أحوال الكون

ماذا قبل الإنفجار الـكبـير؟ (BIG BANG)
إعداد: رويدا السمرا

أن نُقاربَ «اللحظة» التي بدأ فيها كل شيء، هذا ما توصّل إليه علماء الفيزياء الفلكية بفضل المراصد الحديثة التي تمكَّن إنسان اليوم بواسطتها، من العودة في الزمن الى الوراء مليارات السنين! وأكثر من ذلك، يستطيع علماء القرن الواحد والعشرين، واستناداً الى معطيات المراصد الفلكية المتطوّرة، أن يضعوا سيناريوهات، تتحدّث عن «المرحلة» ما قبل «الانفجار الكبير» وقد تدعم هذه السيناريوهات في ما بعد، أرصاد فلكية مستقبلية!
يكشف الكون اليوم عن ماضيه، الذي بقي يتكتّم عليه لفترة طويلة من الزمن. فالمعلومات تتوافر الى علماء الفلك، عبر مراصد بالغة التطوّر مثل مرصدي «هابل» و«المرصد الأكبر» (V.L.T very large telescope). ويستطيع علماء الفلك اليوم، العودة في الزمن إثني عشر مليار سنة الى الوراء، ومراقبة المجرّات، وهي تتحوّل من عصرٍ الى عصر، مثلما يراقب علماء الجيولوجيا، المستحاثّات في الطبقات الأرضية. ويملك العلماء منذ العام 2002، وبفضل القمر الاصطناعي (Wmap)، صورةً دقيقة، لأقدم شعاعٍ كونيّ، إنبثق بعد ثلاثمئة وثمانين ألف سنة فقط في لحظة وقوع «الانفجار الكبير»، وهي مدّة لا تُذكر قياساً بعمر الكون! ومن المتوقّع أن يتمكّن علماء الفلك، من الآن وحتى عشر سنوات، من الذهاب إلى أبعد من ذلك، بفضل جيل جديد من المعدّات، القادرة على التقاط «الصدى» الذي أحدثه «الانفجار الكبير».

 

آلة الزمن موجودة بالفعل

من منّا لا يحلم بمعرفة ماذا كان قبل نشأة الكون؟ من منّا لا يرغب بالعودة في الزمن إلى أبعد حدّ ممكن، والإبحار حتى منابع الأكوان؟ إن هذه الأمنيات لم تعد مستحيلة بعد اليوم. ولسنا نتحدّث هنا عن افتراضٍ لإحدى الآلات الخيالية. إذ يكفي ان ننتظر حلول الليل، ونتمدّد في مكان بعيد عن أضواء المدينة، في قرية هادئة أو على رمال الشاطئ. إن المشهد الذي تقدّمه لنا القبّة السماوية ليس مجرّد منظر طبيعي مهيب ورائع. فالواقع أن الكون الذي يحيط بنا، ليس مؤلّفاً فقط من ثلاثة أبعاد (طول - عرض - ارتفاع) مكانيّة أو فضائية، ترتكز عليها رؤيتنا للعالم المحيط، بل هناك أيضاً بُعدٌ رابع، وهو الزمن. والمشهد الذي يبدو لنا في السماء هو فضائي - زماني. وهذا يغيّر كل شيء، إذ يصبح الرصد في الفضاء هو في الوقت عينه، رصدٌ في عمق الزمن: فالضوء ينتقل بسرعة محدَّدة، تُقارب الثلاثمئة ألف كلمتراً في الثانية. وبالتالي، فكلما كانت الكواكب (التي نشاهد ضوءها)، بعيدة عنّا في المكان، كلما أصبح موقعها بالنسبة لنا، بعيداً في الزمان. من هنا النتيجة الحتمية: عندما ننظر الى أي جسم في السماء فنحن لا نراه كما هو، بل دائماً كما كان في وقت سابق.

