مشاكل وحلول

رحلة الألف ميل تحتاج إلى خطوات جديّة
إعداد: تريز منصور

من النورماندي إلى الناعمة النفايات في لبنان
 

تـشـكّـل النـفـايـات الصلبة مشكلة قائمة بذاتها لأنها تؤدي إلى تلوث البيئة إذا لم يتمّ إعادة تدويرها والاستفادة منها. الـبـلـدان المـتـقدمـة توصّلـت إجـمـالًا إلى إدارة نفاياتها بطرق علمية، خلافًا لما يحصل في البلدان النامية ومنها لبنان. فالقمامة تنتشر على جوانب الطرق الرئيسة والفرعية وكذلك في الأراضي الزراعية، أو تنقل إلى مكبّ عام ليتمّ تجميعها ومن ثم طمرها من دون معالجة.
لقد تحوّل ملف النفايات في لبنان إلى مشكلة وطنية كبيرة تضاف إلى مشكلات أخرى مزمنة. وفي معظم الأحيان تأتي الحلول مؤجّلة للمشلكة، أو مجتزأة وغير جذرية أو علمية.

من النورماندي إلى الناعمة رحلة طويلة وحلول مؤجّلة

بدأت أزمة إدارة النفايات في لبنان في مطلع التسعينيات وراحت تتفاقم منذ ذلك الوقت. وتبيّن إحدى الدراسات حول الواقع البيئي في لبنان أن محاولات عديدة جرت للحدّ من خطورة ملف النفايات، إلا أنها بغالبيتها كانت عشوائية أو نتيجة خطة طارئة فرضتها الحاجة الملحّة، ما أدى الى تأزم المشكلة، بدلًا من الحدّ منها، أحيانًا، وإلى تأخر الحلول وتقبل الأمر الواقع في أحيان أخرى.
فلسنوات طويلة كان على بيروت أن تتعايش مع مكبّ النورماندي مع كل المساوىء التي فرضها هذا التعايش قبل أن يتوقّف العمل في المكبّ ويتحوّل لاحقًا إلى «الزيتونة باي» أو «خليج الزيتونة».
اليوم أصبحت جزءًا من سوليدير البرية، تضمّ هذه المنطقة ناديًا لليخوت وسلسلة من المطاعم المعروفة في العاصمة، إضافة الى أسواق مخصصّة للمشاة.
من النورماندي انتقلت النفايات إلى مكبّ صيدا «البحري» الذي تراكمت فيه النفايات لأكثر من 40 عامًا، وشكّلت كارثة بيئية. منذ فترة بدأ مجلس الإنماء والإعمار إزالة النفايات من المكبّ بشكل جدّي، وذلك بناء على قرار صادر عن وزارة البيئة في أيلول 2011. المكب بات اليوم بارتفاع ثمانية أمتار فوق الطريق، و12 مترًا عن سطح البحر، بعد أن كان ارتفاعه أكثر من 50 مترًا. وبدعم من برنامج الأمم المتحدة للتنمية (UNDP)، بدأ تنفيذ مشروع إنشاء حديقة عامة مكانه، أعدّته بلدية صيدا.
إلى ذلك نشأت في مختلف المناطق اللبنانية مكبات عشوائية فعلت فعلها السيء في البيئة ضررًا وتلويثًا. لكنّ مطمر الناعمة يبقى العنوان الأخطر، بعد أن تمّ توسيعه خلافًا لما كان مقررًا عند إنشائه، وبات يحمل في جنباته ملايين الأطنان من النفايات، وذلك بسبب فشل خطة الطوارئ التي أقرت في عهد وزير البيئة أكرم شهيب، حيث تمّ الإستغناء عن محرقة العمروسية التي كان يفترض أن تخفض كمية النفايات المطمورة إلى ما يزيد على 600 طن يوميًا. كذلك فشلت خطة التسبيخ التي تنفّذها شركة سوكومي في معمل الكورال، حيث انخفضت نسبة التسبيخ من 1200 طن يوميًا الى ما لا يزيد على 300 طن وبنوعية رديئة، الأمر الذي رفع كمية النفايات التي ترد بشكل يومي للطمر من 1240 إلى 1955 طنًا باليوم في العام 2000، وإلى 2200 طن في العام 2004. واستمرت الكميات بالارتفاع لتصل إلى 2234 طنًًا في العام 2008، وتخطّت 2300 طن في العام 2010. وبذلك دفن في مطمر الناعمة ما يزيد على 15 مليون طن، على امتداد السنوات الـ 15 الماضية.
يغطي المطمر بحسب تصميمه الأصلي مساحة في الأرض تقدر بحوالى 120.000 م2، وتصل قدرة استيعابه إلى مليوني طن من النفايات. لكن المساحة توسعت لتصل إلى 296736 مترًا مربعًا، والأطنان ازدادت لتصل إلى أكثر من 15.
والجدير ذكره، أن اللبنانيين، يدفعون كلفة كبس النفايات وتغليفها قبل نقلها إلى مطمر الناعمة حيث ينزع الغلاف وتبعثرمحتوياته ليتمّ طمرها، وذلك من دون احتساب كلفة الآليات التي تقوم بنقلها. يدلّ واقع المطمر على أن شركة سوكلين تجمع من بيروت الكبرى وجبل لبنان حوالى 200 طن من النفايات المنزلية الصلبة والعضوية يوميًا وهي تقوم بطمرها من دون إعادة تدوير أوتسبيخ.
ومعلوم أن أعمال الطمر العشوائية تتسبب بالكثير من المشاكل البيئية منها انبعاث غاز الميثان بسبب طمر المواد العضوية، مما يهدد بحدوث انفجارات قد تسبب بكارثة إضافة إلى انتشار الروائح الكريهة والتي يصل مداها إلى كل القرى المحيطة بالمطمر وبقطر يتجاوز 20 كلم، فضلًا عن هبوط قناة مياه مجرى نهر الصومعة التي تمرّ من تحت المطمر بسبب ثقل الكمية المطمورة ممّا اضطر الشركة إلى القيام بأعمال حفر لتحويل مجرى النهر. يضاف إلى ما ذكر أن المياه الجوفية التي تقع تحت المطمر هي بغالبيتها ملوّثة. وتجتاح المطمر بقايا رماد النفايات الطبية وبقايا المواد الإلكترونية التالفة التي تشكل مصدرًا كبيرًا وأساسيًا لانتشار ملوثات خطيرة على الصحة العامة كالديوكسين والمعادن الثقيلة المسببة للسرطان.

