ثقافة وفنون

عبدالله الأخطل
إعداد: وفيق غريزي

فارس يترجّل عن جواد الشعر ويرحل

فارس جديد يترجّل عن صهوة جواده الإبداعي ­ الشعري، ويرحل عن هذا العالم، إلى عالم أكثر نقاء وصفاءً. رحل المحامي ­ الشاعر عبدالله بشاره الخوري، نجل الشاعر الكبير "الأخطل الصغير". عبدالله الأخطل عرف لدى الكثيرين كمحام بارع، ولدى القلّة كشاعر أصيل وعميق، وذلك، لأن شهرة والده كبيرة، فألقت بظلالها على شهرة نجله. إن الحركة الثقافية والإبداعية في لبنان، تفقد فرسانها واحداً بعد الآخر. منذ فترة رحل الفنان التشكيلي الكبير عارف الريس، واليوم لحقه الشاعر عبدالله الأخطل، وكلما فقدت الساحة الإبداعية فارساً، لا تجد من يملأ مكانه رغم هذا الكم الهائل من دعاة الشعر ليس في لبنان وحسب بل وفي الوطن العربي برمته.

 

بصمات وراثية

لم يشجع الأخطل الصغير ابنه عبدالله يوماً على كتابة الشعر، بل كان يحذّره من أن الذي يريد أن يعيش فقيراً عليه تعاطي الشعر والأدب في هذه البلاد التي يزعم أهلها أنها بلاد الإشعاع والنور.
ولكن الأخطل حين شعر بالشوق للكلمة يتأجج في أعماقه، فتش عن مصير أبناء الشعراء الذين عاصروا الأخطل، فلم يجد أحداً منهم تعاطى الشعر.
وتساءل ماذا سيعطي إبن شاعر كبير كالأخطل الصغير؟ ولكنه رغم ذلك، سار في الطريق، وكان أول شاعر يرثي أباه في مهرجان أقيم في الأونسكو العام 1969 وقال يومذاك:
لم يخلق شاعر في الأرض شاعر
عاقرات في ربى البحر المنائر
بعدئذ شعر عبدالله الأخطل بأنه يريد أن يقول شيئاً. فقرّر ألا يتطرق الى موضوع تطرق اليه والده الأخطل، كي لا يكون نسخة كربونية عنه، وكي لا يسقط، ويكون سقوطه عظيماً. اعتقد صديقنا الراحل بأنه غرسة في بستان السنديانة الكبيرة التي هي بشارة الخوري "الأخطل الصغير" ولكنها غرسة لها خصوصيتها. أخذ من والده الشاعرية، والنغمية ومن لغته، ولكن بطريقة مختلفة.
شكل له إرث والده عبئاً مهولاً على كاهله، فإلى أي مقياس منه يمكنه أن يرفرف؟ قد يقرأه بفضله الكثيرون، وما قصدهم سوى المقارنة...
 إن الشعر الحقيقي لدى الشاعر عبدالله الأخطل، هو ان تنظر فيه، وتكتب عنه المجلدات والمقالات، ثم أن تتحاشاه كي لا تقع في التجربة. ومفردات الشعر، هي مفردات ضوئية، جديدة للإستعمال. والشاعر بنظره، هو نهر كبير، أو نهر صغير، يسقي الأرض التي تحتضنه، ولكنه لا يفرض عليها نوع الزهر والشجر الذي عليها أن تنبته؛ وفي رأيه هذا إشارة الى أنه على الشاعر الحق أن يترك للقارئ مجالاً لمشاركته في عملية الخلق والإبداع.. فيبتعد الشاعر عن السهولة المبتذلة وعن الخطابية الشعرية.

 

اين الشعر؟
 لا يوجد شعر.. بل يوجد شعراء وفق رأي شاعرنا الراحل. يوجد شعراء ومادة فنية تتنوع من واحدهم الى الآخر. الرسام الملهم هو "شاعر" في الرسم، والموسيقي العبقري هو "شاعر" في الموسيقى. والنحات الذي يجعل الصخر يتكلم هو "شاعر" في النحت. والقصيدة بالذات، هي شكل جامع لهذه الأشكال: إنها يجب أن تكون "جامعة الفنون الجميلة" بأسرها، بحيث يتوافر فيها الرسم والنحت والموسيقى، بالإضافة الى خلجات القلب وشطحات الخيال، وهمهمات التفلسف على الوجود، ولا يعني بذلك الفلسفلة.
وحسب رأي بشاره الأخطل فإن الشعر مثل الحب، والشاعر كالمسحّراتي، كل الجمالات التي يقولها موجودة في كل إنسان، ولكنها غافية، والتجاوب بين الشاعر والمتلقي لم يكن له وجود لو لم يكن عند المتلقي تلك الجمالات التي يوقظها الشاعر.
وكان شاعرنا ضد القصيدة الطويلة، ولكنه ليس ضد "المطوّلات" التي تعالج وقائع تاريخية وأحداثاً درامية، وقصيدته تميل الى الإختصار، لأن القصيدة نتيجة حالة نفسية لا يجوز أن يتجاوزها الشاعر. إن الإبتسامة لا تستمر اكثر من نصف دقيقة، والعين لا تدمع اكثر من خمس دقائق.
ولقد اختار لقب "عبدالله الأخطل" إنطلاقاً من الإرث الذي تركه الأخطل الصغير، وهذا ليس محصوراً بعائلته "الطبيعية" بل إنه يتعدّاها الى أجيال لبنانية وعربية، واختياره اسم "عبدالله الأخطل" إعلان لإنتمائه إلى العائلة الأخطلية المترامية الأطراف.