 

نظرية النسبيّة غيّرت كل شيء

لننظر الى القمر. هو يبعد عن الأرض مسافة ثلاثمئة وثمانين ألف كلمتراً. فضوءه - الذي يسير بسرعة ثلاثمئة ألف كلمتراً في الثانية - يصل الينا إذن في فترة من الزمن تتعدّى الثانية الواحدة بقليل. وبالتالي، فعندما ننظر الى القمر، فهو يبدو لنا دائماً كما كانت حاله قبل ثانيةٍ من الزمن. وهكذا الأمر بالنسبة لكوكب المريخ الذي يلمع عالياً في سماء الصباح طيلة فصل الصيف، فهو يبدو لنا متأخراً ثماني دقائق بالضبط. ويبدأ هنا كل شيء بالتّسارع، من اللحظة التي نغادر فيها نـظامنا الشمسي: فالنجم «فيغا» يبدو لنا كما كان منذ ستة وعشرين عاماً، والنجم المسمّى «نيِّر العقرب» يبدو كما كانت حاله قبل ستمئة عاماً، أما الكوكب «دِنِب» فهو يظهر كما كان قبل ثلاثة آلاف سنة!
ولكن ماذا كان هناك قبل أن يصل الينا نور كل هذه الكواكب والنجوم؟ وبتعبير آخر ماذا يوجد وراء ما يمكن ان نشاهده بالعين المجرّدة؟ لمعرفة ذلك، لا بد من اللجوء الى المرصد او المِرقاب (التلسكوب)، وهو آلة الزمن المذهلة التي تغوص بنا في عمق الماضي السحيق، فتجعلنا نشاهد صوراً دقيقة لعصور كونيّة لم تعد موجودة، ومجرّات إندثرت، وكواكب ونجوم ماتت منذ زمن بعيد! والجدير بالذكر أنه منذ الفترة التي تمكّن فيها الدانمركي أولاوس رومير من قياس سرعة الضوء (300.000 كلم/الثانية)، في العام 1676، في مرصد باريس الفلكي، يستمرّ علماء الفلك، بالغوص في أعماق الزمن اللامتناهي، ومستعينين بمعدّات رصدٍ، تزداد تطوّراً. وهكذا توصّل العلماء اليوم الى التأكّد من عمر الكون الذي وُلد منذ 31.7 مليار سنة، مرتكزين على الأسس التي خلّفتها نظرية «آينشتاين» النسبيّة، ومن بعدها نظرية «الإنفجار الكبير» التي ظهرت في نهاية العشرينات. وقد أصبح بإمكان هؤلاء، أن يشاهدوا مباشرةً، الماضي الأبعد، للكون الذي نعيش فيه، عبر مراصد فلكيّة غاية في الدقّة، وأن يتجاوزوا ألوف السنين التي نراها بالعين المجرّدة، ويعودوا أبعد من ذلك مليارات السنين الى الوراء. وبذلك أصبح بحوزة علماء الفلك اليوم، روزنامة زمنيّة للكون.

 

ثلاثمئة وثمانون ألف سنة بعد «الإنفجار الكبير»

لنتبع الروزنامة الزمنية، ولكن من نهايتها صعوداً الى بدايتها. هناك أوّلاً ما يسمّيه العلماء، «الكون المحلّي»، وهو تعبير يجب فهمه بالمعنى الفضائي - الزماني: لننظر في الزمن إلى الوراء، حوالى الخمسة مليارات سنة - وهذا يعني أننا نقطع في الفضاء أو المكان، مسافة خمسة مليارات سنة ضوئية*. الكون يبدو لنا في ذلك الحين، كما تبدو لنا الآن، السماء المحيطة بنا: مليارات المجرّات التي تتألف، مثلما تتألف مجرّتنا «درب التبّانة»، من نجومٍ وكواكب من مختلف الأعمار. ولكن ماذا قبل ذلك؟
نتابع مشوارنا بحسب الروزنامة الزمنيّة، فنشاهد عبر التلسكوب الفضائي «هابل» وبوضوح مذهل، المجرّات الأكثر بعداً بكثير. فالصور التي التقطها هذا المِرقاب المتطوّر جداً، تُظهِر الفضاء كما كان منذ اكثر من إثني عشر مليار سنة! وهنا يتغيّر المشهد الطبيعي الفضائي - الزماني... فالمجرّات تبدو أصغر حجماً، وأكثر عدداً وأشدّ لمعاناً، كما تبدو غنيّة بالغاز، وتكثر فيها النجوم الجديدة، العملاقة والشديدة اللمعان. ونكون هنا قد دخلنا في عصرٍ ثانٍ، عصر ولادة النجوم والمجرّات، والذي يُطلق عليه العلماء إسم عصر الظلمات»، لأن مراصدهم ليست بالقوة الكافية لتعاينه بشكل واضح ودقيق. والواقع أن العلماء لا يملكون بعد المعدات التي تسمح لهم بالعودة الى الزمن الذي نشأت فيه هذه المجرّات الأولى. ولكن، وفي السنوات القادمة، يُفترض من خليفة المرصد «هابل» والمراصد الفلكية الأخرى الهائلة التي يصار الى إنشائها حالياً، أن تعيد بناء التاريخ الفضائي خلال 5,31 مليار سنة مضت، وبدقّة متناهية.

