أخبار ثقافية

حول كتاب الرمل ديوان النخيل
إعداد: العميد أسعد مخول

لا يحتاج رشيد درباس لتنضيد ما ينثره في قصائد، أو لتوضيب ما يحرره في كتاب.
فقصائده هي الكلام المغرّد المرفرف دوماً بين الرصانة والعفوية، في الأولى الوزن والإيقاع، وفي الثانية الدعابة والرفاهة وخفة الروح، وصفحات كتابه هي مجموع الندامى الذين يتحلقون حوله منصتين أينما كان اللقاء.

إلاّ أن المطابع نالت حصتها منه مرتين: في "همزة الوصل"، كتاباً أول، وفي أخيه الثاني: "الرمل ديوان النخيل". أنا لم أعرّض نفسي لمناقشة خاسرة مع الشاعر حول العنوان الأخير، وإن يكن كلامي المنشور هذا سيعرضني لتلك المناقشة لا محالة. في حالة النصف الثاني من العنوان، وقبل ظهور العنوان بزمان، كان لنا حوار حول النخلة، كنا خلاله متفقين في التغني بها شجرة مواجهة للصعاب رافعة سعفها أغصاناً تنشر الظل وتريح المتعبين. واستشهدنا، آنذاك، كما نستشهد دوماً، بما قاله رضوان الشهال لسعيد عقل عن تلك الشجرة: نافورة نبات توشّح الفضاء بما تملك من أخضر الألوان. لكنني قلت له: لو كان لي لكرّمت النخلة تلك بالتراب أنثره فوق جذورها ينعشها، ولو كان لي لألبست الرمل جلباب أخيه التراب، وسعيت لتخفيف الهجير في كل مكان. وكان في بالي حين ذاك أنني تعرضت للانتقاد من كثيرين عما كتبته مرة عن أن "الصحراء ربيع جفّت مآقيه"، وكنت أعلنت ذلك حذراً من الجفاف والعطش وطلباً للماء في كل وعاء.

وكنت أعلنت ذلك أيضاً طلباً للاعتدال في كل أمر، وإعراضاً عن التطرف طغياناً من الشمس كان، أو إقامة ثقيلة من جليد أو ضباب.
أنا لا أخالف الأستاذ رشيد، ولا أختلف معه، وهذه مناقشة. إنني مع الرمل مؤيداً متضامناً أرويه ما استطعت، وأبلّله ما تمكنت، وأرطّبه حبة حبة، وأحيّي إلتماعه الأصفر الذي يعلن الشروق والضياء. لكنني أتمنى أن يصبح الرمل، في مدى عمره وسعيه وصموده، معشوشباً مشجّراً مخضرّاً. أما صديقي الشاعر فإنه يتغنّى به مثمناً أحواله، معدّداً أوصافه، مع أنني لم أره مرة يتبختر بين كتبانه. فإن استرحل فإلى بلاد "غابيّة" في الغالب، وإن ترّب ساق زهرة فإنما بحبّات بنيّة أو سوداء، وإن إطمأن فإلى ظلال الصنوبر خصوصاً البرّي منه، ذاك المتهادي في الحصة الجمالية التي تمتلكها بلدته عين يعقوب في سفوح عكار.

لكن للرشيد أن يكتب كما يشاء، لأن ما يكتبه يأتي جميلاً، وله أن يحكي كما يحلو له، لأن الحلاوة هي في تلاوته وإلقائه خلف منبره الانساني المتنقل، وأقول متنقلاً لأنه لو تكلم وهو على الأريكة لبدا أمامه منبر من نوع ما، ولو تكلم وهو فوق الشجرة لبدا في منبر آخر، ولو كان أمام المجموع، ولو كان في الندوة... ولو كان أمام نفسه من دون غيرها، وهذا من النادر، ويصعب علينا أن نراه منفرداً حتى في حالة القاضي المنفرد الذي يفترض أن يكون بمفرده بحكم "أعراضه" الحقوقية المعروفة.
إن من الحق أن أُلام لأنني استبدلت الحديث عن الكتاب بالحديث عن الكاتب. لكن، إن كان الرمل ديوان النخيل، أليس صاحب القلم هو ديوان الديوان؟
أليس المسكوب في واحة الرمل هو حبره، وعلى جذور النخيل أيضاً، مع الظن بأن صلابة هذا الأخير قد لا تحتاج كثيراً للري الذي تحتاج اليه طراوة الحور والدّلب والصفصاف؟
لو فصلت بينك وبين رشيد درباس ستارة، وأضعت أثره، لاهتديت اليه بواسطة صفحاته المتتالية المتعالية صارخة صادقة ساطعة، ولو استفسر عنه، مستفسر طارىء، لقيل له على الفور: وهل يخفى الضحوك؟ والخصوصي في ضحكته أنها ليست تعبيراً عن الفرح والانشراح دائماً، بل هي أحياناً تعبير عن موقف رافض للحزن والانكسار.

وتصوّر أنه لو حصل مرة أن سقطت صخرة على رأس درباس، ثم تابعت إنزلاقها ولطمت رأسك، لا سمح الله (وهذا ما قد لا يحصل لأن صديقنا سيوقفها عند رأسه)، فإنك ما أن تهمّ بالصراخ والعويل حتى تسمع ضحكة عريضة منه، تختلف قوتها وفقاً لقياس الصخرة، فتضطر للسكوت وضبط الأنفاس، هذا إن لم تجد نفسك مقبلاً على الابتسام أنت الآخر، قائلاً لنفسك: يا لحظّي، يا ليتني اصطدمت بهذه الصخرة في مكان مختلف، إذن لاستطعت التعبير عن غضبي وألمي، وأقمت من الدنيا ما أقمت، ثم أويت الى المشفى، فقعدت ما طاب القعود!