 

بين الكلاسيكية والحداثة

لقد أدخل عبدالله الأخطل الحداثة الى الكلاسيكية، وفتح مدرسة ليلية لكل المفردات وحرّرها من معانيها المستهلكة، وأعطاها أدواراً إرتاحت فيها.
البعض يعتبر الأوزان قيوداً، وهو اعتبرها أجنحة. المهم أن يكون للشاعر أجنحة للتحليق، والحداثة الشعرية فتحت عن غير قصد أبواب الحداثة في السن فأدخلت في التجربة الأبرياء من التجارب؛ أجنحة الحداثة التي يتحدثون عنها هي أجنحة دجاجة لتسقط لا لتحلّق، حسب رأيه.
وإزاء الفوضى الشعرية التي تشهدها حياتنا الثقافية، قال لي الراحل في احدى جلساتنا: "إني أحذرك يا صديقي، بأني سأطلق الرصاص على كل من يسميني شاعراً، لأن في عالمنا العربي حوالى سبعين مليون شاعر، فلا أريد أن أصبح رقماً من هذه الأرقام. هذه هي الفوضى، هذه هي السهولة التي يرتكبها الكثيرون بحق الموهبة والشعر الأصيل، هذه الفوضى أتت من الغرب الذي لم يكن تراثه تراثاً شعرياً. ولا شك أن النظامين الخليليين (نسبة الى الخليل بن أحمد الفراهيدي) هرّبوا الناس من الشعر". الذين استهلكوا ويستهلكون "المعاجم اللغوية".. ينظمون الشعر وليسوا شعراء مبدعين، وتقع على رقابهم حصة ضخمة من مسؤولية "تهشيل" الناس من الشعر والشعراء.

 

الطفولة والمرأة

الطفولة لدى عبدالله الأخطل، ذاكرة، والحدث لا يمكن أن يصبح شعراً قبل أن يصبح ذكرى، فشعر المتاريس والمواقف فوري الصدى عنده أجمل من الصوت لأنه يأتي من البعيد. الطفولة ذكريات متغلغلة في الانسان، والمرأة بنظره كنار ذهبي جميل يطمح لأن يصبح باشقاً بشعاً. المرأة هي مصدر كل الأشياء وتريد أن تكون شيئاً من هذه الأشياء.
خلّف لنا الشاعر عبدالله الأخطل، مجموعتين شعريتين هما: اليوم الأخير، وعمري ألف عام، وعن هذه الأخيرة واسمها يقول: "إن من يرث التراث يجمع الأعمار، ولا أعتقد أن طفلاً يولد وعمره أقل من ثلاثة ملايين سنة... فأنا كنت متواضعاً جداً عندما اكتفيت بألف عام".
رحل عبد الله الأخطل، ذلك الإبن الذي حلّق في دنيا غير الدنيا خارج دائرة السلف. فكان شاعراً له خصوصية ونكهة مميزة. رحل جسدياً، ولكن شمس إبداعه ستبقى متوهجة في سماء الحركة الشعرية، لتبدّد الظلمات عن دروب حياتنا.

وُلد الشاعر شارل قرم في بيروت في العام 1894. درس في معهد اخوة المدارس المسيحية (الفرير) في الجميزة. أسّس منظمة الشبيبة اللبنانية، اولى الحركات الوطنية بعد افول نجم الدولة العثمانية، واصدر عام 1920 وحتى 1925 "المجلة الفينيقية"، وانشأ ندوة "الصداقات اللبنانية" عام 1935 وهي كناية عن مجموعة من الادباء من لبنانيين وفرنسيين يقيمون لقاءات في الأدب والشعر عزّ نظيرها من حيث العمق والشمول.
عام  1937 عينته الحكومة اللبنانية مفوضاً عاماً للجناح اللبناني في معرض نيويورك الدولي العام لتلك السنة. انشأ مكتبة ضمت 35 الف مجلّد في كل ما كتب عن لبنان باللغات الاجنبية. اعتزل في نهاية حياته.

