رحيل الكبار

يوحنا بولس الثاني الذاهب إلى أحضان ربه

قداسة تجلت وحاولت جعل العالم أكثر انسانية

 

صاحب الثوب الأبيض الناصع واليد المرفوعة دائماً للسلام، صاحب الوجه المشع وداعة وعزماً في فيض بهي من الحكمة والمحبة والنور، رحل حاملاً على منكبيه هموم عالم حاول جاهداً جعله أكثر انسانية.
يوحنا بولس الثاني المولود كارل جوزف فوتيلا، الذاهب إلى أحضان ربه، قائلاً: «حقائبي جاهزة»، بكته الإنسانية كما لم تبك زعيماً روحياً أو سياسياً من قبل.
«الملاك الأبيض»، «رجل السلام والانفتاح والحوار»، «رحالة الانجيل»، «رياضي الرب»، «رجل الحرية»... ألقاب كثيرة أطلقت على البابا يوحنا بولس الثاني، البابا الذي ما من شك أنه جمع أكثر بكثير من كل الصفات التي حاولت الإحاطة بشخصيته.

 

حدث مفصلي في تاريخ الكنيسة
اعتلاء البابا يوحنا بولس الثاني البولوني الأصل السدة البطرسية في روما، كان حدثاً مفصلياً في تاريخ الكنيسة. فانتخابه أخرج الكنيسة على تقليد دام 455 عاماً، كان خلالها الباباوات من الإيطاليين. أما السنوات الـ26 التي شكلت مدة ولايته على رأس الكنيسة الكاثوليكية فقد شهـدت تبـدلات جـذريــة على المســتــوى العالمي. وقد واكبها يوحنا بولس الثاني بمواقف ومبادرات جعلت بصماته واضحة في العالم.
البابا الآتي من بلد عانى فظائع النازية والستالينية، عمل بعزيمة متوقدة وجرأة نادرة على تحرير الإنسان وانعتاقه من قيود الاستغلال والارتقاء به إلى مستوى الكرامة الإنسانية. فكان دوره محورياً في إسقاط الأنظمة الشيوعية، كما كان بإيمانه ومسلكه رجل الإيمان والانفتاح والمحبة.

 

من المهد... إلى اللحد
ولد كارول فوتيلا في 18 أيار 1920 في بلدة صغيرة قريبة من كراكوف في جنوب بولونيا. تلقى وشقيقه تربية عسكرية في كنف والدهما الذي كان ضابط صف في فوج المدفعية السادس والخمسين في جيش الامبراطورية النمساوية - المجرية.

عايش الحزن منذ طفولته. فإلى فقدانه والدته في التاسعة من عمره (ومن ثم شقيقه ووالده)، شهد أهوال الحرب العالمية الثانية ومآسيها يافعاً. بلاده التي كان يعيش فيها نحو 40 مليوناً، كانت أرضاً ترشح حزناً في ظل تعاقب نظامين توتاليتاريين: النازية التي قتلت في بولندا أكثر من ستة ملايين شخص خلال ست سنوات، والستالينية التي جاءت تكمل مآثر سابقتها ظلماً وقمعاً.

هذه المآسي الماثلة في وجدانه كانت ركناً في تكوين شخصيته بأبعادها الإنسانية الشمولية والتي جسّدها بعمله بلا كلل من أجل السلام والمصالحة الكونية في العالم وإرساء لغة الحوار بين الأديان، والدفاع عن المظلومين والمقهورين والمهمّشين.

في شبابه كان مولعاً بالمسرح والشعر والرياضة. عمل في مقالع الحجارة، وبهدف دعم الروح الوطنية كان يقيم حفلات مسرحية سرية في البيوت.

الشاب المفعم بحب الحياة اختار الكهنوت، فسيم كاهناً في كراكون في الأول من تشرين الثاني 1946. عام 1958 صار أسقفاً، وبعد ذلك بست سنوات اختير رئيساً لأساقفة كراكون. وفي 16 حزيران 1967رقاه البابا بولس السادس إلى رتبة كاردينال. بعد وفاة البابا بولس السادس وبعده بنحو شهر البابا يوحنا بولس الأول، لم يكن أحد يتوقع أن الأسقف فوتيلا سيكون البابا الجديد. ففي 16 تشرين الأول من العام 1978، وعندما أعلن انتخابه عمّ الذهول. كان يومها أشبه بجندي مجهول، لكن هذا «الجندي المجهول»، والذي كان أصغر البابوات سناً   (58 عاماً)، لم يتأخر في النزول إلى ساحات العالم ليصبح قائداً عالمياً بامتياز. قائد سحر الحشود في جهات العالم الأربع، فتراكضت خلفه الجماهير مواكبة أسفاره التي تخطت المئة وشملت 129 بلداً.

