قصة قصيرة

وردة
إعداد: العميد الركن المتقاعد إميل منذر

هذا هو اسمُها.
وإذا كان الناسُ في أحيانٍ كثيرةٍ لا يستحقّون أسماءهم الحسَنَةَ، فإنّ بنتَ ضيعتِنا استحقّتِ اسمَها؛ فالوردةُ لم تُعِرْ لونَها الزهريَّ خدّيها، وبسمتَها شفتيها فحَسْبُ، لكنْ تركت أيضًا عطرَها في روحِها النقية. وكما تذبلُ الوردةُ من غيرِ أن يفنى عطرُها، فإنّ هذه المرأةَ قد ذبلتْ وبقيتْ روحُها بلونِ الورد.
مذْ وعيتُ الحياةَ وأصبحتُ أنظرُ إلى شكلِ الخصرِ وتسريحةِ الشعرِ، عرفتُها امرأةً في أواخرِ العَقدِ الثالثِ منَ العمرِ، متزوّجةً ولها ولدان يافعان. كانت معتدلةَ القامةِ، ممتلئةَ الجسمِ، قويةَ البنيةِ، حنطيّةَ البشرة. وجهُها المستديرُ ناعمُ القَسَمات. وفوقَ تفّاحتي خدّيها نُثارةٌ منَ النمشِ الجميل. أما العينان فخضراوان نجلاوان. وأما الشعرُ فأملسُ يتدلّى حتى أسفلِ ظهرِها. وكانت تغطّيه غالبًا بمنديلٍ ملوّنٍ مطرّزِ الأطرافِ بصفّين منَ الخَرَزِ الدقيقِ، حتى لَيَخالُها الرائي فتاةً من فتياتِ الغَجَرِ الذين كانوا يضربون خِيَمَهم كلَّ صيفٍ في فُسحةِ الأرضِ المستويةِ قربَ بيتِنا، بعدَ فصلِ الحَصاد.
قبلَ أن تتزوّجَ كانت تغدو، أيّامَ تشرينَ، معَ أبيها وأمِّها وأخويها إلى كرْمِ الزيتونِ خلفَ مجرى نهرِ الباروكِ في الوادي لجمعِ المواسم. ولخفّةِ يديها ورشاقةِ حركتِها، كانت تملأُ سلَّها قبلَ أن يملأَ أيٌّ منهم نصفَ سلِّه؛ فتفرغُه وهي تنظرُ إليهم ضاحكة: «يا لكم من بطيئين كسالى!». وكم مرّةٍ صادفتْ عندَ الضفّةِ اليسرى للنهرِ فتياتٍ من ضيعتِنا أو الجوارِ، وقد تجمّعْن متهيّباتٍ العبورَ إلى الضفّةِ اليمنى؛ فتحملُهن وردةُ، الواحدةَ بعدَ الأخرى، وتنقلُهن فوقَ الجسرِ الحديديِّ الضيّق. حتى اللواتي يكبرنْها سنًّا ويفُقْنَها وزنًا، كانت تحملُهنّ على كَتِفِها. وكلّما وصلتْ بإحداهن إلى منتصفِ الجسرِ، تظاهرتْ بأنها تترنّحُ، فتأخذُ المسكينةُ بالصراخِ متشبّثةً بوردةَ بيديها ورجليها. أما وردةُ فكان ضَحِكُها يملأُ الوادي مختلطًا بهديرِ النهر.
وكما في الوادي، كذلك في الحقلِ عندَ تخومِ القرية. فهناك أيضًا كانت وردةُ تسبقُ الجميعَ في حَصادِ الحنطةِ وتكويمِ الأغمار. وكأنّ تلك الحقولَ المباركةَ أحبّتْ وردةَ؛ فمنحتْها صلابةَ صخورِها، وصبغتْ شعرَها بلونِ سنابلِها.
عندما بلغتِ السابعةَ عشْرةَ من عمرِها، كَثُرَ خاطبو ودِّها وطالبو يدِها. وحامَ شبّانُ القريةِ وجوارِها حولَها كما يحومُ النحلُ حولَ قرصِ العسل. لكنَّ عسلَ وردةَ كان دونَه الإبَر. قلبُها لم يمِلْ إلى أيٍّ منهم، ولم يستهوِها أحدٌ من بينهم. مَن أرادَ الفوزَ بها، عليه أن يدخلَ قلبَها من بابِ عقلِها. وهذا البابُ ما كان أضيقَه!
