ثقافة بلادي

مارون عبود
إعداد: وفيق غريزي

الأديب والناقد الساخر

ما يريده لا يفعله، والشيء الذي لا يريده, إياه يصنع. يحسب نفسه كرة في يد لاعب جبّار يقذفها في الفضاء، فلا هو ولا هي تدري أنّى تتوجّّه، وأين يكون مستقرها. الحياة في نظره لعبة تتلهى بها قوة سرمدية، تخرج منها أنماط لا تدرك، ولا يزال في قراراتها غرائب وعجائب لا نهاية لها، كلما تزاوجت إنسلّت أقزاماً وعمالقة، وكلما انفعل الكائن الأزلي تفجّرت قواه اللامتناهية وانبثق الى الوجود ما يحيّر كل موجود. في مذهبه الدماغ البشري هو المستودع، النائمة فيه، الى حين، أسرار الطبيعة، وقد راح، يبرزها الى الوجود، واحداً واحداً في سبعين عاماً فما كان مستحيلاً أمسى ممكناً. يؤمن بالانسان إبن الحياة الوحيد، المنبثق من الأرض والسماء، فهو جرم أرضي وسماوي. في الوقت نفسه، إنه يرى الأرض مصدر كل خير وبركة، ومع ذلك يكفر بها الناس، وينكرون فضلها عليهم، ويفتشون عن سعادتهم في غيرها. هذا المبدع هو مارون عبود.

 

من المهد الى اللحد
وُلد مارون عبود في قرية عين كفاع - قضاء جبيل، في 9 شباط 1886، يوم عيد مار مارون،  فأطلق أبواه عليه إسم هذا القديس، أبي الطائفة المارونية التي ينتسب اليها، تيمناً. نشأ في أسرة متوسطة الحال، محافظة. متمسكة بوصايا الله راضية بخبزها كفاف يومها تكسبه بكرامة من عرق الجبين بزراعة الأرض في بيئة عابقة ببخور القداسة. والده حنا عبد الأحد عبود، وأمه كاترينا إبنة الخوري موسى عبود.
كان مارون عبود في طفولته ضعيف البنية ميالاً الى اللهو لا يُعير الدرس في «مدرسة تحت السنديانة» اهتماماً، فما كان من جده، خوري الضيعة، إلا أن تولّى تعليمه مبادئ القراءة والكتابة والحساب بنفسه. كما علّمه السريانية مع العربية وتعاليم المسيح ومزامير داوود. «كثيراً ما تألم من قساوة أبيه لأنه أراده علاّمة يتفوق على جدّه، وشديد التمسك بالشعائر الدينية صلاة وصوماً وممارسة حياتية». في مدرسة القرية كانت بداية تعليمه. دخلها وهو في الخامسة من عمره. ولكن هذه المدرسة تركت في نفسه أسوأ إنطباع. ومنها انتقل مارون الى مدرسة مار يوسف بجّه ولكنه لم يبق فيها إلا سنة واحدة. نُقل بعدها الى مدرسة مار ساسين الداخلية في مزرعة تابعة لمزرعة فغال، حيث قضى أيضاً سنة كاملة. وفي سنة 1899 دخل مدرسة النصر الداخلية في قرية كفيفان، بعدها انتقل الى مدرسة مار يوحنا كفرحي وبقي فيها من 1901 الى 1904. وفي هذه المدرسة تفتّقت موهبة مارون عبود، فبدأ ينظم الشعر بالعربية والسريانية ويتزعّم حركة الطلاب في التمرد على القوانين الصارمة، وبرزت النزعة التهكمية المرحة أو اللاذعة في كتابته الشعرية والنثرية.
في بداية العام الدراسي 1904 دخل مارون عبود مدرسة الحكمة. ترك المدرسة قبل أن يكمل دراسته الثانوية، شقّ عليه، وقد بلغ عامه العشرين، أن يستمر عالة على أهله. وما أن عُرض عليه أن يتولى تحرير جريدة «الروضة» حتى قَبِل من دون تردد.

