تراث

تنفيذ متحف ذاكرة بيروت يتقدّم
إعداد: جان دارك ابي ياغي

عانت مدينة بيروت، الغنية بإرثها المعماري والثقافي، ليس من إضطرابات الحرب المدمّرة فحسب، بل أيضاً من خسارتها التدريجية أبنيتها التراثية بسبب هجمة البناء الحديث المتّسم بطابع المضاربة العقارية. منذ العام 1997، واجه مبنى بركات (رائعة العام 1924) خطر الهدم على الرغم من طابعه المعماري المميّز. إلا أن المساعي التي بذلها المهندسون المعماريون والناشطون في المحافظة على التراث والصحافيون والمنظمات غير الحكومية، مع الجهات الرسمية نجحت في المحافظة على هذا المبنى. وبموجب المرسوم الرقم 10362، استملكت بلدية بيروت العقار الرقم 1237 - الأشرفية، وستقوم بتحويل مبنى بركات الى متحف ومركز ثقافي يركّز على تاريخ التطور المدني لمدينة بيروت، ويقدّم للناس نقطة إلتقاء وتفاعل ونقاش في قلب عاصمتهم. فما هي قصة المبنى الأصفر؟ الجواب في هذا التحقيق لمجلة «الجيش» بعد جولة ميدانية في أرجائه.

 

 قطعة فريدة في فن العمارة المشرقية
يعتبر المبنى الأصفر الواقع عند تقاطع طريق الشام وجادة الإستقلال قطعة فريدة في فنّ العمارة المشرقية. لكن فرادة هذا المبنى لا تقتصر على طابعه المعماري. فالحرب تركت بصماتها الواضحة عليه وجعلت منه شاهداً وتذكاراً. إنه شاهد للحرب صنعته يد الحرب نفسها وهذا ما يمنح إعادة تأهيل المبنى طابعاً رمزياً كبيراً، إذ إنها ستتم من دون إزالة متاريس القنص وشواهد الحرب، ليكون المبنى نقطة إلتقاء ومصالحة، ومكاناً للحفاظ على الذاكرة: ذاكرة المدينة بحلوها ومرّها.
يعتبر المبنى الأصفر ايضاً واحداً من العلامات الفارقة في هندسة المباني وأجملها في تلك الحقبة (العشرينيات).
ويتألف من أربع طبقات تزينها أعمدة جميلة وقناطر مزخرفة ودرابزون مشغول. ويتميز بـ«متكأ الفراغ» هذا الجسر الممدود في الهواء والملتف كحزام حول الأعمدة فيربط شرق البناء بغـربه ويمحـو الحدود بين الجهات، ويعتبره المهندسون والخبراء إنجازاً طليعيـاً هندسياً وتراثياً فريداً وذا قيمة معمارية إستثنائية ونموذجاً من هندسة العشرينيات.
تعرّض المبنى الأصفر لخطر الهدم العام 1997، الى أن صدر المرسوم الرقم 10362 (تاريخ 26 حزيران 2003 في العدد 31 من الجريدة الرسمية تاريخ 3/7/2003) القاضي باستملاكه من بلدية بيروت وتحويله الى «متحف وملتقى ثقافي وفني وحضاري ومكان لحفظ الأبحاث والدراسات التي تتناول مدينة بيروت عبر التاريخ». وقد زار المبنى وفد هندسي من بلدية باريس لمتابعة مشروع «متحف ذاكرة بيروت» الذي أصبح في مرحلة متقدمة من التنفيذ، وعقد لقاءات في هذا الصدد مع مجلس بلدية بيروت ومديرية الآثار.
 

من الذاكرة
في أثناء تجوالنا بين طبقاته، وجدنا أوراقاً وصوراً وأدوات وشهادات ورسائل وقصاصات جرائد وأوان مطبخية صدئة وبطاقات وأغراضاً عديدة كانت مبعثرة على الأرض، في الشقة التي كان يسكنها الدكتور نجيب الشمالي (جراح في طب الأسنان)؛ سكن مبنى بركات منذ العام 1943، ولا يزال أرشيف حياته منثوراً على بلاط الطابق الأول، كما لو أن الزمن توقف فجأة، ليظل المكان رمزاً للبقاء ولاستمرارية الحياة في مدينة دائمة التغيّر.
مبنى بركات ينتمي الى المرحلة الإنتقالية بعد بيوت الحجر ذات الطبقتين وهي حقبة «المباني الصفراء» مع سقف عالٍ وتوزيع مرتكز على البهو الرئيس. لكنه يتميّز بالشرفات التي تشكّل زاوية رائعة بأعمدتها المزخرفة. بُني على مرحلتين: بنى يوسف أفتيموس الطابق الأرضي والطابق الأول سنة 1924وأتمّ المهندس المعماري فؤاد قزح الطابق الثاني والطابق الثالث سنة 1932 مستعملاً الإسمنت المسلّح كمادة أساسية في البناء. وقد حاز إجازة «أجمل مبنى سكني في بيروت» وفق الدكتور بركات (نجل نقولا وفيكتوريا بركات صاحبي المبنى). «لقد دفعوا ليرة ذهبية مقابل كل قطعة حجر منقوشة».
ونتابع الجولة في أرجاء المبنى: بلاط إسمنتي مزيّن بالنقوش النادرة ذات الألوان الغنية، رخام وأبواب مزخرفة وجدران مطلية باللون الزهري والأصفر والأخضر والأزرق في مساحات يملأها نور الشمس.  
خلال الحرب، قسم «خط التماس» مدينة بيروت الى نصفين واعتبر تقاطع السوديكو من محاور القتال الأساسية: أصبح المبنى خالياً تماماً من السكان. ولا تزال شجرة الفيكوس التي غطّت طريق الشام ذاكرة صامتة على «الخط الأخضر». أما في الحديقة الخلفية، فشجرة زيتون، وشجرة اكي دنيا، وياسمينة، من ذاكرة حدائق بيوت بيروت.

