دراسات وأبحاث

في المنطقة والعالم
إعداد: د. أحمد علو
عميد متقاعد

صراع القوة وتجلّياته

 

يقول المثل الشعبي: «عند تغيير الدول إحفظ رأسك». اليوم يبدو أن العديد من الدول والشعوب، خصوصًا في منطقتنا تحتاج إلى الكثير من الحكمة وسط تصارع مصالح الكبار، لتتمكن من الحفاظ على كياناتها وهويتها.
ففي نظرة سريعة إلى التطورات والأحداث المهمة التي شهدها العام 2015، والتي تشكل امتدادًا لما شهده العالم خلال السنوات الماضية، يتبين بوضوح أن الأزمات والصراعات الإقليمية هي إلى حد كبير نتيجة الاشتباك القائم بين القوى الكبرى. وتاريخ العلاقات الدولية يشير إلى أن صعود قوى جديدة لا بد أن يترافق مع صراعات وأخطار.

 

اضطراب وتشابك
تميّز العام 2015 باستمرار حالة الاضطراب والتشابك في العلاقات بين الدول، سواء كانت علاقات تعاونية أو صراعية. وتمظهرت هذه الحالة من خلال عجز الدول الكبرى (أو عدم رغبتها) عن تطبيق القواعد الحالية للنظام الدولي والقانون الدولي على صراعات كثيرة  قائمة. وقد باتت هذه الصراعات تهدد باستمرارها، وحدة وسلامة عدد من دول الشرق الأوسط التي أنشئت عقب معاهدة سايكس – بيكو (1916) ونهاية الحرب العالمية الأولى، أو تلك التي قامت بعيد نهاية الحرب العالمية الثانية وتفاهمات معاهدة يالطا (العام 1945) وتقاسم النفوذ في العالم بين القطبين الكبيرين المنتصرين في الحرب: الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي.
كذلك فإن النظام العالمي يعيش اليوم أزمة بنيوية حادّة، فمنذ انهيار الاتحاد السوفياتي (العام 1991) لم تفلح محاولات الولايات المتحدة في الاستمرار في قيادة العالم كقطب أوحد، وذلك لعدة أسباب.

 

صراع الإرادات وخصخصة الحرب
أدّى الصراع حول إعادة تمركز القوة بين الدول الكبرى من جهة، والإقليمية من جهة ثانية، واعتماد خصخصة الحروب وتمويلها من الخارج، إلى «الاصطدام الطرفي» واندلاع «الحروب بالوكالة» و«الحروب الهجينة» في عدد من البؤر، مما بات يهدد سيادة وكيانات بعض الدول، وبخاصة في منطقتي الشرق الأوسط وشرقي اوروبا. كما أسهم هذا الصراع في بروز ظاهرة الارهاب بشكل عام، والإرهاب التكفيري بشكل خاص، كنتيجة وكبديل لفشل بعض الأنظمة السياسية الإقليمية في إرساء دعائم الدولة الوطنية القائمة على المساواة والعدالة ومبدأي الحقوق والواجبات. يضاف إلى ذلك أن دولًا كبرى، وتحت شعار «مسؤولية الحماية» والتدخل الإنساني وإقامة الديمقراطيات، تسعى إلى تفكيك سيادة بعض الدول لبناء كيانات طائفية وإتنية ضمن نظام عالمي جديد هو قيد التشكيل، ولكنه غير واضح المعالم حتى الآن.
لذلك لا يمكن فصل ما يجري في عدد من دول الإقليم، عن الصراع العالمي بين القوى الكبرى القديمة والدول الصاعدة. فكل من هذه القوى يعمل على تجميع نقاط القوة الجيوستراتيجية الظاهرة أو الكامنة لتعزيز قوته ونفوذه.

 

2015: بداية التحولات الكبرى
تميز العام 2015 باستمرار الصراع الدولي في المنطقة، وتمدد تنظيم داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام) الإرهابي عبر الحدود، وتوسع عملياته في لبنان وسوريا والعراق والكويت والسعودية واليمن ومصر وتونس وليبيا وتركيا وفرنسا والولايات المتحدة، على الرغم من قيام التحالف الدولي بقصفه من الجوّ منذ آب 2014. وهذا ما أدى إلى تداعي الدول الكبرى لعقد المؤتمرات والمشاورات لإيجاد تحالفات جديدة واجتراح حلول سياسية وعسكرية للقضاء على هذه الظاهرة. ولكن يبدو أن ذلك ليس يسيرًا أو قريبًا لأسباب كثيرة، منها اختلاف رؤية الدولتين الكبريين في عالم اليوم: روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية للموضوع.

