الهجرة

الهجرة
إعداد: العميد الركن صالح حاج سليمان
مدير التوجيه

لقد ذهبت هجرة اللبنانيين بعيداً في الأمثلة والأقوال حتى باتت واحدة من تقاليد هذه البلاد وعاداتها وطبائعها، فكم من مقولة عن لبناني سبق غيره إلى قارة، وكم من حكاية عن لبناني تقدم عن غيره في بلوغ كوكب أو نجم أو مجرّة... أو استراحة بين الغيوم.

ودرج الباحثون عندنا على تدوين الكلمتين في الحديث عن اللبناني: المقيم والمغترب، والعلاقة بين الاثنين في تواصل عبر أجيال وأجيال، ويشهد الكثيرون على أن ذلك كان ليستمر ويدوم لولا هذه القفزة المادية العجيبة التي ضربت تراث الشعوب كافة، ليس في هجراتها فقط، بل في عقر ديارها، وخلف قباب قلاعها، خطفت الحداثة وسادت العصرنة، وانقطع البعض عن إرث أجداده حتى في أرضه وبين حجارة منزله.

والهجرة في أحيان سلبية يخسر الوطن بفعل تأثيراتها طاقاته وقواه وآمال مستقبله، خصوصاً ان لم يكن بعدها رجوع أو أمل باللقاء، وفي أحيان إيجابية تيسّر العمل، وترفد الوطن بالمال والمعرفة، وتؤدي في غير ذلك إلى التفاعل بين المجتمعات، والى التبادل الثقافي والتواصل الحضاري، وهي بذلك ليست قيمة اقتصادية وحسب، بل قيمة إنسانية عالية وقد أبدع اللبنانيون على هذا الصعيد، فكان منهم الشاعر وكان الأديب وكان الموسيقيّ وكان العالم وكان المصلح الاجتماعي والقائد العسكري والحاكم السياسي.

لكن تلك الهجرة التي كان أسلوباً اختيارياً عادياً في الحياة – من هنا ما قيل عنها: هجرة داخلية بين الريف والمدينة، أو هجرة خارجية إلى البعيد والأبعد – أصبحت في بعض الأحيان قسرية تفرضها ظروف أخرى غير ظروف العمل والدراسة وما إليهما، ظروف لا يذكرها أحد بالخير، إنها ظروف الأمن أحياناً، وظروف العوز وضيق سبل العيش أحياناً وأحياناً. من هنا الدور الإيجابي التاريخي للجيش بسهره الدائم على أمن المواطن، وعلى حماية مؤسساته واستمراره في التفاعل والتعاون الدائمين مع شعبه من المدرسة إلى المصنع إلى الحقل إلى دار العبادة. وهذا ما ينبّه اللبناني المقيم، ويذكرّه ويقنعه، بضرورة تأكيد ارتباطه بأرض الأجداد، ويطمئن اللبناني المهاجر ويدفعه إلى توجيه دفة سفينته نحو شواطئ بلاده من جديد.

صحيح أن اللبناني ذاك قد لا يجد مكاناً يأوي إليه في بعض مدننا، لو عاد، لكنه سيجده في البعض الآخر، وسيجده في جبالنا حيث تكاد السفوح تقفر والأودية تستسلم لأوهام الصدّى، فلو حضر إلى هناك وسأل عصفوراً عن إمكانية وصوله إلى بقعة ينصب فيها خيمته، لأشار إليه العصفور بالإيجاب، شرط أن لا يرمي حجراً في وجه أخيه... ولا في وجه العصفور.