سليمٌ جارُها كان أكثرَ مَن ألحَّ في الدخول. كان يقولُ إنّ له حقَّ «الشفعةِ» بحُكمِ الجيرة. لكنّ وردةَ لم تكنْ لتعترفَ بهذا القانون. حدّثَها تكرارًا؛ فلم يُجْدِه الحديثُ نفْعًا. قالَ لها إنْ قبلتْ به، فسينثرُ أوراقَ الورودِ تحتَ قدميها والذهبَ في يديها. قالت إنها تحبُّه كأخويها، وإنها لا تصلحُ له، ولا هو يصلحُ لها. لكنه لم يُلقِ سلاحَه. أخذَ يجيءُ إلى بيتِ أبيها، ويُطيلُ السهرَ عندَها لعلَّها تَلِيْنُ له. أخبرَها بحكاياتِه و«بطولاتِه» وهو لا يعلمُ أنها لا تصدّقُه. إلى أن كانتْ ليلةٌ من ليالي الشتاءِ الباردةِ، جاءَ فيها كعادتِه، وتربّعَ على جلدِ الخروفِ قُبالةَ المَوْقِدِ، وراحَ يقصُّ على أفرادِ عائلةِ وردةَ حكايةً من نَسْجِ خيالِه. قال: ليلةَ البارحةِ، أدركتْني الظُلْمةُ في طريقي منَ الوادي إلى البيتِ تتقدّمُني الفرسُ بحِملِها. وإذا بالفرسِ تجمدُ فجأةً في مكانِها. نهرتُها فحَرنَتْ. لَكَزْتُها، حَمْحَمَتْ. يا أللهُ ما بها! تقدّمتُها وأخذتُ رسنَها؛ فما تقولون إني رأيت؟
- ما رأيت؟ سألت وردة.
- عينين تضيئان كسراجين. قلتُ هما عينا وحش. في الحقيقةِ خفتُ قليلًا، وحُرتُ في ما عليَّ أن أفعل. إلاّ أنّ الوحشَ لم يَدَعْني أفكّرُ طويلًا. تقدّمَ صوبي حتى باتَ على بضعِ خَطَواتٍ مني. قلتُ في نفسي: لا تكنْ جبانًا يا سليم. وصرختُ صرخةً اهتزّتْ لها جلاميدُ الوادي، واندفعتُ رافعًا عصاي. وإذْ وثبَ الوحشُ يريدُني، كانتِ العصا تقرعُ رأسَه وتشجُّه. وعندما انطرحَ أرضًا، ارتميتُ فوقَه آخذًا بخِناقِه. وما زلتُ به حتى صرعتُه. ولما أشعلتُ عودَ ثقابٍ كان بحوزتي، وجدتُ أنّ ما بينَ يديَّ ضَبُعٌ بحجمِ عِجل.
- أقتلتَ ضَبُعًا يا سليم! سألت وردةُ مصطنعةً الدهشة.
- بهاتين الكفّين وِحياةِ عينيكِ يا وردة. قالَ وهو ينهضُ بحماسة.
- لم أسمعْ من قبلُ أنّ في وادينا ضباعًا.
- ألا تصدّقونني! بمَ تريدونني أن أُقسمَ لكم أيضًا؟
- صادقٌ من غيرِ قسَم. قالَ والدُ وردةَ، ونهضَ بمشقّة: «لا تؤاخذْني. لقدِ استولى عليَّ النُعاس. تصبحون على خير». ومضى إلى غرفتِه ينفخُ ويهزُّ رأسَه.
ولما رأتْ وردةُ أنّ أمَّها تكادُ أن تغفوَ في مِقعدِها وسليمًا ما زالَ يصلُ حديثًا بحديثٍ، استأذنتْه لدقيقتين نزلتْ في خلالِهما إلى القَبْوِ، وعادت منطويةً صدرًا على بطنٍ تفركُ كفًّا بكفّ:»يا لها من ليلةٍ يقطعُ صقيعُها المسمار!». فما كان من سليمٍ إلاّ أنِ انتفضَ واقفًا، وهمَّ بخلعِ مِعطفِه:»خذي يا وردة. ضعيه فوقَ كتفيك. إنه يقتلُ البرد. قيلَ لي يومَ اشتريتُه إنه مصنوعٌ من جلدِ غزال».
- أو من جلدِ ضَبُع... في الحقيقةِ كنت أفكّرُ في...
