مبدعون من بلادي

وجيه نحلة
إعداد: تريز منصور

وُلدَ وفي يده فرشاة ألوان نوراني وجودي حالم يحاكي عالم الماورائيات

نوراني، وجودي، صاحب ريشة حالمة في الأفق البعيد، تحاكي عالم الفضاء والماورائيات. يستشف من طاقته الإبداعية الدفينة ومخزونه الثقافي والفكري والروحي، ويصوغها أحاسيس، بحركة ولون على اللوحة البيضاء، تثير المشاعر وتدهش العيون، فتغدو لوحة يتباهى بها في معارض العالم.إنه الفنان وجيه نحلة المرتقي بروحه الإبداعية وشخصيته المتكاملة وذكائه الحاضر وشبابه الدائم... يقول: "لا أزال طفلاً يحبو على شاطئ أوتيانيوس، لم أستطع الغوص في أعماقه، والبحث في شعابه عن الإبداع والخلق، لأن الخالق هو الله".

 

ولادة فنان

وُلد وفي يده فرشاة، او هذا ما يقوله على الأقل الفنان وجيه نحلة. أبصر النور في العام 1932 في بيروت، والده محمود نحلة ضابط في فوج الإطفاء الذي أسس في عهد الجنرال ديغول.تزوج الفنان وجيه نحلة من السيدة منيرة شهاب، فأثمر هذا الزواج خمسة فنانين منتشرين في أصقاع العالم، ينشرون الإبداع اللبناني: جينا، متزوجة تعيش في المانيا وتمارس فن التزيين ­ وحيد، متزوج من أميركية وهو فنان تشكيلي محترف يمارس الفن في ولاية فينيكس  في أريزونا ­ لينا، فنانة في التصوير الفوتوغرافي واللوحات بالابيض والأسود، متزوجة من ألماني وتعيش بين المانيا وباريس ­ جمانة، فنانة تشكيلية متخصصة في فن الجداريات (هارموني مونتال) متزوجة من فرنسي وتعيش في باريس ­ مروان، فنان تشكيلي وموسيقار، يعزف على آلة الغيتار الإلكتروني، وهو صاحب شهرة كبيرة في أميركا.
ظهرت موهبة الرسم عند إبن الأربع سنوات، الذي لم يتوان عن إصلاح بعض الخطوط والألوان في لوحات والده، الذي كان يهوى الفن الى حد بعيد ويمارسه في أوقات فراغه.
ورث وجيه نحلة الموهبة، ولكنه عرف كيف يوظّفها بذكاء وحرفية لامتناهية. فهو لم يتوقف عند حدود اكتساب القواعد الأولى لهذا الفن، بل ظلّ يصقل الموهبة بالكثير من الثقافة الفنية والاطلاع والاقتداء بنصائح الفنانين اصحاب الاختصاص، حتى بات الفن معه يشكل جوهراً فنياً متكاملاً لا ينقصه من الإبداع والشفافية شيء. وجيه نحلة لا يزال يؤمن اليوم، وعلى الرغم من خبرته الطويلة (والتي ناهزت الخمسين عاماً من العطاء الفني)، إن الفن نهر دفّاق لا يمكن للفنان الا ان يظل يغرف فنه فلا يرتوي أبداً، ولا يقف عند حدود. كما ان الفن، عالم لا ينتهي بل يستمر حتى بعد وفاة الفنان، فيظل حياً الى الأبد، لأنه روحاني لا مادي.

 

