دراسات وأبحاث

البحر الأبيض المتوسط
إعداد: د. أحمد علو
عميد متقاعد

موطن الحضارة ومركز تاريخ العالم

«كلما كان هناك ارتباط مباشر وملموس لشعب ما بالبحر، زاد الإدراك السلبي لقوته».

إليشا ليندر

 

يعتبر البحر الأبيض المتوسط من أقدم البحار التي تشكّلت على سطح الأرض، كذلك ينظر اليه بأنه المجال المائي الحيوي الذي أسهم في تكوّن الحضارات القديمة منذ آلاف السنين. فعلى ضفافه، وعبره، تم انتقال التجارة والثقافات، والشعوب، وعلى سطحه جرت معارك وحروب كثيرة، غير أنه كان وما زال يشكّل جامعاً ما بين شعوب وأمم أقامت على شواطئه الشمالية والجنوبية والشرقية. وعلى الرغم من استخدامه معبراً للغزوات المختلفة الإتجاهات فقد شكّل في الماضي، ولا يزال، رمزاً ومصطلحاً لإعادة توحيد حضارة الشعوب التي تقيم في حوضه، وآخرها تلك الدعوة لإقامة «الإتحاد من أجل المتوسط» (Union for The Mediterranean) التي أطلقت منذ نهاية القرن الماضي، وما زال العمل يجري لإنجازه، حتى اليوم.

 

وسط الأرض
Mediterraneus لفظة لاتينية وتعني الأرض = Terra + وسط = Medius، إذن تأتي تسمية هذا البحر بالمتوسط من كونه يقع وسط الأرض، فالأرض تكاد تحيط به من جميع الجهات: أوروبا من الشمال والغرب، أفريقيا الى الجنوب، وآسيا في الشرق. ولا يفصل بين هذه القارات إلا مضائق صغيرة: مضيق جبل طارق الذي يفصل أوروبا عن أفريقيا ويفصل البحر المتوسط عن المحيط الأطلسي بمسافة تبلغ حوالى 14 كلم. كما يفصل آسيا عن أوروبا مضيق الدردنيل بعرض لا يتجاوز 1.2 كلم، ويفصل هذا المضيق المتوسط عن بحر مرمرة والبحر الأسود الذي يعتبره البعض جزءاً منه. كما تفصل قناة السويس أفريقيا عن آسيا بعرض مئات الأمتار، وتصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر.

 

أبعاد البحر المتوسط
يبلغ طول البحر المتوسط حوالى 3860 كلم من مضيق جبل طارق وحتى مدينة إسكندرون في تركيا، وأقصى عرض له حوالى 1600 كلم ما بين ليبيا وسلوفينيا، كما أن أقصى عمق لمياهه هو 5200م ومتوسط عمقه 1500م، أما مساحته فتبلغ حوالى 2.5 مليون كلم2 والبعض يضيف اليه البحر الأسود ومساحته 450 ألف كلم2. ويمكن ملاحظة وجود أذرع لهذا البحر، وهي كبيرة لدرجة أن البعض يطلق عليها إسم بحار، وهي: البحر الأدرياتيكي شرقي إيطاليا، والبحر الأيوني في جنوبها، وبحر إيجيه بين تركيا واليونان، كذلك البحر التيراني غربي إيطاليا، وبحر الباليار جنوب فرنسا وشرقي إسبانيا، وغيرها...، كما يحتوي هذا البحر على عدد من الجزر الكبيرة أهمها: قبرص - صقلية - سردينيا - كورسيكا - كريت - مالطا - جزر البليار وغيرها. أما طول شواطئه فيبلغ حوالى 46 ألف كلم، تتوزعها نحو 24 دولة ومقاطعة، وهو يكاد أن يكون بحراً شبه مغلق، كما أنه الأكثر تلوثاً في العالم لأن مياهه لا تتجدد إلا كل مئة عام تقريباً.