 

رجل الحوار والحرية
يوحنا بولس الثاني رجل تأمل وحوار، فيلسوف وشاعر، اتقن ثماني لغات أضاف إليها تعلّمه الاسبانية بعد أن أصبح بابا.
في عهده تركزت الأنظار نحو الكرسي الرسولي. فقد غيّر وجهة الكنيسة مدخلاً تعديلات جذرية في طريقة تعاطيها مع العالم. قبله لم يكن البابا يخرج من روما إلا نادراً. أما هو فقد انطلق من روما إلى العالم، ملاقياً الملوك والرؤساء والزعماء، وملاقياً على نحو خاص الجماهير.
عندما زار البابا يوحنا بولس الثاني بلده الأم بولونيا في السابع من حزيران 1979 كان هذا البلد رازحاً تحت وطأة الحكم السوفياتي. في تلك الزيارة ردد البابا كلمات: الحرية، الحقيقة، الإيمان. بعد عام من ذلك انفجر صاعق الثورة ولم تنطفئ الشرارة إلى أن فتحت بولونيا فجوة في خاصرة الامبراطورية السوفياتية. الفجوة اتسعت فكان سقوط جدار برلين في آخر الثمانينيات. كان دور البابا مهماً في إحداث التحوّل ليس فقط في أوروبا الشرقية وإنما أيضاً في بلدان أخرى. سلاحه في مقاومة السلطات العنيفة والمتسلطة، كان بضعة كلمات.

 

رجل الانفتاح
تميّز يوحنا بولس الثاني بنظرته إلى الإنسان وجوهر علاقته بالله وهو من موقعه كرأس الكنيسة الكاثوليكية لم يحصر رسالته بالكاثوليك، بل جعل هذه الرسالة منفتحة على الإنسان إلى أي ديانة انتمى. وهذا ما جعله يطلق ورشة الانفتاح واللقاء مع الأديان كافة في لقاء أسيزي عام 1986 وعام 2002. وقد كان لاختياره المكان دلالات عميقة. فأسيزي مرقد القديس فرانسوا الأسيزي الذي كان ضد الحروب الصليبية.
ولا شك أن البابا يوحنا بولس الثاني سيتصدر التاريخ كرجل انفتاح ومحبة له من المبادرات والمواقف في هذا المجال الكثير الكثير.. من الموافقة على بناء مسجد في روما والطلب إلى محافظ مدينتها تقدمة الأرض للمسجد والمركز الثقافي الإسلامي مجاناً، إلى دخوله الجامع الأموي في دمشق عام 2001 ومعبد يهودي في روما عام 1986. يوحنا بولس الثاني دعا في العام الماضي المسيحيين إلى مشاركة المسلمين في صوم اليوم الأول من رمضان. وكان أول بابا يبادر إلى التمني على مسلمين أن يصلّوا من أجل نجاح مؤتمر السينودس الذي عقد في الفاتيكان برئاسته من أجل لبنان بحضور ممثلين عن الطوائف اللبنانية كما يروي محمد السماك.
النزعة الإنسانية عند يوحنا بولس الثاني تخطّت الانفتاح والسعي إلى تعزيز التواصل بين مختلف الأديان. فهذا البابا الشجاع الثوري قدّم صورة عن مسيحية انجيلية غير متغطرسة تطلب المغفرة عن الإساءات التي قامت بها الكنيسة الكاثوليكية في مراحل مختلفة من التاريخ. ففي العام 2000 طلب البابا الغفران من جميع من أساءت إليهم الكنيسة سواء كانوا من أبنائها الذي حكموا بعض الأحيان ظلماً، أو من المسيحيين غير الكاثوليك الذين تعرّضوا للاضطهاد، أو من المسلمين بسبب الحروب الصليبية، أو من اليهود نظراً إلى شعور اللاسامية الذي كنّه لهم بعض المسيحيين.