رحلة الألوان

بالعودة الى أيام الطفولة، ونبوغ بذور الموهبة لدى وجيه نحلة الطفل، نجد أن هذا الفنان لا يكفّ عن ترداد عبارته الشهيرة: "ولدت وفي يدي فرشاة".
بدأت موهبته تظهر في عامه الرابع تقريباً، وراحت تتبلور شيئاً فشيئاً حتى سن الثامنة، حينما اشترك في أحد المعسكرات الكشفية، حيث أقيمت مباراة فنية كبيرة على مستوى الكشافة في العالم، وكان موضوعها التعبير من خلال الرسم عن المراحل الكشفية، فجاءت النتيجة مبهرة بالنسبة للجنة التي اطّلعت على ثلاث لوحات قدّمها نحلة في المسابقة، فأعجبت بالخيال الفني الضخم لهذا الطفل الصغير الذي تفاجأ بدوره بعد ثلاثة أشهر بخبر فوزه يملأ الصحف تحت عنوان: "الكشاف الصغير وجيه نحلة يفوز بالجائزة الأولى عالمياً".
لا شك أن هذا الفوز شكل دفعاً كبيراً بالنسبة الى نحلة الطفل الذي راح، خلال سنوات عمره الأولى يتردد الى محترف جاره الفنان مصطفى فرّوخ الذي شكل أحد أعمدة الفن في لبنان خلال أربعينيات القرن الماضي، الى جانب جمع من الفنانين اللبنانيين أمثال قيصر الجميّل، عمر الأنسي، رشيد وهبه وصليبا الدويهي وغيرهم. أما وجيه نحلة فيعتبر نفسه اليوم ينتمي الى الجيل اللاحق لجيل هؤلاء العمالقة.
وكان ابن الثماني سنوات يراقب مصطفى فروخ ولفترة طويلة من شباك محترفه، الى أن لاحظ فروخ شغف الولد بالرسم واكتشف موهبته الإبداعية من خلال رسوماته البسيطة.وهكذا، تتلمذ نحلة على يده وأخذ عنه الثقافة الفنية والمهارة والحرفية، حتى بات ملماً بفنّ الرسم إلماماً تاماً، لأنه يعتبر ان الموهبة ناقصة من دون إقرانها بالمعرفة والإطلاع. الرسام الكبير مصطفى فروخ كان شديد الإعجاب بتفوّق تلميذه الذي ظل يتردد الى مرسمه، وينهل منه فترة زمنية طويلة امتدت من العام 1948 الى العام 1953. وكان يقول لوالد وجيه:"لقد انعم الله عليك بولد عبقري سوف يكون من أشهر الرسامين العرب"... وأصبح للطفل الصغير اسمه الضخم الذي تخطى حدود المدينة الى عواصم العالم أجمع من اميركا الى فرنسا فايطاليا والسعودية والصين وبريطانيا، وغيرها من الدول.

 

من لبنان الى العالم

التحق وجيه نحلة بمدرسة حوض الولاية الرسمية في بيروت، وبعد إنتهاء المرحلة الثانوية التحق بمعهد الكسي بطرس للفنون والهندسة، فدرس الهندسة لمدة سنتين ونصف، وبعدها تغلّب شعور الفن والموهبة، فدرس الفن التشكيلي.
عمل في بداية حياته العملية في العام 1954 في وزارة الموارد المائية والكهربائية، وفي وزارة الاشغال ­ التنظيم المدني في مطار بيروت. ولكن سرعان ما تخلى عن هذه الوظيفة ليفعّل أدواته في مجال الإبداع الفني الذي لم يقتصر معه على الرسم التشكيلي وانما تعداه الى تصميم الجداريات والمجسّمات الفنية وغيرها من المبتكرات الفنية.
أراد وجيه نحلة الرسام الشاب أن يجعل من الفن حياته وملاذه الوحيد، كما أراده منفتحاً على العالم أجمع خارجاً عن المألوف بعيداً عن الإنتماء لهوية واحدة. ولقد جال العالم من أقصاه الى أقصاه وحقق نجاحات باهرة في معارضه وأعماله...
ولقد استطاع بفضل ذكائه التوفيق ما بين التعبير عن ذاته وفي الوقت نفسه الخروج من عبء المادة وثقل الهموم المعيشية الضاغطة، فراح يقوم بتصميم بعض المجوهرات، كما عمل على تجسيد لوحاته على السجاد...