 

تاريخ البحر المتوسط
يرجح بعض علماء الأرض أن البحر المتوسط قد تكوّن وفق نظرية الصحائف التكتونية، ويرون أن الأرض كانت قبل 250 مليون سنة تشكّل كتلة واحدة تدعى «بانجي»، وكان خليج «تيش» أو «تيتس» خليجاً ضخماً تطور ليصبح البحر المتوسط على الساحل الشرقي لبانجي، وخلال ملايين السنين انقسمت «بانجي» وبدأت أجزاؤها تزحف تدريجاً نحو أماكنها الحالية، مشكّلة القارات التي نعرفها اليوم، وهذه الحركة سمحت لهذا الخليج أن يتصل بالمحيط الأطلسي قبل حوالى 65 مليون سنة، كما أن دوران القارات وتحركها أقفل الطرف الشرقي لبحر «تيتس»، وهكذا أخذ البحر المتوسط شكله الحالي.
في ما يتعلق بالتاريخ البشري للبحر المتوسط، ترجّح كثرة من المؤرخين أن يكون المصريون هم أصحاب أولى الحضارات التي قامت في حوض البحر المتوسط وذلك ما قبل الألف الثالث قبل الميلاد، فقد حظي المصريون بحكومة وطنية منذ 3100 ق.م، كذلك يعتقد بعض المؤرخين أن تكون الحضارة «المينوية» التي قامت في جزيرة كريت مع بداية الألف الثالث ق.م هي أولى الحضارات الأوروبية في حوض المتوسط، وبعدها ظهرت الحضارة اليونانية التي يعتبر بعض الباحثين أنها تأثرت بالحضارة المصرية وأخذت عنها الكثير في الفكر والفن والفلسفة وغيرها. ومنذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد بدأ الفينيقيون ينطلقون من سواحل المتوسط الشرقية (سوريا ولبنان)، ويسيطرون على البحر المتوسط، فقد أبحروا الى أجزائه كافة، وعبر مضيق جبل طارق وصلوا الى المحيط الأطلسي، ومنه الى الشواطئ الأفريقية وكذلك الى الشواطئ الشمالية، ناقلين تجارتهم وحضارتهم وحتى بعض أبناء شعوبهم، فأقاموا المستعمرات في أفريقيا وإسبانيا وأصبحت قرطاجة (في تونس اليوم)، إحدى أهم مدن البحر المتوسط، وقد بسطت سيطرتها على هذا البحر ما بعد العام 600ق.م، وكان صراعها مع روما في ما بعد، ترجمة عملية، ونتيجة للتنافس التجاري والرغبة في السيطرة على هذا البحر وتجارته والأسواق المنتشرة على شواطئه المتنوعة شمالاً في أوروبا، وجنوباً في أفريقيا وشرقاً في آسيا.
لقد استطاع الرومان بعد هزيمة قرطاجة العام 202 ق.م، السيطرة على شواطئ المتوسط والأراضي المحاذية له كلها تقريباً، وخلال عدة قرون استطاع الرومان السيطرة على حوض هذا البحر من الشمال والشرق والغرب والجنوب حتى أنهم أطلقوا عليه إسم «بحرنا» (Mare Nostrun).
بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية وانشطارها، حافظ البحر المتوسط على دوره كأهم طريق بحري في العالم، فعلى شواطئه تقع أهم مدن العالم التجارية في التاريخ القديم والوسيط، من القسطنطينية الى روما والبندقية وجنوى وبرشلونة، الى مدن الساحل الأفريقي والآسيوي، فقد كانت التجارة بين الصين والهند وأوروبا تتم من خلاله وعبر البر الآسيوي السوري واللبناني في ما كان يعرف بطريق الحرير.
فقدَ المتوسط جزءاً من أهميته التجارية كأقصر طريق الى مراكز العالم القديم بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح على يدي البحار البرتغالي فاسكو دي غاما العام 1497 ووصوله الى الهند العام 1498، واستخدام السفن هذا الطريق نحو الشرق، كذلك بعد اكتشاف أميركا العام 1492 على يدي كريستوف كولومبس، لكن وبعد افتتاح قناة السويس العام 1869، عاد البحر المتوسط كأقصر طريق يربط ما بين أوروبا وآسيا بحراً، وشكّل في ما بعد أهم الخطوط البحرية إنشغالاً وازدحاماً بحركة السفن التجارية، كذلك فقد شكّل مسرحاً لكثير من المعارك البحرية خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.

