دراسات وأبحاث

"من يحكم شرق أوروبا يهيمن على منطقة القلب، ومن يحكم منطقة القلب (روسيا) يسيطر على الجزيرة العالمية (أوراسيا)، ومن يحكم الجزيرة العالمية يسيطر على العالم كله".      (السير هارولد ماكيندر)

موقع وحدود الأوراسيا

تمتد حدود الأوراسيا (أوروبا وآسيا) غرباً من حدود أوروبا الغربية على المحيط الاطلسي حتى ضفاف الصين وروسيا على المحيط الهادئ في الشرق. هي أكبر قارات العالم، وهي المحور في مجال الجيوبوليتيك، ففيها يعيش حوالى 75٪ من شعوب العالم، وفيها أيضاً معظم ثرواته سواء كانت مخبوءة تحت ترابها أو ظاهرة في مشاريعها وأعمالها. كما أنها تنتج حوالى ثلثي الناتج القومي العالمي، وفيها حوالى ثلاثة ارباع مصادر الطاقة المعروفة في العالم.

كما ان أوراسيا، موطن الدول الأقدر سياسياً والأكثر دينامية في العالم، ففيها الدول الست التي تلي الولايات المتحدة في ضخامة الاقتصاد وحجم الانفاق على التسلح العسكري، كما توجد فيها ايضاً كما يقول بريجنسكي في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى»، جميع الدول النووية المعلنة في العالم باستثناء واحدة، وتوجد فيها ايضاً الدول النووية السرية ما عدا واحدة، كذلك فإلى أوراسيا تنتمي الدولتان الأكثر سكاناً في العالم، الصين (مليار و300 مليون نسمة)، والهند (مليار و50 مليون نسمة) والدولتان الأكثر تطلعاً الى الهيمنة الاقليمية والنفوذ العالمي»، كما ان فيها أكبر دولة من حيث المساحة (روسيا) (17،1 مليون كم2)، وعدد الرؤوس النووية والصواريخ الموجهة الى الولايات المتحدة. ويرى بريجنسكي ان اوراسيا تشكل مكمن التحدي السياسي والاقتصادي للسيادة الأميركية على العالم، لو جمعت أطرافها معاً، فإن قوة الأوراسيا تفوق بشكل كاسح قوة أميركا. ويعتقد أن من حسن حظ اميركا أن أوراسيا أوسع من أن تتوحد سياسياً واقتصادياً، وعليه فهو يعتبر أن الأوراسيا هي «رقعة الشطرنج» التي يتواصل فوقها الصراع من أجل السيادة العالمية، واللاعبون كثر، والجائزة الكبرى هي «الهيمنة على العالم».

روسيا «قلب الأوراسيا»

يعود الفكر الاستراتيجي الأميركي تجاه الأوراسيا الى «نيكولاس سبيكمان» (N. Spykman)، استاذ العلاقات الدولية في جامعة «ييل» الأميركية في أثناء الحرب العالمية الثانية (1944) وذلك استناداً الى خبرات هذه الحرب، وقد قسم جغرافيا الأوراسيا الى: قلب قاري (Heart land) وهو روسيا والتي لها امتداد بري يتجاوز 17 مليون كم2، والى هلال كبير من الدول الساحلية سماها «أرض الحافة (Rim land)»، ويشمل كل اوروبا وشبه الجزيرة العربية، والعراق، وآسيا الوسطى، وإيران وأفغانستان، والهند، وجنوب شرق آسيا والصين وكوريا، وهي دول تمتاز بأهمية مواقعها ومواردها الطبيعية والاقتصادية المتنوعة والمهمة. وقد رأى «سبيكمان» أن الحرب العالمية الثانية قد حدثت بهدف السيطرة على هذا النطاق الساحلي، ومن ثم فهو منطقة الارتطام (Crush zone)، أي المنطقة التي سوف تشهد الصراع من أجل السيطرة على مواردها، وممراتها المائية.