مرحلة الحروفية والجداريات

من أهم مراحل حياته الفنية التي يتوقف عندها وجيه نحلة، هي المرحلة التي استطاع فيها الوصول الى الابداعية من خلال الحروف، ويقول: "يتميّز الحرف العربي بخصوصية سموّه الروحي؛ انه حرف روحاني للتشكيل وإعادة الصياغة".
ويعتبر وجيه نحلة أن كل فنان في بداياته، لا بد له أن يتأثر بتيار فني معين، ولكنه في مراحل لاحقة، يؤسس لنفسه مدرسته الخاصة التي تحمل بصماته الفريدة، والتي تميزه عن غيره من الفنانين. لذلك يعتبر نفسه مؤسس المدرسة الحروفية الى جانب الرسم التشكيلي:"أنا أول فنان عربي بدأ بهذه المدرسة والتي تختصر بفلسفة الحرف النوراني، كما واخوض في فن الزخرفة العربية مجال الخط العربي بأسلوبي الخاص، فأجعله يخرج عن قواعده ويتحرك".
من أبرز الأعمال الفنية التي نفذها الفنان وجيه نحلة في العالم العربي مطلع السبعينيات، الى جانب الرسم، كانت الجداريات في مطاري جده والرياض في المملكة العربية السعودية، والمجسّمات الجمالية على كورنيش جدة وغيرها الكثير، بعد ان اتسعت دائرة معارفه بواسطة فنه الذي عرّف الجمهور في العالم على شخصيته الفنية الفريدة. وكذلك الأمر بالنسبة الى الدول الأوروبية، فكانت له مجسّمات وجداريات في مطارات وقصور عالمية عدة أبرزها في مدينة نيويورك وفي قصر المعارض في باريس.
الى جانب مدرسة الحروفية الخاصة به، هناك مدرسة "الحركة واللون" اذ لا ينقطع خلال حديثه عن ذكر الحركية المتجسدة في لوحاته التي، ان خلت اللوحة منها، تحوّلت الى صورة لأن ما يجعل منها عملاً ابداعياً، بعيداً عن فن التصوير الفوتوغرافي هو الحركية: "أردت الوصول الى مستوى رفيع من التقنية التشكيلية والى حالة من الصوفية النورانية وشفافية اللون غير المسبوقة".
وعلى ذكر اللون، يؤكد نحلة أنه لا يزال في حالة بحث عن لون لا اسم له، على الرغم من هيمنة اللون الأزرق على العديد من أعماله.وهو يرى أن هناك علاقة وطيدة بين الألوان والنفس البشرية: كلما ازداد احساس الفنان باللون كلما أصبحت لوحاته تحمل لمسات صافية ونورانية، لأنه اولاً وأخيراً يعبّر عما بداخله من تآلف وصراع في المشاعر والأحاسيس.

 

معارض وجوائز

أقام الفنان وجيه نحلة عدداً لا يحصى من المعارض محلياً ودولياً، ونال على أساسها، شهرة تخطّت الحدود الجغرافية وعوائق اللغة والهوية، كما استطاع خرق جدار المألوف فنياً، وخوض التحدي الذي أثبت من خلاله أن الإبداع الفني لا هوية محددة له.
شملت معارض نحلة العالم أجمع، فكانت الإنطلاقة الأولى من بيروت الى متحف الفن الحديث في بغداد، الى المتحف الوطني في الكويت، وصولاً الى معظم الدول الأوروبية مثل ايطاليا وباريس وسويسرا والمانيا، وانتهاء بالولايات المتحدة الأميركية التي خصّها بنصيب وافر من أعماله الإبداعية.
أما الجوائز التي حصدها عالمياً، فهي كثيرة جداً، ولكن أكثرها وقعاً في نفسه كان وسام الاستحقاق الذي منحه إياه رئيس الجمهورية العماد اميل لحود، كذلك جائزة الميدالية الذهبية في متحف اللوفر في باريس لهذا العام، وايضاً الجائزة الكبرى للفنون من معرض اريزونا في الولايات المتحدة الاميركية، والجائزة التي نالها من حاكم مدينة مونتريال في كندا.
وليس بالأمر المستغرب أن يحصل فنان مثل وجيه نحلة على جوائز عالمية، وهو الذي لا يهدأ، بل يتنقل من دولة الى اخرى، ومن معرض او احتفال الى آخر.
ولكنه مع ذلك تراه لدى عودته الى بيروت، ينصرف كلياً الى العمل الدؤوب في محترفه، فيمضي اكثر من عشرين ساعة يومياً، مختبئاً بألوانه ولوحاته فلا يغادرها حتى الليل.
يبحث وجيه نحلة عن الكمال، والكمال لله. ويقول: "قد يأتي يوم يقال فيه ان هذا الرجل وصل بانتاجه الإبداعي (نحو 8 آلاف لوحة) الى التقرب من الله، بايمانه وعطائه، الذي بذل حياته لأجله".
لديه ايمان وشعور، بأن تركيزه في العمل وفي الترفع عن الحالة المادية الى حالة روحية، تسموان به الى حالة من الصفاء والانعتاق.
علاقة وجيه نحلة مع اللوحة زهاء 50 عاماً، هي علاقة روح مع روح، يعطيها من دفئه وعاطفته، ولذلك عندما يرسم لوحته، يستشف من طاقاته الدفينة، وينثر كل الخبرات والتقنيات والأحاسيس التي يكتنزها في داخله، على اللوحة البيضاء، ويشعر انه في حالات السفر اللاواعي، وان هناك من يساعده على وضع إشارات تنفذها يداه بتلقائية مطلقة ممزوجة بدفء وأحاسيس وعاطفة...

 

بصمة عسكرية

لوجيه نحلة بصماته في المؤسسة العسكرية. فهو من وضع تصاميم ألوان البذة العسكرية في عهد الجنرال فؤاد شهاب.
كما انه وضع التصميم الخاص بالسجل الذهبي للمدرسة الحربية بين العام 1945-1962.

تصوير:المجند حميّد شحاد