دراسات اقتصادية

كيف ينتقل لبنان من موقع ”المتلقي“ إلى موقع ”المبادر“ تحديات تثقل كاهله وفرص للنهوض لا تعوّض

يقف لبنان اليوم على أعتاب مرحلة دقيقة، تحمل في طياتها مزيجًا من الفرص الواعدة والتحديات الجسام. فانتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيسًا للجمهورية وتكليف القاضي نواف سلام لرئاسة الحكومة، يشق الطريق نحو إصلاحات شاملة تطال جميع مؤسسات الدولة، بدءًا من القضاء وصولًا إلى النظام الاقتصادي والاجتماعي والمالي، وهي تغييرات تم تسليط الضوء عليها في خطاب القسم الذي تناول معظم جوانب الحياة الوطنية.

لقد عاش اللبنانيون لحظات مفعمة بالفرح والقلق، وكأنهم يستعيدون عمرًا مضى بعد طلوع فجر جديد على جرود وطنهم الجريح.

لبنان الجديد سيولد من رحم هذه اللحظة التاريخية، معتمدًا على تجديد هيكلي شامل يعيد بناء أسس الدولة. ولكن، رغم التفاؤل الذي يعمّ النفوس، فإن الطريق نحو المستقبل يتطلب جهودًا منسقة، وإصرارًا، وصبرًا، وقيادة حكيمة. فالمرحلة المقبلة تتطلب أولويات حاسمة، وفي مقدمتها تثبيت وقف دائم لإطلاق النار وترسيخ الأمن لإعادة الاستقرار إلى البلاد. كما أن العودة الآمنة للنازحين إلى منازلهم وقراهم تتطلب تضافر الجهود، في حين أن تأمين تمويل قد يتجاوز 25 مليار دولار سيكون ضروريًا لإعادة إعمار البنية التحتية والمرافق الحيوية، وكذلك ترميم الوحدات السكنية والمواقع الأثرية، وتنظيف البيئة. علاوة على ذلك، سيتطلب التعافي الناجح مزيجًا جريئًا من الإصلاحات المالية والنقدية والمصرفية والاجتماعية لمواجهة الأزمات الاقتصادية والمؤسساتية العميقة التي يعاني منها لبنان منذ عقود.

 

تحديات الإصلاح وإعادة البناء في وجه الأزمات المتتالية

يرزح لبنان منذ عَقد ونيّف، تحت وطأة سلسلة من الأزمات المتتالية أضعفت بنيته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمؤسساتيّة إلى حدّ التدمير الكلّي، وأدّت إلى تدهور حاد في الوضع المعيشي للغالبيّة العظمى من السكان، وتراجع خطير في مؤشرات التنمية البشرية. وإلى الخسائر البشرية والمادية الفادحة ونتائجها النفسيّة طويلة الأمد، سبّب العدوان الإسرائيلي الأخير صدمة جديدة للاقتصاد اللبناني عرّت مجتمعًا مُصابًا ومأزومًا، ضعُفت قُدراته على مواجهة التحديات الداخليّة والخارجيّة. وإن عُرِف اللبناني بمقدرته على التحمّل والصمود في مواجهة الشدائد، وعلى استعادة زمام المبادرة والنهوض من جديد بعد كل صدمة، إلا أنَّ الحرب الأخيرة، إلى جانب سوء إدارة الأزمات المتلاحقة وانسداد أفق الإصلاحات السياسية والمالية، راكمت الخسائر وعمّقت مشهد الانكشاف الكامل للبنانيين ومؤسسات دولَتِهم، منذرةً بهشاشةٍ خطرة، في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات جيوسياسيّة عميقة تعيد رسم خرائط الأدوار في واحدة من أكثر مناطق العالم تعرّضًا للحروب والنزاعات، منطقة ازداد فيها الفقر من دون أن يشهد تراجعًا، رغم كلّ الجهود المبذولة.