 

التمديد لمطمر الناعمة وتعديل القرار 46
شكّلت قضية مطمر الناعمة والاستمرار في تدفّق النفايات إليه محور حركة احتجاجية طالبت بإقفاله وشارك فيها أهالي المنطقة والعديد من الجمعيات البيئية. إستمرّ الجدل طويلًا كما استمرّت الاعتصامات إلى أن أقرّ مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 12 كانون الثاني 2015 حلًّا مؤقتًا قضى بتمديد العمل بالمطمر لغاية 17 نيسان 2015، على أن يجدّد ثلاثة أشهر أخرى إذا دعت الحاجة، ولمرة واحدة وأخيرة، علمًا أن تحفظات سجّلت على التمديد.
وبالتالي جرى تمديد العقود الحالية الموقّعة مع مجموعة أفيردا (سوكلين وسوكومي)، وتمديد عقد كنس النفايات وجمعها في نطاق اتحاد بلديات الفيحاء.
ولقد أقرّ المجلس في هذه الجلسة تعديل القرار رقم 46 المتعلّق بالخطة الشاملة للنفايات المنزلية الصلبة، وتحديد قواعد التلزيم للكنس والجمع والطمر.
تقضي القواعد الرئيسة للخطة باسترداد ما نسبته 60 في المئة من النفايات (من خلال الفرز والتدوير والتسبيخ واسترداد الطاقة) في السنوات الثلاث الأولى من الالتزام و75 في المئة في السنوات اللاحقة...
كما نص القرار على ضرورة التخلّص النهائي من العوادم الناتجة عن معالجة النفايات من خلال تأهيل المواقع المشوّهة (degraded)، أي مواقع المقالع والكسارات، أو مواقع المكبّات العشوائية أو أية مواقع أخرى بحاجة إلى إعادة تأهيل يحدّدها مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزارة البيئة، وذلك على أساس مطمر لكل منطقة خدماتية (قسّم القرار المناطق اللبنانية إلى خمس مناطق خدماتية).
ويطلب القرار من مجلس الإنماء والإعمار إطلاق المناقصات على أن تكون عقود تلزيم المطامر الجديدة تحت إشراف وزارات المالية والداخلية والبيئة والشؤون الإجتماعية. كما منح نصّ القرار مجلس الوزراء حق التدخل لتثبيت مواقع الطمر إذا فشل المتعهد اختيارها والبدء بتجهيزها.
ومن النقاط التي تصنّف «إصلاحية» في القرار، أن مدة العقود باتت سبع سنوات، وقابلة للتجديد لمدة ثلاث سنوات، بعدما كانت الصيغة القديمة تنصّ على أن يكون التمديد لفترة خمس سنوات، ما يعني تأخير اعتماد خيار المحارق حتى العام 2020 لفترة إضافية، مع إمكان التخلي عن هذا الخيار المكلف والملوّث في حال نجاح تجربة المعالجة وطمر العوادم.
وينصّ الاقتراح على تقسيم عقود التلزيم الجديدة الى مرحلتين منفصلتين متتاليتين:
• المرحلة الأولى: انتقالية لمدة خمس سنوات، تعتمد خلالها أعمال الكنس والجمع والنقل والفرز والتسبيخ والطمر.
• المرحلة الثانية: مدتها 15 سنة، يعتمد خلالها الكنس والجمع والنقل والفرز والتسبيخ والمعالجة بطريقة التفكيك الحراري وتحويل النفايات الى طاقة.

