ثقافة وفنون

زكي ناصيف: أبو الفولكلور وفنون أخرى
إعداد: أكرم الريّس
كاتب وباحث

لأغنية "راجع يتعمر لبنان" مفعول يشبه السحر في استنهاض الهمم وتوليد الأمل في أوقات الشدة. إنّها بمثابة النشيد الشعبي للبنانيين، وهي واحدة من الروائع الكثيرة التي زرعها زكي ناصيف في وجداننا بهجةً غامرةً وفرحًا مشعًا وعنفوانًا وحنينًا. فمن "تسلم يا عسكر لبنان" إلى "طلوا حبابنا"، و"أهلا بها الطلة"، و"اشتقنا كتير"، و"أهواك بلا أمل" وسواها، إرث من الغناء الجميل تتناقله الأجيال.  لكنّ "أبو الفولكلور" كما يسمونه يتجاوز بإبداعه هذا اللقب إلى فنون الموسيقى الأخرى مؤلفًا وملحنًا، فضلًا عن كونه مغنيًا وكاتبًا لكلمات الأغاني.


يمكننا أن نحدد أربع مراحل رئيسة في مسيرة زكي ناصيف الفنية الاحترافية بناءً على خصائص أعماله والمتغيّرات التي أثرت على مساره الإبداعي: الإذاعة (1952-1956) من خلال عمله في إذاعة الشرق الأدنى والإذاعة اللبنانية، المهرجانات (1957-1974) وبالأخص في مهرجانات بعلبك وفرقة الأنوار، بالتوازي مع الإنتاج الفردي المستقل والتعليم في المعهد الوطني، ومرحلة الحرب الأهلية (1975 -1990) التي تعاون فيها مع فرقة كركلا وأنطوان غندور وفيروز، فالمرحلة الأخيرة (1991-2004) ولعلها مرحلة الحصاد، حيث نال التكريم المستحق من جهات أهلية وفنية ورسمية في لبنان وسوريا ووسام الأرز الوطني من رتبة كومندور. سبق تلك المراحل طفولة موسيقية تشكّلت بين نسائم مشغرة وحداثة بيروت، وفترة طويلة من الدراسة والهواية الشغوفة وتفتّح الموهبة في ربيع العمر.

 

ليل مشغرة والقمر والبيادر

خلال المجاعة التي عصفت بمتصرفية جبل لبنان، ولد زكي شاكر ناصيف في 3 تموز 1916 في بلدة مشغرة في البقاع الغربي، وهو الأصغر بين أربعة بنين وثلاث بنات. انتقل مع عائلته مع بداية الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان إلى محلة الطيونة في بيروت، عاصمة "لبنان الكبير". تعرّض لمرض الحصبة في سنته الثانية وأصيب على أثره بقصور في قدمه اليسرى نتج عن خطأ في العلاج الطبي.  تركت مشغرة انطباعات حفرت عميقًا في وجدان زكي ناصيف، ولا سيما "ذلك الجبل الصغير الذي يشرف عليها، وبخاصة عندما يطل القمر من خلفه، والبيادر تتدرج عند سفحه ترويها سواقٍ وترتبط بها صناعتا الدبس والدباغة"، وفق ما يقول في أحد أحاديثه. وهو يضيف أنّ هذه المشاهد هي إحدى صور مشغرة حسب ما كانت ترتسم على شرفة المنزل، ففي "أثناء الصيف كنت أنام في خيمة على سطح المنزل والشبان على البيادر المقابلة، لأنّهم يعملون في المدابغ في النهار، ويتناوبون على النورج في البيادر في أوقات الليل. فريق يعمل، وآخرون يدبكون على ألحان المنجيرة (وعلى دلعونا) فتصل هذه الألحان إلى أذني – وأنا على السطح – وهي تتماوج، فتعلو وتخفت بحسب هبات النسائم".