 

البحر المتوسط في الجيوبولتيك
يعتبر البحر المتوسط من أهم المواقع الجيوستراتيجية في العالم خصوصاً بالنسبة الى دول الغرب الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية أي دول حلف «الناتو» (NATO)، وكذلك كان مهماً جداً في استراتيجيات المعسكر الشرقي السابق (حلف وارسو) بزعامة الإتحاد السوفياتي. وخلال فترة الحرب الباردة ما بين المعسكرين (1945 - 1990) كان المتوسط مسرح تنافس وصراع.
إن أهمية هذا البحر الجيوستراتيجية تكمن في بنيته الجيوبولتيكية فهو يشاطئ حوالى 24 دولة وكياناً سياسياً وبشرياً، وحضارياً.  وعلى شواطئه الشرقية والجنوبية تجمعات بشرية ودول تكتنز أهم الثروات وموارد الطاقة. كذلك في حوضه أقدم الحضارات البشرية الفرعونية واليونانية والرومانية، وعلى ضفته الشرقية ظهرت الأديان التوحيدية الثلاثة، ومنها انطلقت الحضارة والثقافة كما يعتقد الكثير من المؤرخين.

 

دول الحوض
تنتمي الى حوض المتوسط مجموعة من الدول تقع في ثلاث قارات: أوروبا وأفريقيا وآسيا وهي كما يأتي:
- أوروبا: إسبانيا - فرنسا - موناكو - إيطاليا - سلوفينيا - كرواتيا - البوسنة والهرسك - الجبل الأسود - ألبانيا - اليونان، ويضاف اليها مقاطعة جبل طارق الإنكليزية.
- آسيا: تركيا - سوريا - لبنان - إسرائيل - فلسطين.
- أفريقيا: مصر - ليبيا - تونس - الجزائر والمغرب.
وهناك الدولتان الجزيرتان: قبرص ومالطا.
تبلغ مساحة الدول المطلة على البحر المتوسط وتشاطئه أكثر من 9 ملايين كلم2، ويزيد عدد سكانها على 470 مليون نسمة (إحصاء 2008)، وهذا يشكّل كتلة بشرية كبيرة، وسوقاً تجارية واسعة. وترتبط هذه الدول بمجموعات ومنظمات إقليمية مهمة، كدول الإتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة، ومجموعة الدول العربية التي تضم 22 دولة.
ولعل هذا الواقع قد ساعد في بلورة مشروع إقامة الإتحاد المتوسطي منذ نهاية القرن الماضي، وفي السعي الى بلورة مشروع الإتحاد من أجل المتوسط منذ سنوات قليلة مضت، لتدعيم الروابط بين هذه الدول في المجالات المختلفة وحماية البحر المتوسط.

 

