوّنها المصنّعون من خلال توارث هذه الصناعة من جيل إلى جيل، وسعيهم  إلى مزيد من التطوّر، سواء على صعيد تقنية الصناعة أو نوعيات النبيذ الجديدة التي يقدّمها. ورأت أنّ منتجي النبيذ في لبنان صقلوا خبرتهم بالعلم والمعرفة، ما سمح لهم بإنتاج نوعيات مختلفة من النبيذ يحمل بعضها بصمة لبنانية.
 

 

صادرات قياسية
وكشفت توما أنّ تصدير النبيذ اللبناني حقق أرقامًا قياسية تتطلب حرصًا وجهدًا كبيرين للمحافظة عليها، من خلال التشدّد في الرقابة بالنسبة إلى تصنيع هذا المنتج، مع تطبيق القانون الخاص بتنظيم القطاع الصادر في العام 2000 بحذافيره، والذي يشبه إلى حدّ بعيد القانون الفرنسي، فالتزام المواصفات سمح للنبيذ اللبناني بالوصول إلى العالمية.
كما تمنّت توما تنظيم عملية استيراد النبيذ من الخارج، مشدّدة على أنّ ذلك لا يعني منع الاستيراد، ولكن على الأقل إخضاع ما يُستورد لمعاملة مشابهة لتلك التي يلقاها النبيذ اللبناني في البلدان التي يُصدّر إليها. وبذلك، تتم حماية الصناعة من ناحية، وحماية المستهلك اللبناني من نوعيات الكحول التي تدخل إلى البلد من ناحية أخرى.
 

 

المشاركة في المعارض
وأوضحت توما أنّ الاتحاد قد تأسّس في العام 1997، وكان يضم نحو خمسة منتجين وأصبحوا اليوم 25 مصنّعًا يمثّلون القطاع الخاص. وبعد انتهائه من تنظيم القطاع، صوّب الاتحاد أنظاره نحو تسويق المنتجات عالميًا إذ إنّه يشارك بالمعارض الدولية الخاصة بالنبيذ، وسوف يشارك 11 مصنعًا هذا العام في مؤتمرات للنبيذ تُقام في فرنسا واليونان وألمانيا، بغية تعزيز سوق التصدير. ولفتت إلى تحوّل مساحات كبيرة من كروم العنب نحو الأصناف المخصّصة لصناعة النبيذ، وتسبّب هذا التحوّل في إنتاج فائض خلال خمس سنوات، ما يحتّم البحث بشكل دائم عن أسواق جديدة.
وإذ أشارت  إلى تداعيات الأزمة في لبنان على صناعة النبيذ، خصوصًا لجهة كلفة الإنتاج العالية مع ارتفاع كلفة النقل بعد جائحة كورونا، شدّدت توما على أنّ الأزمة ليست في لبنان وحده، بل هي عالمية. ورأت أنّ ذلك يُحتّم على الصناعيين الصمود في هذه المرحلة، والتمسّك بالمعايير التي سمحت للإنتاج اللبناني بالمشاركة في مسابقات عالمية.