 

البيت والفونوغراف

يقول زكي ناصيف في إحدى مقابلاته: "تربيتُ في طفولتي على صوت أمي الجميل، مدندنة الأغاني البلدية والفراقيات، فيما هي تقوم بأعمال البيت في مشغرة. كنت أجلس قربها وأسترق السمع إلى أغانيها". من ناحية أخرى كان الفونوغراف الذي جلبه والده إلى منزل العائلة، وهو على الأرجح الأول في المنطقة آنذاك، الوسيلة التي تعرّف من خلالها زكي على أعمال الشيخ سلامة حجازي (1855-1917)، والشيخ يوسف المنيلاوي (1850-1911)، وتقاسيم الناي التركي وابتهالات المشايخ. بدأ بتعلم العزف على آلة العود بعد أن قدمه له جاره جورج مزهر كهدية، وكان قبل ذلك يعزف على "مجوز" أخيه، كما تأثر لاحقًا بالأغاني الشعبية في لبنان وسوريا وبأعمال محمد عبد الوهاب.

في مدرسة كنيسة مار عبدا (عين الرمانة - الطيونة) تعلّم السريانية وكان يرتل في القداس الماروني.  وعندما انتقل إلى "مدرسة المُخلص"، تحت محلة الناصرة في بيروت، التابعة لكنيسة الروم الملكيين الكاثوليك ليتابع تعليمه فيها لمدة خمس سنوات، لحّن النشيد الخاص بها. تأثر زكي ناصيف بالمرتل البيزنطي الرائد والملحن متري المر (1880-1969) ولفتت موهبته انتباه حبيب الشماس أحد أساتذة مدرسة المخلص، وقد كان الشماس معروفًا آنذاك في الوسط الغنائي والموسيقي في بيروت. وبعدها صار يغني على مسرح مدرسة البطريركية في المصيطبة، فكانت هذه التجربة نافذته على المجتمع الفني المحترف.

اشترك كمغنٍ وعازف عود مع الفرقة الفنية التي أسسها نجيب الشلفون وكانت تضم مجموعة من الفنانين الشباب: خليل مكنية، وسامي الصيداوي، وألكسي اللادقاني، ومحيي الدين سلام، وإيليا بيضا. جالت الفرقة على المصايف اللبنانية لمدة شهرين في صيف 1933، وقدمت مجموعة حفلات انطلاقًا من بكفيا، ثم في حمانا ونبع الصفا، تبعها حفلات في إهدن، وبشري، وحصرون، وحدث الجبة. وكانت غالبية أعضاء هذه الفرقة تنتمي إلى فئة عمرية لا تتجاوز منتصف العقد الثالث ما عدا مكنية والشلفون، أما أصغرهم سنًا فكان ناصيف. أصبح خليل مكنية من أقرب أصدقاء ناصيف وقام بتعريفه على العديد من وجوه الوسط الفني في الإذاعة والمعهد بالإضافة إلى إبن أُخته توفيق الباشا الذي أصبح بدروه لاحقًا رفيق دربه الفني.

 

الدراسة والهواية

ترك زكي ناصيف الدراسة لأسباب صحية ليلتحق في العام 1936 في معهد الموسيقى في الجامعة الأميركية في بيروت، وليتابع من بعدها دروسًا موسيقية خصوصية. وما لبث أن عُرف خلال فترة دراسته الجامعية كمغنّ على مسرح "الوست هول". وتذكُر نشرة "الكلية" الصادرة عن الجامعة أنّه غنّى للمرة الثانية في الأول من نيسان 1936 في احتفال جمعية الخريجين إلى جانب عمر الزعني وآخرين. تابع ناصيف هواياته الفنية على هامش عمله في التجارة الذي كان يستأثر بمعظم وقته، كما تابع خِفيةً دراسته الموسيقية مع الأستاذ الفرنسي برتراند روبيار (1905-1964)، وقد ساعده شريكه ليخصص قسمًا من وقته للدراسة خلال العمل عندما عمل تاجرًا في سوق الأرمن في بيروت (من 1939 حتى 1943)، الأمر الذي لم يتح له عندما عاود العمل في متجر العائلة لبيع الجلود في شارع الأوروغواي في وسط بيروت. وقد نوّهت مجلة الإذاعة اللبنانية في تشرين الأول 1946 بصوت ناصيف الجميل وموهبته الكبيرة في العزف على الكمان، والبيانو، والعود، وأيدت رأي بعض الموسيقيين في أنّه "لو انصرف بكليته إلى الفن لكان له مكانة أولى". ولعل النكسة المالية التي تعرضت العائلة لها بداية الخمسينات ساهمت في قطع الخيوط الأخيرة التي ربطت ناصيف بعالم التجارة، ليتفرّغ للفن.