 

أزمة اليمن
أدى نجاح التحالف اليمني ما بين الحوثيين والموالين للرئيس السابق علي عبد الله صالح وسيطرتهما على العاصمة صنعاء (أيلول 2014) والوصول إلى عدن وباب المندب في الجنوب (آذار 2015) إلى لجوء الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي الذي اعتبر أن ماجرى هو انقلاب على النظام القائم، إلى المملكة السعودية. قادت المملكة السعودية تحالفًا عسكريًا عربيًا من عدة دول لإعادة الرئيس هادي، إلى السلطة، عرفت هذه الحملة الجوية والبحرية والبرية باسم «عاصفة الحزم»، واستمرت طوال العام 2015 تقريبًا. استطاعت الحملة أن تجبر الحوثيين ومن يعاونهم على التراجع والانسحاب من عدن وعدد من المدن والمناطق الجنوبية. ومع تغيّر الواقع الميداني على الأرض عاد الرئيس هادي إلى اليمن واستقر في عدن.
استمر القتال والقصف بدون أفق واضح حتى منتصف كانون الاول حيث تمّ الاتفاق على وقف لإطلاق النار، لكنّ هذا الاتّفاق لم يصمد، وسرعان ما تجدّد القتال. ومن المحتمل ان تتوصّل الأطراف المتحاربة إلى العودة إلى الحل السياسي بمساعٍ من الأمم المتحدة وبعض القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، استنادًا إلى قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 2216. وهذا الحل ربما يفرضه توازن القوى المتحاربة على الأرض، علمًا أنه قد يؤدي إلى إيجاد آلية تفاهم مشتركة للحكم واقتسام الثروة والنفوذ والسلطة بين الأطراف المتنازعة في اليمن وتوازن مصالح القوى الداعمة للطرفين من الخارج، أو قد ينتهي بتقسيم اليمن وفق الخريطة العسكرية لوجود القوى المتحاربة أو حدود المصالح الدولية الكبرى، وذلك بعد أن استنزفت هذه البلاد من جراء الحرب المدمرة ووصلت إلى طريق مسدود.

 

الملف النووي الإيراني: اتفاق مع مجموعة 5+1
شهد العام 2015 توقيع الاتفاق النووي بين إيران من جهة ودول مجموعة الـ5+1 من جهة أخرى. وقد  انعكس الاتفاق ايجابيًا على المستوى العالمي، ولكنه لم يحظَ برضى بعض الدول الإقليمية التي رأت فيه خطرًا يهدد مصالحها في المنطقة ويمنح إيران دورًا سياسيًا ونفوذًا أكبر في بعض دول الإقليم. وهذا ما يطيل عمر عدد من قضايا المنطقة وأزماتها الساخنة والمتفجرة، من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، ولكنه في الوقت ذاته يسمح لإيران بالانخراط في المجتمع الدولي والمشاركة في إيجاد الحلول لأزمات المنطقة.

 

سوريا: تداعيات التدخل الروسي العسكري
اعتبارًا من آخر أيلول، باشرت روسيا قصف مواقع داعش في سوريا،  ما أدى إلى تدمير عدد كبير من الأهداف العسكرية والموارد المالية والنفطية العائدة لهذا التنظيم ولغيره من التنظيمات التي ترى سوريا وروسيا أنها إرهابية. خلق هذا التدخل إشكالية بين روسيا وبعض دول التحالف القائم ضد داعش، والذي كان قد باشر ضرباته الجوية منذ آب 2014، وذلك بسبب الخلاف على توصيف المنظمات الإرهابية وتمييزها عن الأطراف التي يعتبرها البعض معارضة معتدلة في سوريا. قامت تركيا بإسقاط طائرة حربية روسية في 24 تشرين الثاني معتبرة أن الطائرة اخترقت المجال الجوي التركي وانتهكت السيادة التركية. قوبل هذا العمل بإدانة روسية شديدة واعتبره الرئيس الروسي بوتين بمثابة طعنة في الظهر، وفرض على تركيا عقوبات اقتصادية قاسية تقدر خسائرها منها بعشرات مليارات الدولارات. كما أمر بوقف عدد من المشاريع الضخمة التي كانت روسيا تنوي تنفيذها أو باشرت فيها مع الجانب التركي. كذلك، قامت روسيا بعد هذا الحادث بنشر بطاريات صواريخ س 400 المضادة للطائرات والصواريخ في قاعدتها العسكرية في سوريا (قاعدة حميميم، والتي يمكن لراداراتها رؤية الأهداف على بعد 600 كلم وإصابة أهداف على بعد 400 كلم تقريبًا)، مما دفع تركيا إلى وقف طيرانها فوق الشمال السوري. كذلك رفعت روسيا مستوى انتشار أسطولها البحري في شرق البحر المتوسط.
مع التدخل الجوي الروسي الفاعل على الأرض، تغيرت موازين القوى في الميدان، ما أعطى أرجحية واضحة لمصلحة الجيش السوري وحلفائه، وعزز مواقف الحكومة السورية في المفاوضات الدولية التي جرت في فيينا.
 