وبما أن روسيا هي بمثابة الظهير الخلفي لمنطقة الارتطام وهي القلب، فإنها سوف تسعى للوصول الى البحار والمحيطات عبر التوغل في هذه المنطقة، لذلك علـى الولايات المتحدة أن توقف هذا التوغل من خلال سياسة الاحتواء (Containment). ولكي تتمكن من ذلك واحتواء المد الروسي السلافي في الأوراسيا، عليها أن تتحول الى قوة بحرية عظمى تحيط بالأوراسيا، من المحيط الأطلسي، الى البحر المتوسط الى المحيط الهندي وحتى المحيط الهادئ، وبرأيه فإن هذه هي الطريقة الوحيدة الفعّالة لمواجهة الموقع الحصين لروسيا، وهنا تبرز أهمية حاملات الطائرات، والغواصات النووية كركيزتين أساسيتين لقوة الولايات المتحدة العسكرية والاستراتيجية.

كذلك دعا سبيكمان الى منع توحيد دول هذا النطاق، وقيام أحلاف عسكرية ضمنه، ليبقى مفككاً الى دويلات تحت سيطرة الولايات المتحدة، ما استدعى بناء قواعد عسكرية اميركية كثيرة في الأوراسيا، وهي اليوم تحتل بلدين من دول الطوق، وتقيم آلاف القواعد العسكرية حول العالم، وتنشر ثلاثة عشر أسطولاً، وتستخدم دبلوماسية عسكرية ساحقة لتحقيق رؤيتها الجيوستراتيجية للعالم (Policy of bases, and militarized Diplomacy).

القطبية الثنائية والحرب الباردة

شكل الاتحاد السوفياتي السابق القطب المنافس على الساحة العالمية، للولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت الأوراسيا هي الساحة الكبرى لهذا التنافس والصراع. ولما كان السلاح النووي يشكل خطراً متبادلاً على كلا القطبين، فقد استمرت الحروب والنزاعات بالاسلحة التقليدية، تحت سقف هذا الخطر، وبواسطة وكلائهما، واغلب الحروب كانت في منطقة الطوق، كوريا، مصر واسرائيل وسوريا، فييتنام وأفغانستان والخليج العربي. وهدف كل قطب كان محاولة اكتساب مواقع جديدة، او منع الآخر من تحقيق مكاسب لصالحه تهدد مصالح الآخر.

أدارت الولايات المتحدة لعبة الشطرنج هذه بكثير من المهارة والذكاء والامكانات والافكار، والنَّفَس الطويل، وكانت الحرب سجالاً بين القطبين، إلا أنه بعد استدراج الاتحاد السوفياتي الى الدخول الى أفغانستان العام 1979، واستنزافه هناك طوال عشر سنوات، أمكن اسقاطه بالضربة القاضية اعتباراً من العام 1989 وانتهاءً بالعام 1991 حين أعلن نهايته وتفكيكه، وقيام روسيا ومجموعة الجمهوريات المستقلة في شرق أوروبا وشمالها ووسط آسيا؛ وهللت الولايات المتحدة لانتصارها، واطمأنت الى سيادتها المطلقة في العالم بعد سقوط خصمها اللدود، وسارعت الى محاولة كسب دول الاتحاد السوفياتي السابق من خلال سلة من الاغراءات المادية والدعم الاقتصادي وتسويق وجودها العسكري وتسويغه، سواء ببناء قواعد عسكرية جديدة أو بتوسيع حلف الناتو، وهدفها تطويق روسيا وحرمانها من إمكان العودة لتشكيل قطب منافس لها؛ كذلك الوجود المباشر على حدود الصين والهند وايران، لاستباق ما هو قادم، أي تطويق «الأقطاب الجديدة» في الأوراسيا، وفي منطقة سميت ملتقى طرق (Cross Roads) تضم الصين وروسيا وعدة دول اخرى في اوروبا الشرقية وآسيا الوسطى.

روسيا في عالم القطب الواحد

بدأت السياسة الخارجية الروسية، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في التخلي عن عدد من المواقع التي كان يمثل وجودها فيه تحدياً للغرب، في فترة الحرب الباردة. ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى تخلت روسيا عن سياستها الخارجية القائمة على التطبيع مع الغرب، بعدما تأكد المسؤولون الروس من خلال تجربتهم «الغربية»، من أن السلام الذي تمّ بعد الحرب الباردة على الساحة الدولية ما هو إلاّ «سلام بارد» كا وصفه الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، تبع ذلك خروج السياسة الخارجية الروسية من «خندق التطبيع» والتبعية للغرب.