 

في ميدان العمل
مع الصحافة مارس مارون تعليم اللغة العربية في معهد الفرير أولاً، ثم في مدرسة اليسوعيين في بيروت، وحرّر في جريدة «النصير»، وعرّب عن الفرنسية روايتي شاتوبريان «رينه» و«أتالا». ما كان العمل في الصحافة والتدريس والدرس ليصرف مارون عبود في بيروت عن التنعّم بأطايب الحياة. ولقد نظم من وحي حواء شعراً غزلياً لم ينشره، وفي جبيل تولى تحرير جريدة «الحكمة» وعلّم البيان واللغة العربية في مدرسة الفرير منذ 1909 حتى بداية الحرب العالمية الأولى.
بعد زواجه من نسيبته نظيرة فارس عبود العام 1921، إنصرف انصرافاً كلياً الى القلم والكتابة تأليفاً وتدريساً. يقضي حياته في «الجامعة الوطنية (عاليه) خريفاً وشتاءً وربيعاً، وفي عين كفاع صيفاً، وقلّما أعار الحياة الاجتماعية اهتماماً. وفي هذه المرحلة التي دامت أربعين سنة ألّف مارون عبود مسرحيات مدرسية، وعرّب بعض الكتب، وكتب في النقد الأدبي والاجتماعي. وما تطرق الى النقد السياسي إلا عَرَضاً. إنقطع عن التدريس في الرابعة والسبعين من عمره بعد أن أجهده التعب ولزم منزله يستقبل بعض أصدقائه الأدباء وخلانه. وفي الثالث من حزيران سنة 1962 قضى مارون عبود نحبه والابتسامة على شفتيه.

 

مؤلفاته
وضع مارون عبود مجموعة كبيرة من المؤلفات في ميادين الأدب والقصة والنقد وسواها. فمن أعماله: أدب العرب، الرؤوس، رواد النهضة الحديثة، الشعر العامي، جدد وقدماء.
وفي النقد الاجتماعي له: سبل ومناهج، حبر على ورق، آخر حجر، من الجراب، قبل انفجار البركان، أشباح ورموز ومناوشات.
وفي النقد الأدبي: على المحك، مجددون، في المختبر، دمقس وأرجوان، نقدات عابر وعلى الطائر.
وفي الأقصوصة كتب: أحاديث القرية، وجوه وحكايات وأقزام وجبابرة. وله في القصة الأمير الأحمر وفارس آغا. وفي السيرة صقر لبنان (أحمد فارس الشدياق)، زوبعة الدهور، بديع الزمان الهمذاني وأمين الريحاني. أمّا في الشعر فله زوابع. يضاف الى ذلك مجموعة رسائل وخواطر وأحاديث صحافية.

 

كاتب بمقاييس خاصة به
تناول مارون عبود في كتاباته، مختلف الفنون الأدبية، وفي إنتاجه مرحلتان مختلفتان: الأولى سار خلالها على خطى أسلافه من روّاد النهضة لكنه أدرك بعد حين أنه كان مقلداً، فلم يرضَ عما كتبه. ولقد تأثر عبود بالجاحظ، وأحمد فارس الشدياق، وألفونس دوديه، وسرفانتس، وغوغول، وتورجنيف، وأناتول فرانس، وسانت بوف وبرونيتر.
في أسلوبه خالف المقاييس الاصطلاحية الأصولية في نقده وفي قصصه وفي كتابة السيرة، ووضع لنفسه مقاييس خاصة فكانت له لغته وقد جمع فيها بعض الفصحى التي تحتاج الى قاموس كبير والفصحى السهلة الممتنعة والعامية التي لها جذورها في الفصيح. وولّد واشتق عدداً من المفردات. وكانت له طريقته في وضع السيرة جامعاً فيها بين التاريخ والنقد. وفي القصة وهي عنده مزيج من الحكاية والأسطورة والسرد. بيد أن أسلوبه تميز بالفكاهة والدعابة والسخرية وبراعة التشبيه ودقة الوصف، وكثرة الإستشهاد بالأمثال الشعبية والتراث الفكري والتاريخي العربي والعالمي فضلاً عن المحلي.

 

