اسماء لامعة

عاشق الازميل والريشة نعيم ضومط
إعداد: تريز منصور
تصوير: المعاون روميو موسى

يلمس الحجر بأصابعه لمسة معلّم، فيبعث فيه نبض الحياة، ليغدو جسداً حافلاً بحركة الخطوط وانسياباتها.

إنساني بقوة، معالجته المبسطة لمنحوتاته مقترنة بأناقة شكلانية باهرة.

رسام متمرّس، يملك صلابة الخط وليونة القلم كما الإزميل. نعيم ضومط، فنان عشق الإزميل والريشة في آن. هذّب حسّه وطعّم إبداعه من جاذبية الطبيعة الشوفية الخلابة، بصخورها ومخلوقاتها، فجاءت اعماله ترجمة عملية لما يختلج في نفسه من أحاسيس ومشاعر.

 

صلابة الخطوط وليونة الانسياب الانيق

مراقبة ولمس

في بلدة المغيرية الشوفية، أبصر الفنان نعيم ضومط النور العام 1941. والده السيد حبيب ضومط (نجار باطون)، ووالدته السيدة هندومة صالح.

ترعرع نعيم في طبيعة خلاّبة، وأشبع طفولته بصور الأشياء والحجارة والحيوان. راقب الحجارة بعفوية وشغف مطلقين.

ككل الأطفال كان يجمع الاحجار ليبني بيته. لكن لعبة الطفل لم تظل مجرد لعبة. فقد كانت لكل حجر صورة في مخيلته. صورة ترتسم بينما تلامس أصابعه طويلاً أحجاراً مرمية في حقول الفلاحين.

في الثامنة من عمره، بدأ ينقل الصور على الورق، تساعده عدة الوالد في صنع أشكال بدائية لأجساد وتماثيل تفشي بموهبة فنان مرهف الإحساس.

تلقى نعيم ضومط علومه الإبتدائية في مدرسة القرية، أما علومه الثانوية فتلقاها في تكميلية صيدا الرسمية.

وكان إحساسه المرهف كما عشقه للرسم والنحت، ينمو يوماً بعد يوم، فانتسب الى الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا) ودرس فيها فن الرسم والنحت لمدة سنتين. وكما كل الطلاب، كان يناقش أعماله التي رسمها مع أساتذته ومنهم نقولا النمار، الذي سأله مع زملائه يوماً: «لماذا خطوطكم بغالبيتها قاسية؟ لماذا لا تنحتون؟ جربوا النحت»...

دفعت هذه الكلمات ضومط الى الحجر، وهذه المرة بقوة أكبر.

الرسم مساحة وخطوط يمكنها أن تؤلف منحوتة، ولا فارق في نظر نعيم ضومط بين المنحوتة واللوحة. وبعد دراسات وتجارب ثبت له أن الرسم هو المدخل الأساسي الى النحت، ولا يمكن للمرء أن يكون نحاتاً قبل أن يكون رساماً.

العام 1962 خاض المباراة التي نظّمتها وزارة التربية بهدف إرسال طلاب الى الخارج، للتخصص بالنحت والرسم والموسيقى والثقافة العامة. واحتل المرتبة الاولى وحاز المنحة التي أهّلته للسفر الى إيطاليا، لمتابعة دراسة النحت في السنة الثانية بعد خضوعه لمباراة دخول. والعام 1965 حاز ضومط دبلوماً في النحت من أكاديمية روما للفنون الجميلة. وفي الوقت عينه، تابع في الفترة المسائية دراسة الزخرفة والنحت على الخشب، وحاز شهادة تقدير من أكاديمية الفنون والزخرفة العام نفسه.

وباندهاش كبير كان الاساتذة يقفون أمام هذا الفنان اللبناني الذي تأثر بحضارات الشرق من فينيقية ومصرية وأشورية وسومرية...

تزوج الفنان نعيم ضومط من السيدة ماجدة أحمد سعد (مدرّسة في القطاع الرسمي) وأسس معها عائلة مؤلفة من لارا (ماجستير في الترجمة) وأدون (علوم كومبيوتر).

وكان لهذه العائلة الجميلة والسعيدة الفضل الأكبر في متابعة مسيرة الرسم والنحت.

 

دقة وتناسق في الخطوط

تابع نعيم ضومط سيرة النحت والإبداع، متأثراً خلال دراسته بالفنان مايكل أنجلو ومدرسته الكلاسيكية الأساسية وبالفنان هنري مور... ولكنه ما لبث أن اختار أسلوبه النحتي الخاص، المتميّز بالأناقة والخطوط المتناسقة.