 

ماذا عن هذا الزمن؟

نتابع مشوارنا ونسأل، ماذا قبل ذلك؟ هل يمكن أن نرى أبعد من هذا في الزمن؟ الجواب هو نعم. والمفارقة هنا أنه من الأسهل رؤية ما الذي حصل، قبل ظهور المجرّات والنجوم الأولى، لأنه وبكل بساطة، كان الفضاء في هذا العصر الثالث أو «عصر الضوء» كما يسمّى، شديد الكثافة، حارقاً ولامعاً. والجدير بالذكر أن هذه الحقبة من الزمن، تميّزت بانبعاث الوميض الهائل المعروف بإسم «الإشعاع الكونيّ المنشأ». ويقول «ألان ريازويللو»، الباحث في معهد الفيزياء الفلكيّة الباريسي، والذي يعمل في مهمّة «بلانك» الأوروبية، التي تبحثُ في نشأة الكون وتركيبته: «إن الإشعاع الكوني هو بالنسبة لنا حالياً، أبعد رسالة وأقدمها يمكن أن يبعث بها الكون الى الأرض. فقد انبثق هذا الإشعاع منذ حوالى 7,31 مليار سنة، أي بعد ثلاثمئة وثمانين ألف سنة فقط من حدوث «الانفجار الكبير». وتبين الأبحاث أنه في تلك الحقبة من الزمن، واستناداً لنـظرية الانفجار الكبير، لم يكن الكون سوى هبولةٍ شديدة اللمعان والكثافة، تحترق بغازَي الهيدروجين والهليوم، كما هي الحال اليوم مع تركيبة النجوم العاديّة. أما انبعاث «الإشعاع الكوني» فهو يعود الى اللحظة التي التقط فيها الهيدروجين والهيليوم، كل الإلكترونات التي كانت تطوف طليقة في هذه الحقبة، ليؤدّي ذلك الى تشكُّل الذرّات الأولى. وقد استتبع ذلك، عملية تحرُّرٍ للضوء، من تفاعلاته المستمرّة مع هذه الإلكترونات، فبدأ ينتشر في فضاءٍ - زمني، يتمدّد بسرعة، فيزداد فراغاً وبرودة. وكان «الإشعاع الضوئي»، الذي يمثّل كما قلنا، آخر أثرٍ لنشأة الكون، يشهد تضاؤل طاقته، مع توسّع الكون وتمدّده المستمر، لدرجة أن حرارة الكون التي بلغت عند انبعاثه، ألفين وسبعمئة درجة مئوية، قد وصلت اليوم الى حدّ أصبح الكون فيه متجمّداً. فالحرارة الكونية لا تتعدّى المئتين والسبعين درجة مئوية... تحت الصفر، كما اختبرتها أقمار «النازا» الإصطناعية!
وهكذا، وبعد نجاح العلماء الفلكيين بالعودة الى الوراء، ثلاثمئة وثمانين ألف سنة فقط بعد حدوث «الإنفجار الكبير»، نكون قد تعرّفنا على 99,99 بالمئة من مجمل تاريخ الكون، وهي نتيجة لا بأس بها على الإطلاق! ولكن يبقى السؤال الأهم: ماذا قبل ذلك؟ ما الذي حدث قبل هذا التاريخ؟ يقول العلماء في سيناريوهات أعدّوها على أساس ما بحوزتهم من معلومات: «في كل لحظة تمرّ، هناك ألوف الجزئيّات الآتية من عمق الزمن، تخترقنا من جهة الى جهة. إنها جزئيّات النوترينون* الكونيّة، التي تقول النظرية أنها انبعثت بعد لحظة من حدوث «الانفجار الكبير»، حينما تمدّدت الهيولة الكونيّة لدرجة تسمح لهذه الجزئيّات بالإفلات!».