تداعيات الاشتباك الروسي التركي
لا شك أن إسقاط تركيا طائرة السوخوي الروسية، ليس سوى رأس جبل جليد من العلاقات الروسية - التركية المخفية والمتوترة، على الرغم من محاولات عدم ابرازها إلى العلن. فمن الخلاف على الملف السوري ورغبة تركيا في إقامة منطقة عازلة على الحدود السورية، وقضية اللاجئين وتحديد المنظمات الإرهابية، واتهام روسيا لتركيا بدعم الإرهاب في سوريا، وتجارة النفط مع داعش، إلى التدخل التركي في العراق والخلاف حول غاز شرق المتوسط والتنقيب عنه، ومدّ انابيب السيل الروسي للغاز عبر تركيا إلى اوروبا، أو خط الغاز القطري إلى تركيا عبر العراق أو سوريا... يضاف إلى ما سبق تدخّل تركيا في جمهوريات آسيا الوسطى ودعمها الحركات الإسلامية فيها، وكذلك في القوقاز وفي جمهوريات الاتحاد الروسي الإسلامية، ودعم الإخوان المسلمين، إلى دورها في استقبال الدرع الصاروخي الأطلسي فوق أراضيها، والذي تعتبره روسيا موجهًا ضدها. ويضاف أيضًا الطموح التركي في المنطقة وحلم إعادة إحياء امبراطورية عثمانية إسلامية جديدة، تمتد من حدود الصين الغربية في سينغ يانغ، وحتى البحر المتوسط، مرورًا بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مما خلق الكثير من بؤر الصراع والصدام بينها وبين دول هذه المنطقة، وبخاصة حلفاء روسيا التي باشرت نشر قوتها فوق المسرح الإقليمي وأطراف الأوراسيا، للحفاظ على مصالحها ولتؤكد نفسها قوة عظمى على أنقاض الاتحاد السوفياتي السابق.
وهكذا يبدو أن العلاقات الروسية - التركية مرشحة إلى مزيد من التأزم والصدام على خلفية تناقض الأدوار والمكانة والنفوذ في المنطقة، ما لم يقتنع كل من الطرفين بحدود قوته ومدى تأثيره في الواقع الإقليمي والدولي، وبحصته ضمن لعبة الأمم، والصراع الدائر على مساحة الإقليم والعالم، والذي سيحدد تركيبة النظام العالمي الجديد الذي يتشكل في رحم المنطقة وفوق جثث ابنائها وخراب بلادهم.

 

فلسطين: انتفاضة السكاكين
مع مطلع شهر تشرين الأول أكتوبر 2015، اندلعت في الضفة الغربية والقدس في فلسطين المحتلة انتفاضة جديدة ضد المستوطنين الاسرائيليين وقوات الاحتلال عرفت بـ«انتفاضة السكاكين». سقط فيها العشرات من القتلى والجرحى لدى الطرفين مما دفع إلى تدخل الولايات المتحدة للضغط على إسرائيل لوقف استعمال العنف بحق الفلسطينيين ودعوتها للقبول بحل الدولتين، ولكن الانتفاضة لا تزال مستمرة، وكذلك استعمال العنف من جانب العدو الاسرائيلي.

 

انتشار داعش في ليبيا واستمرار حالة الفوضى
لا تزال ليبيا تعاني حالة انقسام حادة بين مكوّناتها الاجتماعية والسياسية المختلفة من جهة، ومنظمة داعش وغيرها من الميليشيات المسلحة من جهة ثانية. وهذه الحالة مرشحة لارتفاع في وتيرة الصراع الدموي ولمزيد من التدخل الخارجي الإقليمي والدولي تحت عناوين وشعارات شتى، في حال لم تتوصل الأطراف الليبية عبر حوار جدي لإيجاد مخارج مقبولة تعيد لمّ الشمل حول سلطة واحدة ودولة واحدة، وبخاصة بعد انتقال زعيم داعش ابو بكر البغدادي إليها كما ورد في بعض وسائل الإعلام. ومن المرجح تدخل مصر لحماية أمنها ضد إرهاب داعش التي تحاربها في سيناء، وكذلك يرجح حصول تدخل جزائري في الغرب، مما سينتج عنه إشغال هذين الجيشين وانهاكهما في ليبيا. وقد يكون ذلك مصحوبًا بتدخل دولي أوروبي وأطلسي، ربما لن تكون روسيا وبعض حلفائها بعيدة عنه أيضًا.