 

كيف تدير الدول نفاياتها؟
السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه اليوم ويطرحه كل لبناني، كيف تدير دول العالم نفاياتها المنزلية؟
تخطّى الكثير من دول العالم البحث في المفاضلة بين التقنيات المعتمدة لناحية تجنّب التلوث المحلي، وباتت تركّز على تخفيض الإنبعاثات التي تساهم في تغير المناخ العالمي.
ولعلّ العامل الأساسي للنظر في نظام إدارة النفايات الصلبة هو تكوين النفايات ونوعها. فهذا التكوين يختلف وفق عدة عناصر أبرزها، مستوى الدخل، نمط الحياة، المناخ، الموقع (المدن والأرياف)، والكثافة السكانية. وقد أثبتت الدراسات العالمية أن معدّل جمع النفايات منخفض في البلدان النامية، ولكنه يمكن أن يصل إلى ما بين 90 و100 في المئة في الدول المتقدمة. كما أن المعدلات في البلدان النامية تتفاوت بين المناطق الحضرية والريفية. ففي لبنان على سبيل المثال، قد يصل معدل الجمع الى 100 في المئة في بيروت الكبرى لكنّه أقل في المناطق الريفية، حيث تنتهي معظم النفايات في مكبّات عشوائية أو تحرق محليًا بعد رمي العضوي منها في الطبيعة أو تحويله طعامًا للحيوانات الأليفة...
تظهر مراجعة تجارب الدول في كيفية معالجة نفاياتها أن الحلول التي تتبعها غير متجانسة، فهي ليست نفسها في كل دول العالم. وتعود الاختلافات إلى طبيعة النفايات وإلى وجود خصوصيات محلية مؤثرة، إلا أن معظم دول العالم لديها استراتيجيات وخطط بعيدة المدى وهي تعتمد تقنيات متعددة لإدارة نفاياتها.

 

التخفيض وإعادة التدوير
إن هرم الأولويات في إدارة النفايات الصلبة يعطي الأولوية للتخفيض في المصدر أو التخفيف من إنتاج النفايات، ويعتبر ذلك الفرصة المثالية لتوفير الموارد وتخفيض الانبعاثات، وكذلك الحاجة لإدارة النفايات.
وبالنسبة الى معظم المواد، تمثل إعادة التدوير الفرصة الثانية الأفضل للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة وتوفير الطاقة في عملية التصنيع، بالإضافة إلى تجنّب الانبعاثات الناتجة عن الطرق الأخرى لإدارة النفايات.
ويلاحظ أيضًا، أنّ ما يجعل هذه العملية ناجحة في الدول التي تعتمدها هو وعي المواطنين لأهمية توفير المواد الخام التي تتوافر بنسب كبيرة في النفايات (كالبلاستيك والورق والكرتون والالومينيوم...) ولأهمية توفير الطاقة وما يرتبط بها من انبعاثات، وكذلك الضرائب والحوافز الأخرى.
في البلدان النامية، تنخفض نسب إعادة التدوير مع ملاحظة وجود عمليات غير رسمية من خلال «الجمّاعين» الذين يجمعون مواد قابلة لإعادة التصنيع من الحاويات.
علمًا أنه من أسبـاب تعثّر إعادة التدوير في المصدر في هذه البلدان، عدم وجود أسواق للمواد القابلة للتدوير ولا مصانع (كافية) مجهّزة للفرز وإعادة التصنيع.