 

المجهول الكوني

المشكلة في جزئيّات النوترينون الكونيّة، أنه يصعب الكشف عنها. فهي العامل الخفيّ بالنسبة لعلماء الفلك، والواقع أن هذا النوع من الانبعاث الكوني قد يكون من أصعب الظواهر الفلكية - الفيزيائية التي يمكن مراقبتها. ولا أحد يعلم إن كان سيصبح ذلك ممكناً في المستقبل. ويعود السبب في ذلك الى أن الكون هو شفّاف تماماً بالنسبة لهذه الدقائق النوترينونية، فلا يمكن التقاطها للكشف عنها. فهي مثلاً تخترق أجسادنا ونحن نقرأ هذه السطور، بعدما سافرت لمدة 13.7 مليار سنة، بسرعة الضوء، عبر الفضاء اللامتناهي، وعبَرت المجرّات والنجوم والكواكب من دون أن يعترضها شيء! وهنا تكمن المشكلة. وفي كل الأحوال فإن هذه الجزئيّات تعرّفنا على الكون كما كان بعد أقل من ثانية واحدة على حدوث الانفجار الكبير!
هل نجرؤ بعد على إعادة طرح السؤال على العلماء: ماذا قبل ذلك، والطلب إليهم أن يجعلونا نقترب أكثر فأكثر من «الانفجار الكبير»؟ «ولمَ لا» يقول العالم «ألان ريازويللو» «هناك إشعاع كونيّ أخير، إنبعث قبل الإشعاع الكوني للنترينون. إنه «الإشعاع الجاذبي المنشأ»، الذي انبثق بعد 43-10ثانية من حدوث الانفجار الكبير، وفي نهاية ما يسمّى بـ«عصر بلانك». والجدير بالذكر أن جزئيّات الجاذبية الكونيّة هذه، ليست مستحيلة الكشف كجزئيّات النوترينون، إذ من المحتمل جداً أن يُصار الى التقاطها في يوم من الايام.
وهكذا نكون قد وصلنا في رحلتنا عبر الروزنامة الزمنية، الى أوّل جزء من مليار مليار مليار مليار الثانية من تاريخ الكون، أي عند «الانفجار الكبير» تقريباً. ولكن ماذا قبل ذلك، أيضاً وأيضاً؟ هنا يفضّل العلماء، عدم إعطاء أي رأي بهذا الشأن. إذ أن أي مرقابٍ كاشف، مهما بلغت ضخامته أو دقّته، لن يتمكّن من مراقبة هذا «القبل» مباشرة. إن «عصر بلانك»، حيث تختبئ نشأة الكون، وأيضاً نشأة قوانين الطبيعة كلها، لا يُصدِر أي إشعاع. كما أن الناحية النظرية، لا تسمح حتى بوضع تصوّرٍ لما يمكن أن ينتظرنا «هناك»! إن «حاجز بلانك»، هو الحاجز الذي يحدّ معلوماتنا عن الكون في الوقت الحاضر. وعلى الرغم من شدّة قرب هذا الحاجز من الهدف (43-10ثانية فقط، تفصل «زمن بلانك» عن «الانفجار الكبير»)، فإنه يستحيل علينا أن نتجاوزه! فهل سنبقى نجهل كل شيء عن «اللحظة صفر»، أو عمّا حصل قبل ذلك؟ أم أن المستقبل، الذي نأمله قريباً، سوف يكشف لنا ماذا يوجد في «الجهة المقابلة من الحاجز».


نظرية الإنفجار الكبير لا تقوا شيئاً عن "اللحظة صفر"

