باختصار

الهجرة إلى العالم
إعداد: العميد الركن حسن أيوب
مدير التوجيه

لم يهمل اللبناني وسيلة رأى أنها تؤدي إلى تأمين الحياة الكريمة له ولعائلته، وقريته والحي الذي يعيش فيه، وبالتالي وطنه. وقد واجه الصخر في سبيل ذلك، وحوّل الأرض البور إلى جنائن تغنّى بها أهل الشعر والأدب على مدى تاريخ لبنان، ولم تعرف البطالة طريقها إلى هذا المواطن في أي يوم، ولم «يعشّش» الكسل في عقله ولا في جسمه، وكان ولا يزال يبادر ويحاول ويقتحم، وقد دفع به حبّ المغامرة إلى أن يقرع أبواب العالم، وأن يكون لقرعه ما يتمنّى من صدى. وهو لم يشكّل عبئاً اقتصادياً في البلدان التي قصدها، ولم تنشأ هناك الأعباء مع قدومه، إنما ظهرت الحلول وأطلّت الانفراجات، لمصلحته أولاً، ولمصلحة وطنه الأم ثانياً، ولمصلحة مجتمعه الجديد وأبناء وطنه الثاني في كل حال، حيث غدا هناك زارعاً وعاملاً وصانعاً وتاجراً ومهندساً وطبيباً وفنّاناً وسياسيّاً وعسكريّاً، والدّلائل كثيرة.
وفي اعتبارنا نحن اللبنانيين، أنّ لبنان بلد صغير بمساحته، كبير بالمعاني التي يمتلكها والقيم التي يمثلها والثقة التي ينظره العالم بها. وقد يكون السبب تاريخه العريق، ومحبّة أبنائه له واعتدادهم به، وقدرتهم في الوقت نفسه على التّفاعل الحضاري مع الآخرين، وبَعد هذا وذاك، ميلهم إلى السفر والهجرة في ذهاب وإياب لا ينتهيان، وبذلك يكون العالم بأسره امتداداً معنوياً له، فتمتدّ مساحته إلى حدودها القصوى، ويصير كبيراً في عيون الجميع.

ويعود الاغتراب اللبناني إلى أسباب وأسباب، منها الاقتصادية ومنها الاجتماعية والسياسية، ومنها ما يتم في ظروف عادية أيضاً، لا تخلو من البحبوحة والقدرة على القرار في الاختيار، وتعود إلى الرغبة في التّغيير، والميل إلى المعرفة والاكتشاف.
مع ذلك، لا يشكّ أحد في أنّ المهاجر الذي ينتج ويجني، ويحقق الدرجات العلمية والاجتماعية المتقدمة حيثما يحلّ ويستقر، يتعرض بالمقابل لمصاعب وضغوط قد لا يتعرض لها في بلده وبين أهله ورفاقه. وقد عانى اللبنانيون الكثير على مدى هجرتهم، وليس أدلّ على ذلك هبوط بعضهم قديماً، في بلدان لم يكن في بالهم الهجرة إليها، إنما رُسوّ بواخر السفر عند شواطئها هو الذي حتّم ذلك، فقد تكون وجهة المسافرين القارّة الأميركية، لكنهم يجدون أنفسهم في القارة الآسيوية بمعرفة منهم، وأحياناً من دون معرفة، وذلك حين ينضب ما في جيوبهم من التكلفة اللازمة، فيرضون على مضض بأن يختصروا الرحلة الطويلة، ويجدّون السعي حيث هم، وفي حسابهم أنّ دنيا الله واسعة، وأنّ الغربة هي الغربة في أيّ مكان تكون، والحنين إل الوطن مؤثّر فعّال، حتى

وإن ابتعدوا عنه لمرمى حجر واحد في المحيط الكبير.
وفي جغرافيته الجديدة، تمتّع هذا المهاجر الرسول بالحضارة والتقدم إن حصلا، وعانى الاضطراب والصراع والأزمات على أنواعها إن طرأت، وذلك ما شكونا منه جميعاً في بعض دول القارة الأفريقية مؤخّراً. في مقابل هذا، لم يتأخّر المجتمع اللبناني عن متابعة أوضاع بنيه في الخارج، والوقوف إلى جانبهم فور أن واجهتهم الأنواء والأخطار، تماماً كما استمروا هم في الارتباط به والدفاع عن قضاياه الوطنية العادلة في كل المحافل، والوفاء هنا يقابل بالوفاء، والإخلاص لا بدّ أن ينتهي إلى المشاركة والتضامن في السراء والضراء، وهذه هي عادات بلادنا وتقاليدها.