- فيمَ تفكّرين؟
- في أنك لو تنزلُ إلى القَبْوِ لإحضارِ بعضِ الحطب. ثم استدركتْ على الفور: أو لا... أنزلُ أنا.
- كيف أتركُك تنزلين! أنا أنزل.
هكذا قالَ وهو يخطو خارجًا والسعادةُ ملءُ قلبِه. إنها المرّةُ الأولى التي يقومُ فيها بعملٍ تريدُه وردة.
- تعالَ، خذِ الفانوسَ كي لا تتعثّر.
- حسنًا. قالَ واستدارَ، وتناولَ قِنديلَ الكازِ من يدِ وردةَ، وخرجَ ونزلَ، فيما وردةُ قطعتْ أنفاسَها، وأنصتت. وما هي غيرُ لحظاتٍ حتى سُمعَ نباحُ الكلبِ الذي فكّتْ وردةُ وثاقَه للتوِّ، تبعَه صراخُ سليمٍ وهو يلوذُ بالفِرارِ والكلبُ يتبعُه عاضًّا حذاءه مرّةً، وممسكًا بطرفِ سروالِه مرّاتٍ، حتى وصلَ إلى البيتِ، لكنْ من دونِ حذاءيه وبنصفِ سروال.
مضتِ الأيّامُ، وبقيَ أهلُ ضيعتِنا يتندّرون بهذه الحكايةِ حتى اليوم. ولبثَ سليمٌ زمنًا لا يكلّمُ وردةَ حتى صالحتْه. وعادَ من جديدٍ مستعدًّا للقيامِ بأيِّ عملٍ تريدُه من أجلِ عينيها.
* * *
وردةُ اليومَ عجوزٌ طريحةُ الفراشِ، ويَطيبُ لها أن تسترجعَ حكاياتِها القديمة. وكلما ذكّروها بحكايةِ سليمٍ، اغرورقت عيناها بالدمعِ، لأنّ سليمًا ماتَ ولم يتزوّجْ بسببِها... حتى ساعةِ موتِه بقيَ يحبُّها ويطلبُ رضاها.
ومنَ الحكاياتِ التي لا تنساها وردةُ، أنها أتتِ العينَ ذاتَ مساءٍ لتملأَ جرّةَ الفخّارِ لأمِّها. كانتِ الشمسُ قد غابتْ منذُ بعضِ الوقتِ، واسودَّ الشَفَق. والعينُ التي تقعُ عندَ أوّلِ تخومِ القريةِ، موحشةٌ في مثلِ هذه الساعةِ، خصوصًا أنّ حكاياتٍ كثيرةً رُوِيَتْ عنِ الجنِّ الذين يُقالُ إنهم غالبًا ما يجتمعون ليلًا حيثُ تكونُ المياه. وما كادتْ وردةُ تضعُ فوهةَ جرّتِها تحتَ المزرابِ، حتى سمعتْ وقْعَ أقدامٍ خلفَها؛ فارتعدتْ فَرائصُها خوفًا، وراحتْ تردّدُ اسمَ الربِّ بصوتٍ خافت. ولما تشجّعتْ والتفتتْ إلى الخلفِ، رأت شابًّا منَ القريةِ أدركتْه الدُغْشةُ في طريقِ العودةِ منَ الحقلِ وقد عرّجَ على العينِ ليرويَ غليلَه؛ فارتاحَ قلبُها.
- ما جاءتْ تفعلُ الحلوةُ ههنا في مثلِ هذا الوقت؟ سألَ الشابُّ «نعمة».
- وماذا يفعلُ الناسُ عندَ العين! أجابت بلهجةٍ واثقة.
- ألا تخافين الجنّ!
- أنا مولودةٌ قبلَهم.
هكذا قالتْ، وهمّتْ برفعِ الجرّةِ؛ فاقتربَ «نعمة» مادًّا يديه يريدُ مساعدتَها، وقد تعمّدَ أن تمسَّ كَتِفُه كَتِفَها؛ فتجاهلتِ الأمرَ، ورفعتْ جرّتَها.
- دعيني أسوّيها على كتفِك. قالَ، واحتضنَ يدَها القابضةَ على الحلقةِ بكفِّه: «أجل هكذا. امسكيها جيّدًا».
- أعرفُ كيف أحملُ الجرّة. لستُ في طَوْرِ التمرّنِ بعد. فاتركْ يدي لو سمحت.
- وإن لم أتركْها؟ قالَ بدعابة.
- قلتُ اتركْ يدي، وابتعد.
