وجهة نظر

طائفة جديدة في لبنان «المستقلّون الأكفّاء»... لتحمّل الأعباء
إعداد: جورج علم

وُلدت طائفة جديدة في لبنان. إنّها طائفة «المستقلّين». تردّد اسمها على كلّ شفة ولسان، وذاع صيتها عبر وسائل الإعلام، من دون تعريف رسمي، أو بطاقة هويّة، أو إخراج قيد عائلي، جاء بها الحراك من وجع المعاناة، أركبها هودج الشعارات، وطاف بها في الشوارع والساحات كرمزية معبّرة عن إرادة التغيير.
ويسلك التغيير طريقين لا ثالث لهما، إما انقلاب على ما هو عليه الحال بحيث تفرض الهيئة الانقلابية مطالبها على الحياة العامة كأمر واقع، وهذا من سابع المستحيلات في وطن التوازنات السياسية والثقافية الدقيقة والحسّاسة. أو أن يسلك التغيير مداره الحضاري الحواري المتفاعل ما بين المجموعات المختلفة سواء تلك التي تضجّ حيوية في الشارع، أو تلك المؤتمنة على الانتظام العام في المؤسسات الدستورية، التي دلفت إلى السلطة من خلال الانتخابات الديموقراطية، وما حصدته صناديق الاقتراع من أكثريات عددية. إلا أنّ ما حصل، ويحصل، هو مزيج من الفوضى الخلّاقة المتأرجحة ما بين مطالب محقّة تعبّر عن وجع الناس، وتستدرّ عاطفة عارمة عند البيوتات المتواضعة، والعائلات المستورة، وبين حراك متعدد الأصوات والانتماءات، يتخلّله طبل وزمر، ودبكة قروية، وزجليات طربية، وأيضًا فورات غضب وانفعال وقطع للطرقات. واللافت أنّ الحوار وسط كلّ هذا الصخب كان الغائب الأكبر، والعلّة معروفة، لكن تفسيرها كان يحتاج إلى حجة مقنعة، أو منطق سليم طال انتظاره من دون معرفة الأسباب، حتى الذرائع التي استُخدمت لتبرير الخلل، والنقص في السلوك المتّبع، كانت غير منطقية وغير مقنعة، وعلى قاعدة نريد التغيير، ولا نريد الحوار؟! ونريد الأخذ بالمطالب كلّها من دون تلكُّؤ، فيما وسائل الفرض معطوبة، وآليات التنفيذ معطّلة نتيجة عجز فاضح في البنية التنظيمية عند أولئك الذين يملأون الشوارع والساحات، لا مطالب واحدة موحّدة، بل مسرح صاخب، وهواء مفتوح، وكلّ يغني على ليلاه، مجموعات من الأفواج والوجوه. ولا هيئة مختارة، أو منتخبة ناطقة باسم الحراك، وممثّلة لهيئاته وتجمعاته تقوم بدور صلة الوصل ما بين الشارع والسلطة، أو بدور ساعي البريد لتبادل الرسائل، أو بدور المرجعية المؤهلة لوصل الجسور المقطوعة، والمخوّلة وضع النقاط فوق الحروف الصماء؟!.
هذا مركّب النقص الحاصل، لا بل هذه الفجوات الواسعة التي اعترت الحياة العامة منذ ١٧ تشرين الأول، قد أفسحت المجال أمام تدخلات خارجية غير مسبوقة، وأمام رياح عاتية لفحت المرحلة المصيرية، على قاعدة وجدنا في لبنان إرادة للحياة ولم نجد إرادة لصنع ثقافة الحياة، وبناء على هذا كرّت سبّحة الموفدين والمبعوثين والندوات والمؤتمرات، وكان آخرها الاجتماع الذي استضافته باريس تحت شعار المجموعة الدولية لدعم لبنان، والتي قدّمت سلالًا من القرارات والتوصيات، فيما كان المنتظر سلالًا من الدولارات لفكّ الضائقة الاقتصادية المعيشية. أما أبرز التوصيات تلك التي تحدّثت عن ضرورة تشكيل حكومة تحظى بثقة المجتمع الدولي، من خارج الطبقة السياسية التقليدية، من الاختصاصيّين المستقلين تستحوذ على ثقة الصناديق المالية الدولية، والدول الشريكة المساهمة في مؤتمر «سيدر».
وإذا كان المكتوب يُقرأ من عنوانه، فلا حاجة إلى كل التفاصيل المعروفة عن الاختلاسات، والصفقات التي تفوح منها روائح الفساد، ويكفي أنّ المجتمع الدولي قد تناول المسطرة ورسم خطًّا على الصفحة اللبنانية يفصل ما قبل ١٧ تشرين الأول عمّا بعده، وأصدر حكمًا مبرمًا حول النوعية الحكومية المطلوبة، ونادى على طائفة جديدة استنسخها من البيوتات الهانئة وسط بيئة وطنية نظيفة، ووضعها في مواجهة الانحدار المريع والمندلق من شرفات غالبية النافذين في مرابع الطوائف الأخرى!