 

بؤر الصراع وتجارة الأسلحة
وفق دراسة صادرة عن المركز الدولي لأبحاث السلام في ستوكهولم (SIPRI) احتلت الولايات المتحدة الأميركية المركز الأول في مبيعات الأسلحة خلال الفترة 2010 – 2014، وحلت روسيا في المركز الثاني. وذكر المركز أن الولايات المتحدة زادت مبيعاتها إلى الشرق الأوسط الذي احتل المركز الأول كأكبر مستورد للأسلحة من المصادر المختلفة، وأن المملكة العربية السعودية حلت في المركز الأول عالميًا بنسبة الشراء وتقدّمت بذلك على الهند. ويرى بعض الخبراء العسكريين أن الحروب في الشرق الأوسط قد رفعت إنتاج السلاح في الدول الكبرى ورفعت أرقام تجارته، وأنعشت اقتصادات هذه الدول التي حققت ارباحًا كبيرة. وما تقدّم يدفع إلى الاعتقاد بوجود رابط متين ما بين شركات تصنيع السلاح والسياسات الدولية الداعمة أو المشجعة على اندلاع الحروب واستمرارها، أو المتباطئة في إيجاد الحلول للكثير منها. وهذا ما يؤكده عدم التوافق على توحيد الرؤية لتشيكل تحالف واحد شفاف أو توصيف موحد ضد حركات الإرهاب في المنطقة والعالم.

 

«صراع تحوّل القوّة»
يشير تاريخ العلاقات الدولية إلى أنه عند صعود قوى جديدة، لابد من اندلاع الصراعات مع القوى القائمة بالفعل. كذلك يرى بعض خبراء التاريخ أن الفترات الانتقالية في النظام الدولي تكون شديدة الخطورة على الأمن الدولي والإقليمي معًا، وذلك لأن القوى المهيمنة تحاول البقاء في قمة النظام الذي تسعى القوى الجديدة إلى تغيير نسق علاقات القوة وتمركزها في تشكيلاته المختلفة.
ومن هنا يمكن فهم أسباب بعض الأزمات والصراعات المنتشرة في بعض دول المنطقة والعالم وارتباطاتها بآلية صراعات القوة وتمركزها أو انتقالها من جهة إلى أخرى. فما يحدث فوق المسرح الإقليمي ليس سوى تجليات لصــراع بعــض القــوى الإقليمية الصاعدة، ولتحالفاتهــا، ومــا لذلــك من ارتــدادات.
كذلك يعلمنا التاريخ أن ما نشهده اليوم من صراعات في أكثر أقاليم العالم، هو صراع «تحوّل القوة ولا مركزيتها»، وأن مخاض هذه الفترة الانتقالية في النظام الدولي، شديد الخطورة على الأمن الدولي والإقليمي معًا، ولأن العالم العربي والإقليم بشكل عام، يختزن الكثير من نقاط القوة، يسعى كل طرف للحصول عليها في هذا الصراع الذي ستحسم نتائجه تشكيلة النظام العالمي الجديد.
لذلك، من الضروري اليوم أن تستعيد الدول العربية فاعليتها الأمنية وأن تتعاون كمنظومة تكاملية تتجاوز صراعاتها الداخلية والبينية، وتوحد رؤيتها الاستراتيجية للمخاطر التي تهدد جوهر هويتها وكينونتها. فتقف معًا بوجه حركات التكفير والإرهاب والتدخل الخارجي أيًا كان مصدره، ومهما حمل من شعارات جذابة أو كاذبة، وتعيد النظر في هيكلية أنظمتها السياسية القائمة لتعيد البناء على أرضية صلبة من العدالة والمساواة على أساس المواطنة والكفاءة وتكافؤ الفرص السياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى توسيع قاعدة الحرية والحوار الفكري والسياسي والديني. كذلك على العرب أن يعيدوا قراءة تاريخهم بلغة الحاضر، لتشكيل مستقبلهم كما يريدون، لا أن يتركوا التاريخ الماضي يشكّلهم كما يريد.