- أتعرفين؟ أعطيني قبلةً صغيرةً؛ فأحملَ الجرّةَ عنك إلى البيت.
- خذْها إذًا.
قالت وأفرغتِ الجرّةَ على رأسِه. ثم دفعته بها من صدرِه، وأفلتتها؛ فسقطَ على الأرضِ والجرّةُ في حضنِه. أما وردةُ فاستدارت، وحثّت خُطاها عائدةً؛ فما كان من نعمة إلا أن نهضَ، وملأَ الجرّةَ، ولحقَ بوردةَ، ووقفَ في دربِها راجيًا إيّاها أن تقبلَ اعتذارَه.
- ماذا دهاك يا رجُل! لماذا تصرّفت معي هذا التصرّف!... أراني كنتُ مخطئةً في اعتقادي أنك شابٌّ خجول.
- لا يا وردةُ، لستِ مخطئة. أنا فعلًا خجول. لكن ربما العتمةُ ذهبت بخجلي. أو ربما... الجنُّ شجّعوني، أضافَ ضاحكًا؛ فضحكت وردة.
عندَ مفترقِ بيتِه وضعَ نعمة الجرّةَ على كتفِ وردةَ وذهبَ في سبيلِه، وأمضى وقتًا طويلًا يفكّر. قبلَ اليومِ كانت وردةُ تعجبُه. أما اليومَ فقد أحبَّها. لثقتِها بنفسِها؟ لجمالِها؟ لذكائها؟ في الحقيقةِ، لهذه الصفاتِ كلِّها.
مضتْ أيّامٌ قبلَ أن يلتقيَها مجدّدًا خلالَ إحدى السهراتِ الفنيةِ التي دأبَ نادي ضيعتِنا على إقامتِها كلَّ صيف.
- ما أخبارُك؟ سألت وردة.
- لقد نويتُ على الزواج.
- خبرٌ مفرح. أأعرفُ سعيدةَ الحظّ؟
- بالتأكيدِ تعرفينها. لا أحدَ يعرفُها مثلَك. لكن... ثمّةَ مشكلةٌ لي معها.
- أتحبُّ أن تحدّثَني فيها؟
- مَن أحبُّها... تضربُ بجرارِ الفخّار. قالَ؛ فضحكت وردة. ثم قطعتْ ضَحِكَها، ورفعت بصرَها إلى عيني محدّثِها:»أتحبُّني حقًّا يا نعمة؟».
- أكثرَ من أيِّ شيءٍ في الوجود.
- أطلبْ يدي إذًا.
- ها أنا أطلبُها.
- إنها لك.
إذ ذاك أخذَ نعمةُ يدَ وردةَ بيديه الاثنتين ولثمَها: «متى سنتزوّج؟».
- يومَ تريد.
- أتمنّى أن يكونَ ذلك الليلةَ أو غدًا. لكن لا بدَّ من وقتٍ كافٍ لترتيبِ عرسٍ تستحقّينه.
- لا حاجةَ بنا إلى عرس. لنوفّرْ كلَّ قرشٍ لبيتِنا. ألا ترى هذا أفضل؟
- أنتزوّجُ من غيرِ عرس!
- أجل. «خطيفة».
- كما ترغبين يا وردة.
في تلك الليلةِ أخبرتْ وردةُ أبويها أنها ستتزوّجُ بنعمة «خطيفة» بعدَ يومين.
- بعدَ يومين! قالتِ الوالدةُ كمَن تحدّثُ نفسَها.
- أنتِ ابنتُنا الوحيدةُ يا وردةُ؛ فكيف تخرجين من هذا البيتِ من دونِ عرس! قالَ الوالدُ بصوتٍ ملؤه الأسفُ والأسى.
- دعِ «القرشين» اللذين جمعتَهما بعرقِ جبينِك، لأخويّ يا أبي؛ فهما أحوجُ مني إليهما.
حينذاك سالتْ من عيني الوالدِ دمعتان كانتا قد عزّتا حتى في أمرِّ الأيّامِ وأصعبِ الظروف. أما الوالدةُ فبكت بصمتٍ وهي لا تدري إن كان بكاؤها من حزنٍ أو فرح.
