نافذة

حتى آخر شتلة صعتَر
إعداد: روني ألفا

لا يمكنُ الحديث عن الحدود من دونِ الجيش. يتسعُ الحقلُ المعجمي للسيادة ويضيقُ ويبقى الجيشُ مفردةً مؤسِّسَةً لكل لغةٍ وكل كلامٍ وكل تفاوض. سيكونُ على الجيش أن يخوضَ مهمةً شاقةً على طريقِ الترسيم. قلةٌ ربما يعرفون أنّ الملفَّ كان في عهدة المؤسسة العسكرية من حيث التحديد والتثبيت. تحديدُ المواقعِ الجغرافية وتثبيتها محسوسةً مرئيّة.

الجيش حارسُ الحدود. مع العدو ستكون مفاوضات غير مباشرة. خبثٌ ومماطلةٌ ومناوراتٌ وابتزازٌ وتسويفٌ ستكون مجتمعة على الجهة التي سيجلس عليها العدو. وضوحٌ وثباتٌ وعنادٌ في الحق وصبرٌ وأناةٌ ودفاعٌ عن آخِر سنتمترٍ ستكون مجتمعة على الجهة التي سيجلس عليها الجيش.

بحرًا وبرًّا سيكونُ الجيشُ عينًا ساهرة. عليه تقعُ مهمةُ الحفاظ على ثروةِ لبنان المائية والغازية والنفطية معًا. موقفه سيحدد مستقبلَ بلدنا واستقرارنا الاقتصادي والاجتماعي. لن تكونَ المفاوضاتُ غير المباشرة نزهةً لكن الجيش تعوّدَ على الألغام. يعرف كيفية نزعها وتفكيك عبواتها. قائده أتى من الميدان ويحرص على آخِر شتلة صعتر برّي نبَتَت على الأسلاك الشائكة.

في الداخل أيضًا. مفاوضاتٌ مع القَدَر. الجيش يفاوض القدر الذي أدخلنا إلى زمن الانفجارات والحرائق والمآسي. في كل مرّة تتعثّر الحلول يُستَدعى الجيش. مواجهة الإرهاب. توزيع المساعدات. رفع الأنقاض. كل ذلك مترافقًا مع ارتقاء شهداء وإصابة جرحى. جيش ما يزال يستيقظ قبل صياح الديك. صياحه مسموع في كل أرجاءِ الوطن.

وسط التحديات الاقتصادية القاسية تبقى عقيدة الجيش ثابتة مترسخة فولاذية. كل يوم إضافي مأزوم يمر على لبنان يزيد اللبنانيين يقينًا أنّ جيشهم ملاذ حقيقي. يعدُ ويفي. يقولُ ويفعل. يخططُ وينفّذ. ينتظر اللبنانيون هذا النموذج في مؤسسات الدولة. ينتظرون أن تشبِه الجيش.

منذ مدةٍ قصيرة لبى القائدُ دعوةَ نظيره البريطاني. دولُ العالم تدعمُ تسليحَ الجيش لمواجهة الإرهاب. اكتسبت المؤسسةُ العسكرية ثقةَ المجتمع الدولي واحترامَ جيوش العالم. هذا أمرٌ يجب التأسيسُ عليه. استخلاصُ تجربةِ كسبِ الثقة يجب تعميمُها. مبنيةٌ أولًا وأخيرًا على المصداقيةِ واحترامِ المواثيقِ الدولية والمرونةِ في إدارة الأزماتِ الوطنية. ثلاثيةٌ فريدة.

وسطَ كل هذه الإنجازات يتجنبُ الجيش قرعَ الأجراس. الواجبُ أبكَم. عندما يتعلّمُ الواجبُ الكلامَ يصبِحُ تسويقًا. التسويقُ يصحُّ في التجارة ولا يصحُّ في الدفاعِ عن الأوطان. الجيشُ في بياناته القليلة يتكلمُ بلغةِ التقارير لا بلغةِ التصاريح. ليس هناك في إعلامِ الجيش حيّزٌ لـ«صرّحَ» و«أضافَ» و«أردفَ» و«خَتَمَ». الحقلُ المعجميُّ العسكريُّ يفيدُ بالتنفيذ والإنجاز والتدخل والنتيجة.

الأيامُ المقبلةُ على الجيش ستكون مدججةً بالمهمات. متشعبة في الوجهات. ضبطُ الأمن. حراسةُ الحدود. مقاربةُ التفاوض. مواجهةُ الإرهاب. مواكبةُ وجع الشعب. إعادةُ الإعمار. معالجةُ أزمةِ التهريب. إحباطُ الهجرةِ غير الشرعية. قمعُ آفةِ المخدرات. محاصرةُ المجرمين. باختصار كل ما يجعلُ من حياتنا حياةً آمِنة.

التحدياتُ كبيرة. يمكن أن نشهدَ سباقًا بين الهشاشةِ والاستقرار. بين النظامِ والفوضى. سيكونُ الجيشُ حيث يجبُ أن يكون. في أدائه لواجبه أتذكّرُ دائمًا انطباعًا نتناقله منذ أجيال. انطباعٌ أسرَّ به والدي إلى والده وأسرّ به إبني إليّ مفاده أنّ بزّةَ الجيش على حاجزٍ عسكريٍ يمكنُ رؤيتها من بعيد. تُحدثُ فينا شعورًا هو مزيجٌ من القوة والثقة والحب والأمان. ليس هناك في لغتنا على غناها كلمةٌ واحدةٌ تختصرُ هذه المشاعرَ الأربعة.

الثقةُ والحبُّ والقوةُ والأمانُ ذهبت بقائدِ الجيش إلى بريطانيا. ستذهبُ به إلى دولٍ أخرى متسلحًا بالشعب. شعبٌ تعلّمَ على مدى عشرات السنين أن ينشرحَ صدره عند امتثاله لحاجزٍ للجيش. شعبٌ يخفف من سرعة مركبَتِه عند قراءته يافِطَةَ «خفف سيرك حاجز». شعبٌ يُخرِجُ رأسه من باب السيارة. شعبٌ يتبسّمُ للعسكري. شعبٌ يقول له: يعطيك العافية وطن!