التخمير
يشكل التخمير أحد خيارات التحوّل البيولوجي للنفايات حيث يتمّ تحليل النفايات العضوية في ظروف محددة (هواء، حرارة، رطوبة وحموضة) ملائمة لإنتاج السماد الذي يستخدم كمحسن للتربة. وبالتالي، يساهم هذا الحل في إعادة تدوير المواد العضوية وتحويلها إلى التربة، كما يمكن أن يكون طريقة بديلة للحدّ من كمية النفايات التي يتم طمرها. تحتوي المواد العضوية على نسبة عالية من الرطوبة وبعد تخميرها وتحلّلها ينخفض وزنها بنسبة 50 في المئة. يتم تطبيق التخمير على نطاق واسع في أوروبا، على الرغم من أن نسب المواد العضوية في نفاياتها قليلة، أما في البلدان النامية حيث النفايات غنية بالمواد العضوية، فإن نسب التخمير أقل ويفترض تحسينها.

 

الحرق
وفق المؤمنين بخيار الحرق، يساهم حرق النفايات في البلدان الغنية بإدارة النفايات بطريقة سهلة يتيح التخلص على نطاق واسع من الأنواع المختلطة لمواد النفايات المنزلية الصلبة، فضلًا عن توفير كمية كبيرة من انبعاثات الغازات الدفيئة من خلال استعادة الطاقة الموجودة في النفايات.
وتفيد آخر الإحصائيات، بأنه يتمّ (على الصعيد العالمي)، حرق حوالى 130 مليون طن من النفايات سنويًا في أكثر من 600 محطة تتوزع على حوالى 35 بلدًا. وحرق النفايات الصلبة شائع نسبيًا في البلدان المتقدمة ومنها البلدان الأوروبية، نتيجة التوجّه نحو التخفيف من طمر النفايات في الاتحاد الأوروبي. وتشير البيانات إلى أنه يتمّ حرق 20 إلى 25 في المئة من إجمالي النفايات المنزلية الصلبة في أوروبا. أما في الولايات المتحدة، فتشير وكالة حماية البيئة إلى أنه يتمّ حرق حوالى 14في المئة من النفايات فقط، لاسيما في الولايات الشرقية الأكثر اكتظاظًا بالسكان. وفي اليابان، حيث المساحات محدودة للغاية، يتمّ حرق أكثر من 70 في المئة من النفايات.
تعتمد البلدان النامية، في معظم الأحيان على الحرق العشوائي وغير المراقب، ويعـود ذلك إلى انخفـاض كلفة رمي النفايات في المكبات، بالمقارنة مع ارتفاع أكلاف إنشاء المحارق الرسمية وتشغيلها ومراقبتها، بالإضافة إلى تجارب المحارق الفاشلة. يضاف إلى ذلك الإتجاهات المستقبلية لحرق النفايات، والتي ستعتمد على تقلّبات أسعار الطاقة، فضلًا عن الحوافز وتكاليف تخفيف انبعاثات الغازات الدفيئة.

 

الطمر
الطمر هو الأسلوب الأكثر شيوعًا للتخلّص من النفايات في جميع أنحاء العالم، فهو الوسيلة الأسرع والأرخص لكنّه يطرح مشكلة انبعاث غاز الميثان والذي يساهم بتغيّر المناخ أكثر من 34 مرة من ثاني أوكسيد الكربون الشهير.
وهناك عدّة طرق لطمر النفايات تنطلق من استخدام المكبات العشوائية، إلى استخدام مطامر هندسية عالية التقنية، إلى مدافن محصّنة للنفايات النووية.
تحتوي المطامر الهندسية على مجموعة أنظمة لاستخراج الغازات وأنظمة التحكم بالعصارة... مما يؤدي إلى انخفاض كبير في معدل انبعاثات غاز الميثان واستعادة الطاقة، وتوليدها.

 

الحدّ من استنزاف الموارد الطبيعية
يتضح مما تقدّم أن الخيارات تختلف بشكل عام بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية، وكذلك بين البلديات في البلد نفسه، وذلك بسبب عوامل متعددة، بما في ذلك الاقتصاد المحلي والسياسات والقيود التنظيمية والتصـورات العامة ومتطلّبات البنية التحتية.
لكن المهم أن تتمّ إدارة النفايات وفق خطط علمية تسهم في الحفاظ على البيئة والحدّ من استنزاف الموارد الطبيعية، وتكون في الوقت عينه ذات جدوى اقتصادية.