 

مؤلفات شارل قرم

اصدر أبناء شارل قرم عن دار المجلة الفينيقية التي انشأها مجموعته الشعرية في عشرة مجلدات وهي تحمل العناوين الآتية:
 “Les Cahiers de l'enfant “  - “ La Rose et le cyprès” – “ La montagne parfumée “ – “ L’Eternel Féminin”- “ Médaillons en musique de l’âme Libanaise “- “ Petite Cosmogonie sentimentale” – “La planète exaltée”- “ Le mystère de l’amour”- “ La Symphonie de la lumière”- “ La Montagne inspirée “

والكتاب الأخير "الجبل الملهم" احدث دوياً واثراً في مختلف الأوساط لا سابق لهما. وهو عمل تاريخي اثار موضوعات وطنية وحضارية لبنانية في غاية الأهمية كان فيها الشاعر رائد فكرة لبنان التاريخية في عصوره القديمة.

 

روّاد الصالون

بحسب الأديبة اميلي فارس ابراهيم كان يرتاد صالون شارل قرم الأدبي على طريق الشام بدءاً من العام 1935 رجال الفكر الآتية اسماؤهم:
­ الباحث فكتور حكيم: صاحب "الحياة الفكرية في لبنان" و"نهضة القصة في لبنان".
­ الشاعر هكتور خلاط: صاحب ديوان "من الارز الى الزنبق" ومؤلفات اخرى.
­ الشاعر سعيد عقل: صاحب "قدموس" (مأساة شعرية) و"المجدلية" و"رندلى" ومؤلفات أخرى.
­ الشاعر جورج شحاده: صاحب سبع مسرحيات بالفرنسية. ومن دواوينه الشعرية بالفرنسية: "شرارات"، "التلميذ سلطان" وسواهما. ومن مسرحياته: "حكاية فاسكو"، "مسيو بوبل"، "سهرة الأمثال". مسرحياته اوصلت شهرته الى مختلف انحاء العالم.
­ اميل مخلوف وشقيقه صاحبا مجلة "لاريفي دي ليبان".
­ اميلي فارس ابراهيم: صاحبة "اديبات لبنانيات"، "الحركة النسائية اللبنانية"، "سلمى صائغ آهة من بلادي"، "حذار الأنسنة"، "كلمات ومواقف".
­ عُمَر الأُنسي: الرسام اللبناني المعروف، تلميذ الفنان خليل الصليبي، المشهور برسم المناظر الطبيعية بالألوان المائية.
­ سلمى صائغ: تلميذة العالم اللغوي الشيخ ابراهيم اليازجي، الكاتبة والمربية وعضو "العصبة الاندلسية" مدة من الزمن والاستاذة في كلية البنات للبعثة العلمانية الفرنسية ورئيسة تحرير جريدة "صوت المرأة". من مؤلفاتها "النسمات" الذي اشاد به جبران خليل جبران ومخايل نعيمه.
­ فؤاد حبيش: الصحافي المرموق والناشر، منشئ مجلة المكشوف الشهيرة وصاحب "دار المكشوف للطباعة والنشر"، وصالون مجلة المكشوف الأدبي، ومن روّاد النهضة الأدبية العربية في لبنان.
­ افلين بسترس: من اركان النهضة النسائية في لبنان ورئيسة الاتحاد النسائي العام وجمعية النهضة النسائية ومشجعة الصناعة اليدوية. من مؤلفاتها: "يد الله" و"في فيء شجرة البندق".
­ بيار بنوا (Pierre Benoit) الروائي الفرنسي وعضو الاكاديمية الفرنسية، ومن رواياته "شجرة الفستق اللبنانية"، وهو كان من بين الادباء الفرنسيين الذين مروا بلبنان وارتادوا هذا الصالون.

 

ميزة صالون شارل قرم

غلب على هذا الصالون الطابع الارستقراطي، ومجمل روّاده من ادباء وشعراء الفرنسية المعروفين، والأحاديث مجملها بالفرنسية، والذي يميّزه وجود شاعر العربية المعروف سعيد عقل الذي صدرت مؤلفاته عامة بالعربية عكس الباقين.
ومما يتصف به هذا الصالون ايضاً وجود كبار وكبيرات الشعر الفرنسي من اللبنانيين، (مثال شارل قرم وهكتور خلاط وجورج شحاده).
وتروي اميلي فارس ابراهيم انه كان ما يقارب الثلاثة عشر اديباً وشاعراً يرتادون هذا الصالون وانّ الاجتماعات كانت تبدأ حوالى الثامنة مساءً لتدوم الى حوالى الحادية عشرة.
اما بالنسبة للموضوعات التي عولجت في هذا الصالون والقصائد التي تُلِيَت، فتقول اميلي فارس ابراهيم:

 

المراجع

­ اميلي فارس ابراهيم: "اديبات لبنانيات"،  دار الريحاني للطباعة والنشر، 1965 ­ "الحركة النسائية اللبنانية"، دار الثقافة، بيروت.
­ ناديا الجردي نويهض: "نساء من بلادي"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1986.
­ الدكتور جورج هارون: "اميلي فارس ابراهيم،  ادب وفكر" دار مكتبة التراث الأدبي، بيروت، 1994.