 

الاحتراف الفني والإذاعة

بدأ زكي مسيرته الاحترافية حين انضم إلى راديو الشرق الأدنى كملحن ومغنٍّ في بداية الخمسينيات. ومن أوائل أعماله أغنية "كيف أنساك" التي أطلقتها الإذاعة في 12 كانون الأول 1952. راعي هذه المرحلة هو صبري الشريف، وقد سعى لاكتشاف المواهب الجديدة ورعايتها، وحشد إمكاناته الإدارية والتقنية لتوظيف التراث الشعبي في النهضة الغنائية في لبنان ضمن رؤية موسيقية حداثية. شارك زكي ناصيف  في تأسيس "عصبة الخمسة" مع توفيق الباشا وعاصي ومنصورالرحباني وتوفيق سكر الذي حل مكانه عبد الغني شعبان. سعت العصبة إلى ترسيخ الهوية الفنية المحلية والانطلاق نحو المزيد من الحداثة الموسيقية، وكانت خطوة إضافية نحو الإنجازات التي ستحقق نهضة الأغنية المعاصرة في لبنان

 

الفولكلور والمهرجانات

زكي ناصيف هو ملحن وشاعر غنائي مؤسس في "مهرجان الفن الشعبي اللبناني" (مهرجانات بعلبك الدولية) بالتعاون مع الأخوين رحباني، وتوفيق الباشا، ومروان ووديعة جرار، وصبري الشريف، وغيرهم من الفنانين. يقدّم كاتالوغ مهرجانات بعلبك الدولية في الليالي اللبنانية الأولى زكي ناصيف على أنّه "شُغف بالموسيقى صغيرًا فتعلّم العزف على الآلات الشرقية والغربية، ولكنّه كان في ذلك كله هاويًا لا محترفًا. وشاءت العناية أن يلتقي صبري الشريف ويرى فيه القائد الصلب في معركة "إبراز الشخصية الفنية للموسيقى اللبنانية"، فآمن برسالته وانضم إلى الفنانين الشبان الذين يعملون معه، وزكي ناصيف هو الآن من الطلائع في إنماء ثروة الفولكلور اللبناني". شكّلت مهرجانات بعلبك المدخل لاهتمام زكي ناصيف بالفولكلورالذي توسّع مع فرقة الأنوار. وتميزت مقاربته بإطالة الجملة اللحنية وتركيز قالب الدبكة الموسيقي. كما تميزت ببناء ألحان جديدة على إيقاعات متعددة مأخوذة من التراث الشعبي (الدلعونا، والغزيل، والقرادي، والأهازيج...) أو من الإيقاعات المرتبطة بالموشحات، وكتابة الألحان الشعبية وأصوات الآلات الشعبية كالمجوز والمنجيرة أوركستراليًا استنادًا إلى قواعد الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية.

في العام 1957 شارك زكي ناصيف في "الليالي اللبنانية الأولى" ضمن مهرجانات بعلبك الدولية بالتعاون مع فناني الشرق الأدنى وزملائه في عصبة الخمسة وفيروز. وفي تلك الليالي كان له "يا لالا عيني لالا" و"طلوا حبابنا طلوا" بأصوات الكورس، بالإضافة إلى مقاطع موسيقية. ومن أعماله في "مهرجان الفن الشعبي اللبناني" الثاني في العام 1959: "درب الغزلان"، و"هلا يا هلا"، و"صبّحنا وفجر العيد"، و"رمشة عينك" (وديع الصافي)، و"وحياتك يا درب العين" (نصري شمس الدين)، و"استعراض المعاصر". في العام 1963، قدم لحنًا لصباح في مهرجان الشلال لروميو لحود وهو "أهلا بهالطلة أهلا" وكانت له مشاركة أخرى معهما في منوعات الليالي اللبنانية للعام 1967. المشاركة الواسعة التالية كانت مع فرقة الأنوار في العام 1964 في آخر أعمالها أوبريت "أرضنا إلى الأبد"، قصة وإخراج نزار ميقاتي بالاشتراك مع منير أبو دبس كمستشار فني، بطولة صباح ووديع الصافي. ومن أعمال زكي في هذا البرنامج : "يا ليلى" (صباح)، و"لما الحلوة"، و"نحنا بنات البدو"، ومشهد الختام "يا بلادنا مهما نسينا، واشتقنا كثير" (صباح ووديع الصافي والمجموعة). عملت الفرقة منذ العام 1960 وكان زكي ناصيف مؤلفًا وملحنًا رئيسًا فيها، وجالت في عدة دول عربية وأوروبية منها الأردن، ومصر، والكويت، وفرنسا، والنمسا وألمانيا، كما قدمت حفلاتها في كازينو لبنان وبيسين عاليه. شارك زكي ناصيف مجددًا في الليالي اللبنانية للعام 1970 عبر مسرحية "فرمان" لناديا تويني، بطولة مجدلى وشوشو، وإخراج روميو لحود. وشمل البرنامج أغاني من نظمه وتلحينه مثل "بكرا بكرا"، و"تركوني أهلي بهالليل"، و"دبكة الدورة" (شعر طلال حيدر)، و"طاير طاير"، ومشهد الختام "رايحة مشاوير بعاد"، بالإضافة إلى مقاطع موسيقية. المشاركة السابعة والأخيرة له في المهرجانات كانت في مسرحية "وتضلوا بخير" وهي آخر حلقة من الليالي اللبنانية قبل ان يتوقف المهرجان قسريًا بسبب الحرب، بطولة وديع الصافي وصباح وفرقة كركلا ومن إخراج صبري الشريف، بالاشتراك مع ريمون جبارة. ومن أعمال زكي ناصيف في هذا المهرجان: "يا خيام الهنا"، و"طيري يا يمامة"، و"شبان الضيعة حلوين"، و"اتمسوا يا حبايب"، و"رقصة الشمس".