 

مواقف ومبادئ
كان يوحنا بولس الثاني بابا سياسياً بقدر ما كان زعيماً روحياً. ألقى عشرة آلاف خطاب، وأصدر 14 ارشاداً رسولياً، وحمل الكنيسة على التطرّق إلى مختلف المواضيع. من الحروب إلى المذاهب الايديولوجية والأنماط الاقتصادية والمسائل الاجتماعية ومشكلة العنصرية والقضايا البيئية والثورات الشعبية، وصولاً إلى سوء التنمية وديون العالم الثالث والأمن ونزع الأسلحة.
وعلى الرغم من تدهور صحته في السنوات الأخيرة ظل البابا محافظاً على صلابته المدهشة ومواقفه التي كانت دوماً إلى جانب الإنسان وكرامته وحقوقه. وفي هذا السياق، عارض شن الحرب على العراق عام 2003، وقاد ما يمكن اعتباره حملة مسيحية عالمية ضد هذه الحرب. قبل الحرب على العراق وبعد تفجيرات 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأميركية، أعطى البابا الضوء الأخضر لعقد لقاء في روما حضره ممثلو الأزهر الشريف، ليؤكد على موقف مبدئي هو فك أي ارتباط بين الجريمة المنكرة والإسلام تحديداً، وبين أي جريمة سياسية والدين في شكل مطلق.
إلى ذلك، شهد العالم مواقف البابا ومبادراته الشجاعة حيال العديد من البلدان التي عانت الحروب والعذابات، وفي طليعتها فلسطين ولبنان.

 

البابا: لبنان أكثر من وطن
كان للبنان في وجدان البابا موقع مميز، وتقدير كبير لصيغته الفريدة التي تقدّم نموذجاً للعيش المشترك بين الديانات والثقافات المتنوعة. من هذا المنطلق، اعتبر أن لبنان أكثر من وطن فهو رسالة.
منذ إنشاء العلاقات الدبلوماسية بين الكرسي الرسولي ولبنان عام 1947، اعتبر الباباوات المتعاقبون لبنان مثالاً ونموذجاً للعيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين. ورأوا في الحرب الأهلية تدميراً للصيغة التي تضمن السلام فيه. هذا الموقف جسّدته بعثات الفاتيكان العديدة إلى لبنان والتي دانت الحرب وحضّت على استئناف العيش المشترك.
في العام 1994 وبعد الانفجار المروع الذي حصل في كنيسة سيدة النجاة، دعا البابا إلى عقد سينودس خاص في الفاتيكان من أجل لبنان، وقد أصرّ على أن يحضره ممثلون للطوائف الإسلامية اللبنانية، ليس بصفة مراقبين فحسب، ولكن بصفة مشاركين. شكّلت تلك الدعوة سابقة في تاريخ مؤتمرات السينودس التي عقدها الفاتيكان حتى ذلك اليوم، إذ لم يسبق أن دعي إليها مسلم. كما أنها كانت المرة الأولى التي يعقد فيها سينودس خاص ببلد معين، فالمجامع كانت تخصص للقارات.
وفي العام 1997، كانت زيارة البابا إلى لبنان تتويجاً لجهوده من أجل هذا البلد. وقد جاء الإرشاد الرسولي ليعلن «أن الكنيسة الكاثوليكية تريد الانفتاح على الحوار والتعاون مع مسلمي البلدان العربية، ولبنان جزء لا يتجزأ منها، وفي الواقع أن مصيراً واحداً يربط المسيحيين والمسلمين في لبنان وسائر بلدان المنطقة».
يمكن الاستفاضة في الكثير من الأمور حول البابا يوحنا بولس الثاني، المتعلقة بما أنجزه على مستوى علاقة الكنيسة بالعالم، أو المتعلقة بالكنيسة وبإدارة الفاتيكان، غير أن كل ما يُقال يظل مجرد نقاط في سيرة هذا البابا العظيم بفيض محبته وتواضعه وشجاعته، فباختصار كان هذا الرجل العظيم قداسة تجلت في العالم خلال مراحل من أصعب ما عرفته البشرية في تاريخها.