 

يوسف أفندي أفتيموس
يوسف أفندي أفتيموس (1866 - 1952)، إسم لمع في عالم الهندسة وقد سطع نجمه في النصف الأول من القرن العشرين. خلّف إرثاً من بصمات على وسط بيروت التجاري من خلال ساعة السراي التي تطلّ على المدينة من على تل السراي؛ والمسرح الكبير الواقع في نهاية شارع المعرض، ومبنى البلدية الذي يشكّل بوابة عبور الى منطقة فوش - اللنبي. وعلى بوابة البلدية خلّف أفتيموس كتابة مفادها ما يأتي: هاك بصماتنا إشارة علينا، فانظر إذاً الى بصماتنا.
انطلق في سيرته المهنية أواخر الحقبة العثمانية وتابع انطلاقته في أثناء الانتداب الفرنسي وزمن الإستقلال. كان هو المصمّم والبنّاء وصاحب الرأي والقرار، فأدّى بذلك دور المشارك النشيط في تكوين أول معالم بيروت الحديثة. وبمعزل عن عمله كمهندس مدني، ومهندس معماري ومخطط ومقاول، تبوأ مناصب مهمة في الحقل العام فكان مهندس المدينة بين العامين 1897 و1926، وأول وزير يتولى حقيبة الأشغال العامة بين العامين 1926 و1927.
في أعمال أفتيموس تجسيد للتقليد المتشعّب المتّبع في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. عُرف عنه النمط العثماني الجديد الذي طبّقه على أولى مباني بيروت مثل السبيل الحميدي (أو نافورة الحميدية) وساعة السراي وقد بناهما العام 1900 احتفالاً بعيد السلطان عبد الحميد الثاني. وتُرجم تأثّره بالنسق المصري نمطاً مملوكياً جديداً اتبعه في أعمال لاحقة مثل مبنى البلدية (1925) والمسرح الكبير (1930). ووصف أفتيموس كلا النمطين بالشرقي أو العربي وهي صفة عامة عادة ما كانت تستخدم في أدبيات الحقبة للدلالة على أنماط مختلفة من النزعة الإحيائية الإسلامية التي رأت النور مع المماليك وحتى البربر والعثمانيين. وفي بيروت، استخدم أفتيموس النسق الشرقي في المباني العامة وذلك تعبيراً عن هوية المنطقة. وشكّل هذا النسق، باعتبار مهندسين أوروبيين، نسقاً غريباً لا بل فاتناً يتمتّع بقدرة كبيرة على التزيين ويمكن أن يشكّل الواجهة الزخرفية لعدد من المباني المشيّدة على النمط التقليدي والغربي. ولكن في عواصم مهمة مثل القاهرة واسطنبول، غالباً ما قارب المهندسون المعماريون والمهندسون الأجانب النسق الشرقي على أنه ردّة فعل على انتشار الطابع الغربي.
ولم تكن هندسة أفتيموس محصورة بالتقليد «المستشرق» وحسب، وأبرز دليل على ذلك مبنى بركات الذي أتى ليدحض نمط المسكن التقليدي، ويمكن اعتباره أول الأمثلة عن بناء من صخر وإسمنت يتّسم بالارتفاع الغربي غير المعهود. وتمحور عمل أفتيموس في حقل الهندسة المدنية حول مشاريع بنية تحتية مثل نفق شكا وجسر الدامور وأنظمة جرّ المياه في كل من النبطية وطرابلس. فمن الناحية الثقافية شكّل أفتيموس صورة لحقبته بل شخصية من تناقضات تلم بتدريس اللغة العربية الفصحى وكتابتها بقدر ما تلمّ بعلم الهندسة والهندسة المعمارية في كل من شيكاغو والقاهرة وبيروت، وبمبادئ العمارة باستخدام الحجر كما الإسمنت.
أفتيموس من مواليد دير القمر من لبنان، تعلم اللغة العربية ودرّسها في الكلية السورية البروتستانتية التي عُرفت لاحقاً باسم الجامعة الأميركية في بيروت (AUB). العام 1893 تخرّج في حقل الهندسة المدنية من الولايات المتحدة وحظي بفرصة العمل مع ماكس هيرز (Max Herz) الرائد في الهندسة الجديدة، فكان له عوناً في التنظيم للمعرض المصري في مهرجان شيكاغو العالمي. درس الهندسة المعمارية في أنتويرب، بلجيكا، قبل أن يحضر الى لبنان حيث أسّس شركته الخاصة في بيروت.