ذكريات مع معاصريه
كان لمارون عبود معرفة حميمة ببعض القادة الروحيين منهم المثلثا الرحمات البطريركان الياس الحويك وانطون عريضة. كما تعرّف في القدس على الشيخ أمين الحسيني.
ربطـت أسباب الحيـاة صلات المعـرفة بيـن مـارون ورجالات عصـره فقد تعرّف الى رجال السياسة منذ عهد المتصرفية حتى عهـد الاستقلال، ومنهم الرئيس إميل إده والشيخ فؤاد حبيش والرئيس بشارة الخوري. وفي مدرسة الحكمة تعرّف الى الأب لويس شيخو، وفي جريـدة «النصيـر» تعـرّف الى أمين الريحـاني وكان مـارون عبود صديقاً لعمر فاخوري.
ونستشف من ذكرياته مع عمر تلك الروح الساخرة التي تملأ أدب مـارون عبود، وهذه النزعة النفسية عنـده والتي تدفعه للسخرية قد تكون نابعة من مفهومه للحياة حيث يقول:
«ما وجدت ترياقاً لسم الحياة أشقى من الهزء بها وبناسها». وإذا كان مارون يهزأ من الحياة وناسها فإنه احياناً كان يتندر على نفسه إذا لم يجد من يتندر عنه كما يقول له عمر.
وفي بلدة الفريكة، تعرّف مارون على ريحانة الشرق مي زيادة في منزل أمين الريحاني، وعرف مارون عبود ايضاً الشاعر الياس أبو شبكة فصادقه وترك في ذكرياته وصفاً رائعاً له، نقرأه فنخال الياس يسير أمامنا، كان أول لقاء لهما في جريدة المكشوف، ولما مرض الياس أبو شبكة وأقعده المـرض زاره مارون مرتين، وكتب عن ذلك يقول:
«مرض الصديق العزيز فعُدته مرتين، وقد علقت بذهني صورة الكاهن الذي دخل ليصلي له، وأنا عنده، فإذا بشاعرنا ينسى أنه مريض فيقعد في فراشه بخفة عجيبة، ويصلّب برشاقة كأنها لمع اليدين الذي تراءى لامرئ القيس، فخلت أنني أزور الشاعر الفرنسي ڤرلين قبل الاحتضار».
كان مارون عبود ممن حملوا راية الاصلاح، فهو حاول إصلاح الناس، ودعا الى التحرر، والى مواكبة الحضارة والتقدم. حثّ اللبنانيين على العمل لما فيه صلاحهم، كان صوته عالياً، وكان من وراء الدعاء للسلطان يمرّر كلمته على الرقابة، ولكن كتاباته لم ترق لبعضهم، فتعرض لكثير من التهديدات، ذلك أن من لم يرقهم ما كتبه كانوا يردّون عليه بدبابيس أزلامهم... كم نحن أحوج اليوم الى مارون عبود وأمثاله.

 

طفولته: ضعيف البنية ميّالاً الى اللهو

كان مارون عبود في طفولته ضعيف البنية ميّالاً الى اللهو لا يُعير الدرس في «مدرسة تحت السنديانة» إهتماماً فما كان من جده خوري الضيعة، إلا أن تولّى تعليمه مبادئ القراءة والكتابة والحساب بنفسه. كما علّمه السريانية مع العربية وتعاليم المسيح ومزامير داوود.
كثيراً ما تألم من قساوة أبيه لأنه أراده علاّمة يتفوق على جدّه، وشديد التمسك بالشعائر الدينية صلاة وصوماً وممارسة حياتية. فوجد مارون في حنان أمه تعويضاً. كان للوالد أداتان يسبكه بهما: قضيب ولسان أمرّ من القضيب.

 

مذهبه في الحياة

حدّد مارون عبود مذهبه في الحياة بأن لا مذهب له فيها. ما يريده لا يفعله بل يفعل ما لا يريده. «أحسبني كرة في يد لاعب جبّار يقذفها في الفضاء، فلا هو ولا هي تدري أنّى تتوجّّه، وأين يكون مستقرها». الحياة في نظره لعبة تتلهى بها قوة سرمدية، ومدرسة لا نهاية لدروسها. آمن بها وأحبها ولكن بدون رجاء.
والدماغ البشري مستودع تنام فيه الى حين أسرار الطبيعة.
آمن بالإنسان كجرم أرضي سماوي في آن معاً، وبالأرض كمصدر كل خير وبركة.
كانت أمنيته أن لا يُذيب شخصيته في مستنقعات الآخرين وأن يظل منسجماً مع ذاته ويبقى ساذجاً لا تكلف ولا تعقيد في حياته وأن يعمل بدون انقطاع لأن العمل ينسيه شجونه.

 

الشاعر

ما عُرف مارون عبود كشاعر كما عُرف كقاص وناقد. قصائده جاءت من وحي مناسبات عابرة ومعظمها من نتاج مرحلتي المراهقة والصبا، وقد جمع ما رضي عنها في ديوانه «زوابع».
أسلوبه كلاسيكي، سلس التعبير، ناصع الديباجة، اعتمد فيه أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي والقافية الواحدة في بناء متكامل.