بعدَ يومين، وفي التوقيتِ المحدّدِ، حملت ابنةُ الثانيةِ والعشرين حقيبةً صغيرةً، والتقت نعمة عندَ المفترقِ حيث وضعَ الجرّةَ على كتفِها؛ فحملَ عنها هذه المرّةَ حقيبتَها، ومشى إلى جانبِها ينظرُ إلى وجهِها الصبيحِ الذي رآه أجملَ من كلِّ الزهورِ التي تزيّنُ فستانَها، هذا الذي خاطته لها سعادُ خيّاطةُ الضيعةِ، ولم ترتدِه إلا مرّتين: يومَ العيدِ الكبيرِ ويومَ رحيلِها هذا مع نعمة.
نعمة لم تكنْ وردةُ مغرمةً به. لكنها وجدت فيه الشابَّ الذي يحبُّ كلَّ الناسِ، وكلُّ الناسِ يحبّونه لصدقِه واستقامتِه. فقير؟ لا بأس. باستطاعتِها أن تشدَّ على يدِه وتعاونَه على مغالبةِ الحياةِ وقهرِ الصعوبات. يعتقدونه طيّبَ القلبِ إلى حدِّ السذاجة؟ لا يهمُّ ما دامت هي إلى جانبِه تبدي رأيَها وتسديه نُصْحَها.
في الطريقِ توقّفَ نعمة عنِ السيرِ، وقالَ لوردة: أما كان حَرِيًّا بنا أن نفكّرَ أكثرَ في ما عقدْنا العزمَ عليه؟ قالتْ وبسمةٌ جميلةٌ تعلو شفتيها: «اشكرْ ربَّك أني لم أفكّر. فلو فعلتُ، لما جئتُ معك». ثم مشى بضعَ خَطواتٍ أُخَرَ، وتوقّفَ ثانيةً: «إلى أينَ نحن الآنَ ذاهبان؟». قالت: «إلى جهنّمَ الحمرا. إمشِ». وما كادا يبلغان الطريقَ العامَّ حتى توقّفَ ثالثةً: «أنتِ أفهمُ مني يا وردة. أترين أننا نقومُ بالعملِ الصائب؟». هذه المرّةَ لم تعرفْ وردةُ إن كان عليها أن تضحكَ أم تبكي. وما كان منها إلا أنِ انكفأتْ خَطوتين، وتأبّطت ذراعَ نعمة؛ فانصاعَ لها وسارَ خاليَ البالِ إلى جانبِها لإيمانِه أنها أفهمُ منه. وما طالَ الوقتُ حتى شاعَ في القريةِ الخبر. الناسُ قالوا يومذاك: لم يخطفْ نعمةُ وردة. وردةُ هي التي خطفته.
خطفته، وتزوّجت به، وأنجبت له صبيين سمّتهما: جهاد وعماد. لكنْ قبلَ أن يكسوَ الريشُ أجنحتَهما الطريةَ، أُصيبَ نعمة بداءٍ عُضالٍ أقعدَه في السريرِ شهرين قبلَ أن يردَّ الأمانةَ إلى ربِّه. وكان قبلَ موتِه قد أوصى بكلِّ أملاكِه وأرزاقِه لزوجتِه؛ فأحسنت إدارتَها، وربّت ولديها بتعبِ يديها حتى كبرا وشبّا عنِ الطوق. لكنها لم تخلعِ الفستانَ الأسودَ إلى أن تزوّجَ ابنُها البكرُ عماد. أما هي فلم تتزوّجْ بالرغمِ من أنّ شبّانًا كثيرين طلبوا يدَها.
حدّثَني عمادٌ مرّة. قال: أدخلتني أمّي وأخي مدرسةَ القريةِ الرسمية. كنا في صفوفِنا الابتدائيةِ لا نحبُّ المدرسةَ والكتاب. لذلك كانت أمّي تولينا كلَّ اهتمامِها؛ فلا تَقَرُّ لها عينٌ قبلَ أن نحفظَ أُمثولاتِنا عن ظهرِ قلبٍ، ونكتبَ فروضَنا على أكملِ وجه. وكيف كنا نفعل! كانت أمّي تفتحُ كتابي أمامَ عينيها، وتطلبُ مني أن أتلوَ أُمثولتي. فإذا تلعثمتُ بكلمةٍ، رفعتْ صوتَها في وجهي: «ما هكذا أريدُك أن تكونَ حافظًا لدرسِك. خذِ احفظْه بشكلٍ أفضل». وأستمرُّ في محاولةِ الحفظ. وتستمرُّ هي في الاستماعِ إليَّ، حتى ترضى تمامَ الرضا. وكان خطُّ أخي في البَدءِ لا يعجبُها؛ فتجبرَه على إعادةِ كتابةِ الفرضِ مرّةً واثنتين وثلاثًا حتى يصبحَ كأنه مطبوعٌ طبعًا.