وليس من باب الصدفة يأتي الأكاديمي الدكتور حسّان دياب، ولا من مضارب الفراغ يطلّ بعباءته الجامعية على الرأي العام معرّفًا عن نفسه، بُعَيد تكليفه تشكيل الحكومة، «أنا مستقل وأكاديمي!»، أعطى «الإستقلالية» بعدًا حضاريًّا متلازمًا مع الكفاءة، والنزاهة، ونظافة الكف، والأهلية، والجدارة في تحمل المسؤولية. لم يكن الوحيد، سبقه الدكتور شارل مالك في ستينيات القرن الماضي عندما قال كلمته المأثورة «الأكاديميّون، المستقلون، الشرفاء في عطاءاتهم، وسلوكياتهم سيرثون لبنان الجنّة!». ربما كان الرئيس فؤاد شهاب أكثر شفافية في تلمّس نبض الشارع، جاءه يومًا بعض أهل البطانة يلحّون عليه بتمديد الولاية، قالوا له: «إنّ الأكثرية النيابية تناديك»، فكان جوابه حازمًا: «وماذا عن الأكثرية الصامتة؟!».
وإذا كانت الحاجة أم الاختراع، فما هي الحاجة التي اخترعت هذا المولود الطارئ على الحياة السياسية اللبنانية. الطائفة المنسيّة (المستقلّون الأكفاء) كانت مع الاستقلال، وكانت نبضه في الشعر والنثر، والقصيدة، والمقالة، والرأي الرمح، والموقف القاطع كحدّ السيف. كانت الفكر، والرؤية، والمنبر، وجريدة الصباح، والصوت الصارخ في بريّة هذا الوطن، لكنّها أُرغمت – والبعض يقول – ارتضت أن تركب المقطورة الخلفية تاركة قمرة القيادة للتقليديّين كي يقودوا قطار الوطن على السكّة المؤدّية إلى بناء الدولة القوية، القادرة، والعادلة، والمنفتحة، لكن بعد نيف و٧٠ عامًا على الاستقلال، لم يبقَ من أثر لقطار ولا لقمرة قيادة ولا حتى للسكّة، والدليل أنّ آخر شاهد عليها كان «جسر الحديد» في منطقة النهر، والذي سقط بدوره قبل أشهر معدودة!
وُلدت طائفة «الأكفاء المستقلّون» في مزود الدول الحاضنة، وربما الطامحة بالتسلّل إلى كنوز لبنان الدفينة – لكي تعطي الشباب اللبناني الطَّموح، المثقف والمستنير، فرصة تمكّنه من بلوغ قمرة القيادة عوضًا عن جيل الوساطات، والتنفيعات، والمحسوبيات. لقد هبّت ريحها من بعض عواصم دول القرار، وأيضًا من سهوب القهر، من مراتع الظلم، من وجع الناس، من الصراخ المدوّي حتى قبّة السماء. نحن هنا، المعاناة هنا، المأساة هنا، وهنا الجوع إلى الحق، والإنصاف، والنزاهة، والشفافيّة، والعدالة الاجتماعية. قيل إنّها وليدة الشارع المنتفض، لكنّها أيضًا وليدة المرحلة الانتقالية التي يمر بها الشرق الأوسط من محيطه حتى خليجه.
ومع ذلك لا يمكن رفع بيارق النصر، ولا التقاطر نحو القناطر العالية لتقُّبل التهنئة، ذلك أنّ المرحلة مصيرية بكل مفاصلها وتفاصيلها الدقيقة، ولبنان أمام تحديات ثلاث على الأقل:
الأولى: أن يتقبّل الجذع السياسي التقليدي هذا الطعم الجديد، كي يتوافر خصبه وينمو، وتنبثق من فروعه شجرة باسقة تحطّ على أغصانها عصافير الأمل.
الثانية: أن تُدار الأمور برؤوس باردة تعتمد على الحكمة، والتعقّل، والحوار، والتلاقي، بديلًا عن الانفعال، والتحدّي، والنكايات، وتصفية الحسابات، والأهم أن تتمكن الإرادات الخيّرة من تشكيل فريق عمل حكومي إنقاذي يتولّى ردم الهوّة السحيقة ما بين المواطن والدولة.
الثالثة: أنّ لبنان من حيث موقعه الجغرافي، ومن حيث تركيبته السياسية الاجتماعية، ومن حيث نظامه القائم أساسًا على فلسفة «الديموقراطية التوافقية»، ليس جزيرة معزولة عن المحيط، بل هو في خضم العاصفة، وساحته مكشوفة مباحة أمام صراع المحاور، وهذا الصراع هدفه السيطرة على ثروات المنطقة ومقدّراتها، وقد نجح إلى حدّ بعيد في إنهاك شعوبها، وإمكانات صمودها من خلال الانتفاضات التي ضخّها «الربيع العربي» من جهة، والإرهاب من جهة أخرى، على أمل ألّا تكون كنوز لبنان في دائرة الاستهداف؟!...