الإتحاد من أجل المتوسط
عرف هذا المشروع عند إطلاقه بمشروع «الإتحاد المتوسطي» وهو هيئة تضم الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي، يضاف اليها الدول المطلة على البحر المتوسط + الأردن وموريتانيا. وقد أعلن عن انطلاق هذا الإتحاد، الرئيس الفرنسي (ساركوزي) في 13 تموز العام 2008، بهدف إقامة مشروعات تنموية تتعلق بالبحر المتوسط والدول المطلة عليه. وقد ضم المشروع حوالى 43 دولة، برئاسة مشتركة ما بين الرئيس الفرنسي والرئيس المصري حسني مبارك، كممثلين عن دول ضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية، وعلى أن تتغير الرئاسة كل سنتين.
يمكن تلخيص أهداف الإتحاد من أجل المتوسط كما يأتي:
- تخفيف حدة تلوّث البحر المتوسط والعمل على تنظيفه وشواطئه، والتركيز على المياه والصرف الصحي.
- إنجاز طريق بري يربط بين موانئ للمتوسط (طريق سريع) وتحسين عمليات النقل البحري بين هذه الموانئ.
- تعزيز التعاون ووسائل الحماية المدنية والوقاية من الكوارث الطبيعية، أو التي من صناعة الإنسان.
- تشجيع خطة بناء مشاريع الطاقة البديلة وتوليد الطاقة الشمسية.
- إقامة جامعة أورو متوسطية لتشجيع الحراك الأكاديمي بين الدول الأعضاء ومقرها في سلوفينيا.
- دعم المؤسسات والشركات الصغيرة والمتوسطة، عبر تقديم المساعدات الفنية والمالية الطوعية من الدول الأعضاء.
لم يرق هذا الإتحاد لبعض دول الحوض المتوسطي، فليبيا رأت فيه إهانة للدول الأفريقية والعربية على الضفة الجنوبية للبحر، وتركيا اعتبرته محاولة فرنسية للتعويض لتركيا وإرضائها عن امتناع الإتحاد الأوروبي عن الموافقة على دخولها لهذا الإتحاد، كما أن مجموعة الدول العربية، لم ترضَ عن موقف دول الإتحاد الأوروبي في نظرتها الى الصراع العربي - الإسرائيلي وبمبادرة السلام العربية في قمة بيروت العام 2002، كذلك موقف الإتحاد الأوروبي من مبادرة السلام الفلسطينية - الإسرائيلية والعدوان على غزة العام 2008 ومطلع العام 2009. ولكن وعلى الرغم من هذه الصعوبات، فإن مساعي فرنسا وبعض الدول الأوروبية ما زالت حثيثة لإزالة العقبات التي تحول دون تفعيل هذا الإتحاد، ولكن هذا الطموح الأوروبي - المتوسطي في تكوين إتحاد فاعل يكون له حضوره الإقتصادي والسياسي والحضاري على المسرح العالمي، ما زالت تعترضه عقبات التعنت والتهميش التي تتبعها الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، في ممارسة سياساتها العالمية، ورغبتها في الإنفراد في تقرير سياسة الكون وفق مصالحها.

 

حضارة مشتركة
لقد شكّــل البحر الأبيــض المتــوسط طــوال تاريخه البــشري حيّزاً جغــرافياً واحداً، تفاعلت شعوبه وتمازجت، بفعل حركة الأمواج التي حملت السفن بين موانئه، ومعها حملت ثقافــات وأفكاراً وبشــراً، كما حملت الموارد والمنتجات المختلفة بين شواطئه، وبذلك تكوّنت حضارة مشتركة تجمع بين شماله وجنوبه وشرقــه، توحّــد بين الأوروبيـين والعرب، لذلك من الضـروري أن تعيــد هذه الشعوب بناء تــاريخ مشتــرك إنــساني، إجتماعي، إقتصادي وسياسي، فالعالم اليوم يعيش تحديات كثيرة، وشعوب حوض المتوسط مدعوة للإستجابة، وبحجم هذا التحدي.

 

المراجع:
• www.UN.org/Depts/Los/../Mediterranean-Sea.htm.
• www.wordiq.com/definition.Mediterranean_Sea.
• en.wikipedia.org/wiki/Mediterranean_Sea.
• ar.wikipedia.org/wiki/ الإتحاد من أجل المتوسط
• البحر والتاريخ: عالم المعرفة - العدد   314 - إبريل 2005، تحرير: إ. إ. رايس - ترجمة د. عاطف أحمد.