وتابعَ عمادٌ يقول: واستمرَّ الحالُ على هذا المنوالِ إلى أن حدثَ ما أثارَ أشدَّ عجبي ودهشتي. ما حدثَ هو أني عندما بلغتُ الرابعةَ عشْرةَ من عمري، أُصبتُ بمرضٍ ألزمَني الفراشَ مدّةً قبلَ أن أُنقلَ إلى المستشفى. هناك كان على أمّي أن توقّعَ بعضَ الأوراقِ باعتبارِها وليّةَ أمري. ولما دفعَ إليها الموظّفُ في الإدارةِ بورقةٍ، سألتْه: أينَ يجبُ أن أوقّع؟ قال: «في الجهةِ اليسرى منَ الأسفل. اكتبي، لو سمحتِ، اسمَك الثلاثيَّ بخطٍّ واضح». لكنها أخذتِ القلمَ وصبغتْ بحبرِه إبهامَها، وطبعتْ بصمتَها على الورقةِ؛ فنظرتُ إليها نظرةَ استغرابٍ طويلة. ولما أصبحنا في الغرفةِ وحدَنا، سألتُها في ذلك. قالت: أوَتحسبُ، يا ابني، أنني أجيدُ القراءةَ والكتابة!
- ألا تُجيدين! وكيف كنتِ تنظرين في كُتُبِنا مستمعةً إلينا نتلو أُمثولاتِنا، أو في دفاترِنا وتطلبين منا أن نحسّنَ خطَّنا!
- وهل كنتما لتتعلّما وأنتما تعرفان أنني لا أعرفُ حتى كتابةَ اسمي!
حينئذٍ سكتَ عمادٌ حانيًا رأسَه فوقَ صدرِه. ولذتُ أنا أيضًا بالصمتِ مفكّرًا في عبارةِ ثناءٍ تفي هذه المرأةَ الفاضلةَ حقَّها. لكنني رأيتُ السكوتَ أبلغَ منَ الكلامِ أحيانًا.
* * *
ومرّتِ الأيّامُ والأعوام. وتزوّجَ عمادٌ وجهاد. وخطتْ وردةُ فوقَ عتبةِ الثمانين؛ فضعفتْ همّتُها، ولزمتْ بيتَها لا تخرجُ منه إلاّ لعيادةِ مريضٍ أو زيارةِ قريبٍ أو قريبة. ولما ذهبتُ يومًا للسؤالِ عنها والاطمئنانِ عليها، وجدتُها غارقةً في مِقعدِها وقد خطّتِ السنونُ على جبينِها وحولَ عينيها تجعّداتٍ كثيرة. لكنّ ذلك الوجهَ القمريَّ كان ما زالَ يحتفظُ بقسماتِه الجميلة.
طلبتْ مني أن أجلسَ بقربِها لأنّ بعضَ الوَقْرِ أصابَها؛ فثقلَ سمعُها. وفيما كنا نتجاذبُ أطرافَ الحديثِ، دخلتْ كنّتُها، وقالت وهي تنظرُ إلى طِلاءِ أظافرِها: «تانت، أنا ذاهبةٌ لاستشارةِ الطبيب». ثم انصرفتْ؛ فنظرتْ وردةُ إليّ، وقالت وهي تهزُّ رأسَها: «لقد ولدتُ ابني البكرَ في الحقلِ، وقطعتُ بالحجرِ حبلَ سُرَّتِه بيدي... كنّتي حُبلى في شهرِها الثالثِ، وقدِ استشارتِ الطبيبَ حتى الآنَ أكثرَ من عشرِ مرّات. زوجُها، أي ابني العزيزُ، لا يدعُها تقومُ بأيِّ عمل. حتى أنه يغسل الصحونَ ويكنسُ البيتَ عنها».
- لقد تغيّرَ الزمنُ يا ستّ وردة.
- لا. الناسُ هم الذين تغيّروا. لقد فسدوا. يريدون أن يأكلوا خبزَهم ويحيوا من غيرِ أن يتعبوا.
وفيما راحت وردةُ تحدّثُني عن أيّامِ تعبِها في صباها وعيناها غارقتان بدموعِ الغبطةِ، كانت ثمّةَ قناعةٌ تزدادُ في فكري رسوخًا: ما أكثرَ النساءَ، وما أقلَّ «أخواتِ الرجال»!