في شهر تموز 2000، أعلنت روسيا سياستها الخارجية، بعد وصول الرئيس فلاديمير بوتين الى السلطة وتم وضع وثيقة للتصور الاستراتيجي للسياسة الخارجية الروسية كما يأتي:

أولاً، إعطاء الأولوية لتطوير دور روسيا في عالم متعدد الأقطاب لا يخضع لهيمنة قوة عظمى واحدة، هي الولايات المتحدة.

ثانياً، تقوية الروابط مع الصين والهند واليابان، وتجمّع الآسيان (Asian)، والعالمين العربي والاسلامي، وذلك تأكيداً لمصالح روسيا في قارة الأوراسيا.

ثالثاً، الالتفاف على توسيع حلف «الناتو» (Nato) باتجاه دول شرق أوروبا، (والتي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي السابق «حلف وارسو»)، وذلك بزيارة الصين والهند واليابان من قبل رئيس جمهورية روسيا، لعقد معاهدات، وبناء تحالفات جديدة، تخفف من حجم الهجمة الأميركية في الأوراسيا، وتعزيز «مجموعة شنغهاي» بضم دول جديدة اليها كالهند وايران.

روسيا تستعيد نفسها

ساد روسيا خلال الفترة التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفياتي، حالة من الفوضى الكبيرة على الصعد المختلفة، خصوصاً الاقتصاد (التجارة، الصناعة والطاقة)، وأوقعتها السلطة السياسية في شبكة من العلاقات مع الغرب، أدت الى رزوحها تحت ضغط ديون كثيرة نتجت عن انتقالها من النظام الاشتراكي الصارم الممسوك من قبل الدولة، الى اقتصاد السوق المفتوح والحر والليبرالية الحديثة، والفساد الذي ساد القطاعات المختلفة.

منذ مطلع العام 2000 بدأت روسيا تستعيد ذاتها مع وصول الرئيس بوتين الى السلطة، واعلانه ان روسيا لا يمكنها استعادة مكانتها كقوة كبرى، والحفاظ على استقلالية قرارها الداخلي والخارجي ما دامت تعتمد على ما تتلقاه من مساعدات خارجية، وان روسيا غنية بالموارد ويمكنها تجاوز أزمتها الاقتصادية، اعتماداً على مواردها الذاتية.

وبالفعل فقد نهض الاقتصاد الروسي على عاملين: الطاقة وصادرات السلاح، وقد تم ذلك بفعل إحكام ادارة الدول لهذا القطاع، والترشيد في توظيف عوائده لخدمة الاهداف الوطنية. وبفضل سيطرة الدولة على قطاع النفط أمكن سداد ديون الدولة الخارجية اعتباراً من العام 2002، وتأمين وفر احتياطي بلغ حوالى 600 مليار دولار العام 2005 وحوالى 800 مليار دولار العام 2006، لتصبح روسيا في المرتبة الثانية بعد اليابان في احتياطها من الذهب والعملات الصعبة، وهي تحقق اليوم نمواً سريعاً يقدر بـ7٪. وقد أدى ذلك الى بروز روسيا كقوة اقتصادية كبرى من المنظور النفطي، واكتسبت تأثيراً واسع النطاق في سوق النفط والغاز وأسعاره العالمية، خصوصاً أن الرئيس بوتين أكد استعداد بلاده للحلول محل الشرق الاوسط كمصدر رئيس للنفط في اوروبا والولايات المتحدة نفسها. وقد كان لهذه العوامل تأثيرها المباشر في قبول عضوية روسيا الكاملة في مجموعة «الدول السبع» الصناعية الكبرى (G7) لتتحول الى مجموعة «الدول الثماني» (G8) في حزيران العام 2002، التي تولت روسيا رئاستها واستضافت قمتها العام 2006.

إن استعادة روسيا قوتها الاقتصادية واستخدامها سلاح النفط، بات يشكل تهديداً ويثير مخاوف أوروبا والولايات المتحدة من عودة روسيا الى اللعب بقوة على مسرح الصراع في الأوراسيا، وتحوّلها الى لاعب جيوستراتيجي كبير على المسرح العالمي.

 (يتبع في العدد القادم: السياسة الخارجية الروسية في علاقاتها الدولية).