بدأ كل شيء مع الخطأ الذي ارتكبه «ألبرت آنشتاين» في العام 1917. فقد تحدث «آنشتاين» عن أول نموذج للكون كما رآه: كونٌ ساكن متوازن، موحَّد الخصائص و... أزلي. «كانت أجمل غلطة في حياتي»، قال «آنشتاين» في ما بعد. ذلك أن نظرية النسبيّة التي توصل إليها لاحقاً، أظهرت أن الكون في تمدّد مستمر. ومن بعده جاء عالم الرياضيات «جورج لوميتر» الذي نشر في العام 1927، أول نموذج حديث للكون، فقد اقترح «لوميتر»، بالاستناد الى معادلات نظرية «انشتاين» النسبية، أن الكون يتمدّد على أثر انفجار كبير، حدث منذ عدّة مليارات السنين. وقد أكّد هذه النظرية، الإكتشاف المدهش، الذي توصّل اليه العالِم الفلكي الأميركي «إدوين هابل» في العام 1929، فهو يقول: «يبدو أن المجرّات كلها تبتعد عن بعضها بسرعة تتزايد كلما تباعدت المسافة بينها». ثم جاء تحليل المادّة التي تتكوّن منها الكواكب والنجوم، ليؤكّد أن هذه الأخيرة لم تكن موجودة منذ الأزل، بل إنها ولِدت من غازٍ مكثّف وحارّ، قد يكون من بقايا «الانفجار الكبير». وتبيَّن كذلك أن كميّة الهيدروجين والهيليوم الموجودة في الكون، تتطابق تماماً مع ما يقدّره سيناريو «التركيبة النوويّة الأولّية»، الذي وضعه في العام 1948، الأميركي «جورج غاماو». ويقول السيناريو، أن هذه الجزئيّات النوويّة الأوّليّة، قد شكّلت في الدقائق القليلة الأولى التي تبعت «الانفجار الكبير». أما بالنسبة للعناصر الثقيلة (مثل الكاربون، الآزوت، الأوكسجين، الحديد وغيرها...)، فقد شكّلتها النجوم ذاتها في ما بعد.
وفي العام 1950، لم تكن نظرية «الانفجار الكبير»، قد حَظيتْ بعد بموافقة العلماء بالإجماع. حتى أن عالم الفلك البريطاني «فريد هويل»، إستعمل تعبير «الانفجار الكبير» )يه قفَه(، وهو تعبير طفولي في اللّغة الانكليزية، لكي يهزأ من السيناريو الموضوع. ولم يخطر في بال «هويل» ولو للحظة واحدة، أن تعبيره سوف يُعتمد علميّاً في وقت لاحق، وبشكل جدّي هذه المرّة! وفي العام 1965، جاء التأكيد الصارخ على نظرية «الانفجار الكبير» بفضل العالِمَين «آرنو بنزيّاس» و«روبرت ويلسن»، اللذين اكتشفا بالصدفة «الإشعاع الكوني المنشأ»، وهو اكتشاف استحقّا عليه جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1978. ويعني هذا الاكتشاف أن الكون غارق في بحر حقيقي من الضوئيات (جزيئات من الطاقة الضوئية)، وهي بقايا من ماضٍ أكثر سخونة وكثافة. وهذا البحر الحراري، هو في الواقع إشعاعٌ من هذه الضوئيّات (لا يتعدّى طول موجة هذه الضوئيات، بعض الملّمترات)، وهو يُبقي الكون بدرجة حرارة لا تتجاوز 270.45 درجة مئوية تحت الصفر! هذا، وقد نجح قمران اصطناعيان، في العامين 1994 و2002، في قياس مواصفات هذا الإشعاع الضوئي وتبيّن انها مطابقة تماماً للمواصفات التي تتحدّث عنها نظرية «الانفجار الكبير».
وانطلاقاً بالتحديد من هذه الركائز الثلاث - سرعة إنحسار المجرّات (أو تمدّد الكون)، التركيبة النووية الأوّلية، والإشعاع الكوني المنشأ - تمكّن العلماء من تقدير عمر الكون في العام 2002، بنحو 13.7 مليار سنة.
وتبقى هناك مشكلة عالقة، وهي أن نظرية الانفجار الكبير لا يمكنها إعطاء اي معلومة عن «اللحظة صفر»، التي تُظهر الحسابات ذاتها بأن هذه اللحظة هي من الناحية الفيزيائية مجرّدة من اي معنى: فالمعادلات الحسابية تبيّن أنه، عندما نعيد عامل الزمن الى الصفر، فإن المواصفات الفيزيائية للكون (الكثافة، الحرارة، المنحنى)، تتباعد كلها الى ما لانهاية. وهنا تكمن المفارقة في نظرية الانفجار الكبير. فهي من جهة تروي تاريخ الزمن بالتفصيل، وتدعمه ببراهين وثوابت قويّة، لكنها من جهة ثانية لا توفّر أي معلومات عن بداية هذا التاريخ. ولكن ماذا لو لم يكن هناك من «بداية» في الأصل؟


* السنة الضوئية هي مقياسٌ للمسافة، وليس للزمن كما يمكن أن يوحي إسمها. وهي المسافة التي يقطعها الضوء وسرعته 300.000 كلم/الثانية، خلال سنة واحدة. فالنجم الذي يبعد عن الأرض مسافة ثلاثين سنة ضوئية مثلاً، يصلنا ضوءه الذي ينطلق منه بسرعة 300.000 كلم/ثانية بعد ثلاثين عاماً.
* النوترينون: دقيقة أوليّة متعادلة، كتلتها أصغر من كتلة الإلكترون.