بعيدًا عن المهرجانات وبعد أن توقّفت فرقة الأنوارالتي كانت المؤسسة الفنية الأساسية التي انتمى إليها، انحسر العمل الجماعي وانتقل زكي إلى مرحلة جديدة من العمل الفني المستقل امتدت من منتصف الستينيات حتى بداية الحرب الأهلية، واجه فيها صعوبات إنتاجية وأخرى تتعلق بالمنافسة الفنية. عمل في هذه الفترة كأستاذ في المعهد الموسيقي الوطني حتى تقاعده في العام 1981. وشارك بالتوازي في التلحين للعديد من الفنانين في الإذاعة والسينما والتلفزيون، نذكر منهم على سبيل المثال: وداد، سعاد هاشم، صباح، سميرة توفيق، نصري شمس الدين، سمير يزبك، وعصام رجي، كما كانت له مساهمة أساسية في استعراض "ميجانا" لروميو لحود.

 

الحرب والمرحلة الأخيرة

Anchorبين 1972و1990 كانت لناصيف شراكة فنية مع عبد الحليم كركلا الذي قال في هذا السياق: "تبنّى زكي مشروع كركلا وكان همّه أن ينجح هذا المشروع ويكمل مسيرته، وخلال 18 سنة من العمل المشترك لم يطلب منّي أيّ بدل مادّي رغم صعوبة وضعه المعيشي. قال لي أنا سأعمل والمطلوب منك فقط النجاح. ولا بد من الإشارة إلى أنّ زكي كان مسؤولًا عن حالة كركلا، وكان أحد دعائم نجاحها. وتلك المراحل هي من أسعد المحطّات في حياتي، وقد تكلّلت بوجود زكي الداعم لأعمالي". باكورة هذه الشراكة "اليوم، بكرا، مبارح" (1972)، تبعها "غرايب العجايب" (1975)، "الخيام السود" (1978)، "طلقة النور" (1980)، "حكاية كل مكان" (1982)، "أصداء" (1985) و"حلم ليلة شرق" (1990).

تعاون مع أنطوان غندور أيضًا فأعدّ الأغاني والموسيقى لمسلسلات: "بربر آغا" (قُدِم هذا المسلسل أيضًا كمسرحية في كازينو لبنان) و"بو بليق"، بالإضافة إلى "يوسف بك كرم"، و"طانيوس شاهين"، وهما من إخراج ريمون جبارة، و"المير واستير".