 

يوحنا بولس الثاني: الإنسان
من رجالات اواخر القرن العشرين الذين طبعوا المرحلة سياسياً وثقافياً وأخلاقياً، يبرز في الطليعة البابا يوحنا بولس الثاني. هذا الحبر الأعظم الذي تربّع على عرش الكثلكة بإنسانية وتواضع وتكريس لقضايا الإنسان من حرية وازدهار، وقف بكل ما يمثله من مخزون روحي كبير ضد كل أنواع القهر والحرمان، ودعا إلى تحرير الشعوب بعد تحرير الفرد، ونبذ كل أنواع الشذوذ التي طرأت على الحضارة الإنسانية، متمسكاً بالتعاليم الإلهية التي تُجمع عليها الأديان بخصوص العائلة وتماسكها، وتحرير الناس من الشهوات الرخيصـة التي تروّج لها دعوات الحرية المشبوهة.
لقد ميّز بين حرية الإنسان وبين استعباده بوسائل ظاهرها الحرية، وباطنها وحقيقتها الابتعاد عن المعاني الإنسانية السامية، والاتجاه نحو السلوك البهيمي. لقد تصدّى لموجة المادية التي اعتمدت، ولا تزال، التفكير المصلحي، وحافظ على جذوة الأخلاق الإنسانية وزاد من رفع مشاعلها لكي تنير دروب البشر، وتهديهم، أنّى كانوا، أو كائنين من كانوا.
الحبر الأعظم جال على معظم أصقاع الأرض، وقابل قادة وشعوباً من مختلف الأعراق والأديان، إيماناً منه بأن الله للجميع والسلام والمحبة لبني البشر كلهم، وهذه قمة الإنسانية وذروة الاتصال بالرب.
رحل يوحنا بولس الثاني. لم يرحل. ترك إرثاً عظيماً انضم إلى ارث الإنسانية، منشداً نغمة السلام والمساواة بين بني البشر!.
م.ت.

 

البابا الأبيض وبطل السلام في العالم
الحد الجديد انعزفت الألحان                    في السما وعالأرض في حسرة
اندقت جراس الأرض بالأحزان                  وفتحت بواب السما العذرا
لقداسة البابا الجعل لبنان                      دنيا الرسالة الذايع الشهرة
البابا اللّي نادى بحرمة الأديان                ونهج المحبة الأصل والعبرة
البابا اللّي جال بكافة البلدان                  وزار الدول من كبرها لزغرا
البابا الأديب الشاعر الفنّان                     والزنبقة الملوى الدني عطرا
رأس الكنيسة وطالب الغفران                 في قضايا واضحة بذكرا
غيبتو بمطلع شهر نيسان...                    شو مؤلمة ومؤثّرة الذكرى...
***************
ما مننسى وجهك الفتّان                      وفي حريصا صفوة النبرة   
بابا الشبيبة عالنشء سهران                  وقدّيش ما حليت معو السهرة
نزلت عنّا بساحة الميدان                        تا تطفي حروبنا وشرّا
وشجعتنا بقداسة الرهبان                      ونحنا بعجايبهن منتدرى
ومن أجلنا السينودس اللّي كان               وبزيارتك لبنان يتمرّى
وميّزتنا عن كافة الأوطان                      وكتير عنّا كنت تتحرّى
وبدّك سوى الانجيل والقرآن                   ببلادنا وما نكسر الجرّة
وبدّك نعيش بهالوطن اخوان                  ومن بعضنا ممنوع نتبرّا...
***************
مواعظو في حضرة القربان                    يكتبا ويوجّه البشرى
وبالكون حولو يجمع الشبّان                   ويقلهن: انتوا أمل بكرا
محفور بالأفكار والأذهان                      تاريخ حافل ثاقب النظرة
يا ما سعي لكرامة الإنسان                   برسايلو في سرّها وجهرا
وأكجا التركي سامحو بنسيان                 اغتيالو مسامحة كبرى
وشفاعتو لبولونيا ولبنان                      ما بتنسى شعوبنا الحرّة
عينو علينا بجنّة الرحمان                        وشفيعنا بظروفنا المرّة
***************
واليوم نحنا بمنطق الإيمان                   منخضع لرب الخالق القدرة
وهالمسبحة الكرّستها بعنوان               «النور» - نورا يضمّك لصدرا
وعمنصلّي مع الفاتيكان                       حتى البابا البعد منّو يكون
متلو ومتل مار بطرس: الصخرة...

                                                             اميل نون
                                                   أمين سر عصبة الشعر اللبناني