عاش ضومط مرحلته الكلاسيكية حتى أوائل الثمانينيات، لكنه رفض الجمود، وأصبحت أناقة الحركة ورهافة الحس الرقيق، تربط بين رسومه ومنحوتاته. يعبّر عمّا يختلجه من دون أن يلغي دور المادة في كشف مكنونها.

فالوجوه في أعماله في تعددية أشكالها وتعابيرها، تعكس أصداء السنين، لتقترب من مسافات الإستلهامات البدائية الأولى، ومن الأساطير القديمة التي تمجّد الصفاء الأول او تبحث عن علاقات رمزية.

إيماء الخطوط وانقسام المساحات والتجاويف والاستدارات والامتدادات والانكسارات، التي ترسم وببساطة متناهية، إنسيابية الحركة، وتعكس في آن واحد قوة الطبيعة، والتشريح الجمالي لتقاسيم الوجه، من المميزات الأساسية لاعمال ضومط.

الوجه المنحوت هو الدلالة الرمزية الأولى للقناع الذي يعني في الاساطير القديمة تحدي الغياب (الموت). والوجه البشري الذي حطمته فنون ما بعد التكعيبية، وشوّهته لدرجة الاختفاء، نراه في تجارب ضومط مستعيداً رموزه البدائية ليبوح بمدلولات أعمق مما تبوح به القسمات، ما يفسّر سرّ تعلق الحداثة بفنون فجر التاريخ.

يتقن نعيم ضومط لغة النحت بالمادة الصلبة (الحجر)، ويبدع بالبرونز والحديد والخشب (الخشب الابيض والخشب الافريقي، والبطم والتوت...)، أما رسومه بالحبر الصيني الاسود وبالاقلام الملونة والطبشور وبالزيت والباستل، فتنساب بلين وطواعية، وفيها تتداعى الخطوط المتلاقية من دون عناء ولا عناد. إنه صاحب اليد الملساء المرنة، والعين المراقبة لتقاسيم الوجوه الواجمة والصامتة والضاحكة.

في محترفه في عوكر، هالات أجساد بالحبر تبوح بما لدى الفنان من إحساس حيال المرأة. ومن خلال حضورها على الورقة البيضاء، تكتشف علاقته بها، علاقة روحية شاعرية فنية.

 

درب الإزميل والريشة

ينتمي الفنان نعيم ضومط الى جيل الستينيات. مارس مهنة التعليم كأستاذ لمادة النحت في معهد الفنون في الجامعة اللبنانية، منذ تأسيسه العام 1965 ولغاية العام 2005. يرأس قسم الفنون في جامعة الروح القدس في الكسليك منذ العام 1974 ولغاية اليوم. يعشق تعليم مادة النحت، كما يعشق الحوار مع طلابه، «يستفيدون مني وأستفيد منهم» كما يقول.

شارك في العديد من المعارض في لبنان وفي العديد من دول العالم، كإيطاليا وألمانيا وفرنسا واليونان والأردن والولايات المتحدة الأميركية والعراق... وآخر معارضه كان في مدينة فلورانس الإيطالية العام 2006، حيث كان اللبناني الأوحد بين 767 فناناً من أجيال متعددة، ينتمون الى 37 بلداً من مختلف عواصم العالم.

من أعماله العديد من الأنصاب في الساحات العامة: في بيت مري وعين سعادة وزوق مكايل وبيروت وكفرحباب. وكذلك في ساحات خارج لبنان منها جدة في السعودية وفلورانس في إيطاليا.

يعشق الفنان نعيم ضومط لبنان، ويؤكد أنه لا مثيل لهذا البلد في العالم لناحية انفتاحه وتعدديته وعيشه المشترك، ويقول «إنه جنة عدن التي لم نعرف قيمتها».

يفرح بولادة كل عمل له، ولا يرغب ببيع أعماله، فالعمل لديه كما يقول «ليس تجارة، إنه نبض حركة داخلية، أحاول أن أقولها وتختمر، فتظهر في الحجر والبرونز. في النهاية أنا مثل كل الناس، لدي مشاغل الحياة اليومية وصعوباتها. وأحاول أن أكون إنساناً أولاً لأكون فناناً ثانياً، الإنسان في داخلي يتكامل مع النحات، كما تتكامل أعمالي المرسومة مع منحوتاتي». ويعقب بالقول: «النحت بات صعباً علينا اليوم، نظراً الى كلفة مواده، لذلك علينا بيع أعمالنا، كي نعيش بكرامة ونتابع المسيرة».

نعيم ضومط، حلمه المستقبلي إنشاء متحف يضم أعماله الفنية وهو لا ينفك يردد: «الفن ملك الناس».