ومن المحطات الأساسية في هذه المرحلة: مسرحية "برجاس" التي عُرضت على المدرج الروماني في عمان (1977)، وعمل محوري مع فيروز: "مغناة يا بني أمي" (1981) وهي مختارات من نصوص لجبران خليل جبران قام بتوليفها الشاعر جوزف حرب، وكانت اللقاء الثاني الذي جمعهما بعد غنائية "هو وهي" (1954) من شعر فدوى طوقان ضمن اطار التعاون بين أعضاء عصبة الخمسة. صدرت "يا بني أمي" في منتصف التسعينيات ضمن أسطوانة متكاملة تحمل عنوان "فيروز تغني زكي ناصيف" وتضم موشحين ودبكة وأغاني شعبية وحديثة. وأطلق "راجع يتعمر لبنان" في العام 1988 لتصبح النشيد الشعبي للبنان، بالإضافة إلى متابعة التلحين للأصوات الصاعدة، فغنى من أعماله عدد من الفنانين أمثال سلوى القطريب وماجدة الرومي وغسان صليبا، وصدرت أسطوانتان من منتخبات أعماله في العام 1984 (من إنتاج عبدالله شاهين).

 

مستقبل موسيقانا

Anchorاستمر زكي ناصيف بالعطاء حتى بلغ الثمانية والثمانين ولحين رحيله  في 11 آذار 2004 تاركًا خلفه إرثًا فنيًا يزيد عن 1100 عمل، حسب الجردة التي أجراها برنامج زكي ناصيف للموسيقى في الجامعة الأميركية في بيروت. تميّز هذا الإرث بتنوع المصادر من الموسيقى الريفية والبدوية في المشرق إلى المَدنية المصرية والكنسية البيزنطية والسريانية، والتجويد القرآني بالإضافة إلى الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية. كما تعددت الأنماط والقوالب الموسيقية التي اعتمدها، وهي لا تدور فقط في فلك التراث الشعبي الريفي، على عكس ما يوحي به لقبه المشهور "أبو الفولكلور"، إذ شملت أعماله المقطوعات الموسيقية، والأناشيد العسكرية والوطنية، وأغاني الأطفال، والأعمال الدينية، والموشحات، والمغناة، والأغاني الحديثة والراقصة بالإضافة إلى الأغاني الشعبية والدبكات والمواويل. وقد خص الجيش اللبناني بأناشيد ما زال صداها يتردد ليومنا هذا، ومنها "رعد مدافعنا" و"رصاصتنا بتسوى مية"، و"جيش بلادي"، و"وحدك يا عسكر لبنان" والنشيد المأثور "تسلم يا عسكر لبنان"، وقدّم هذه الأناشيد على التوالي بصوته وأصوات سلوى القطريب وصباح وسامي كلارك.

شكّل إيمان زكي ناصيف بالارتباط الراسخ بين الأرض والإنسان أحد مشاغله الفكرية والوجدانية وقاسمًا مشتركًا في جميع مراحل حياته الفنية، فالأرض "ليست وحدها المهمة، بل الإنسان أيضًا في تفاعله مع الأرض والطبيعة" كما ينوه في أحاديثه. ساهم في إحياء الموسيقى المشرقية الشعبية وترسيخ منظومتها المقامية التقليدية عبر ما يُسمّى "التجديد من الداخل"، مثلما انشغل في الوقت ذاته بإطلاق الموسيقى المحلية لتعبر حدود منطقتنا وتصبح جزءًا من تراث الشعوب المعاصر في العالم. وعلى الرغم من إنجازاته وإنجازات معاصريه الريادية، يرى زكي ناصيف أننا "ما زلنا متخلفين عن مواكبة الركب الفني العالمي شأننا في أكثر المقومات الحضارية". ينوّه بأنّه "ما دمنا نسعى للانضمام إلى الحلقة الموسيقية العالمية بمسايرة خطى شعوبها، علينا نحن أبناء هذا الجيل أن ننظر إلى مستقبل موسيقانا سواءٌ أكانت غنائية أو آلية.... إنّ مجهودًا كبيرًا طويل النفس، وواسع النطاق ينتظرنا". لذلك وجب علينا "التخطيط للموسيقى الآلية والعمل لها باجتهاد ووعي صحيح لماهية شخصيتنا الموسيقية التي ينبغي أن نطلقها ونطل بها على العالم" عبر الاستمرار  بالبحث في المصادر الأولية التي تشكّل عناصر موسيقانا وبيئتها، و"تعميم كل ما هو نابع منا في الأساس"، والعمل حكومة وشعبًا على نشر العلوم الموسيقية العالمية، ونشر الموسيقى الراقية في البيوت والمدارس بصورة متكاملة.