لبنان، الذي لطالما اعتمد على المساعدات الخارجيّة والتحويلات المالية كمصادر أساسية للاستقرار الاقتصادي، يجد نفسه اليوم في مواجهة أزمة خانقة تهدّد بنيته الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتيّة. وفي ظلّ هذا الواقع المعقّد، تبرز أهميّة استعادة زمام المبادرة، ولكن وفق نهج مغاير يُعيد دور المؤسسات الدستوريّة إلى مسارها الصحيح، والاعتبار للجدارة في إدارة الشأن العام، والتنافسية لاقتصاد مترهّل، ويَضَع على مسار سريع وجدّي إصلاحات تطال مختلف جوانب الحوكمة، إصلاحات لن يتمكّن من دونها من جذب الموارد اللازمة لإعادة الإعمار ولا الحصول على المساعدات التنمويّة التي تدعم استقراره.

 

 أضرار أكبر من المتوقّع

إنّ خسائر العدوان أكبر بكثير من المتوقّع، ومن المنتظر أن تتجاوز أرقام الخسائر والأضرار المباشرة في البنى التحتية تقديرات البنك الدولي لشهر أكتوبر 2024 والتي وصلت إلى نحو 8.5 مليار دولار1، أي ما يعادل نصف الناتج المحلي الإجمالي. وتكشف هذه الأرقام شدّة الحرب وخطورتها على الآفاق الاقتصادية، وعلى قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية. في قطاع الإسكان وحده، تسببت الحرب في تدمير أو تضرر أكثر من 100 ألف مسكن بشكلٍ كامل أو جزئي، وبتكلفة قد تصل إلى 3.2 مليار دولار. أمّا الخسائر الاقتصادية فقُدّرت بـ 5.1 مليار دولار أميركي، وهذه تقديرات أولية مرشّحة للارتفاع بعد إجراء مسوحات أكثر دقّة.

أما على الصعيد البشري، فقد كانت التكاليف فادحة للغاية، حيث سقط أكثر من 4,000 ضحية، وأصيب أكثر من 16638 آخرين، في حين اضطر أكثر من 1,3 مليون شخص إلى النزوح من ديارهم. ولعلّ الأشدّ إيلامًا هو أنّ العديد من هؤلاء يحملون آثارًا جسدية ونفسية ستظلّ ترافقهم طوال حياتهم. ولم يكن الأطفال وكبار السن والنساء وذوو الإعاقة واللاجئون إلّا الفئات الأكثر تعرضًا للمخاطر، ممّا  يضاعف من حجم المعاناة الإنسانية.

إضافةً إلى التكلفة البشرية الكبيرة، فقد دُمّرت أحياء سكنية ومجتمعات بالكامل، كما تعرّضت مواقع التراث الثقافي لأضرار بالغة لم تُقَيَّم آثارها بعد، فضلًا عن الأضرار المعنوية التي يصعب تقديرها. ولهذه المواقع قيمة رمزية وتاريخية عميقة في الذاكرة الجماعية، وهي تمثّل روابط ثقافية واجتماعية تشكّل جزءًا أساسيًا من هوية البلاد. الثابت الوحيد في هذا السياق هو أن هذه الحرب ستظلّ حاضرة في الوجدان اللبناني لفترة طويلة، وستترك بصمات عميقة في النسيج الاجتماعي والثقافي وستؤثر في ديناميكيات المجتمع على المديَين المتوسط والبعيد.

 

اقتصاد يئنّ زاد العدوان من وطأة تدهوره

الاقتصاد اللبناني، الذي كان قد تعرّض لانهيار مالي كارثي في العام 2019، يواجه الآن تحدّيات أكبر وأخطر. فقد أدّى العدوان إلى خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 6.6- % للعام 2024، وفق تقرير البنك الدولي، في حين قدّرت الأمم المتحدة2 هذا الانخفاض بـ 9.9- %. أما التوقعات على المدى المتوسط ، فهي أكثر تشاؤمًا، إذ تشير التقديرات إلى انكماش إضافي مستمر بنسبة 2.28- % في العام 2025 و2.43- % في العام 2026. هذه المؤشرات تنذر بدخول الاقتصاد اللبناني في مرحلة تباطؤ طويل الأمد3، وهو تحوّل مفاجئ يقطع تمامًا نسيج الآمال التي كانت معلّقة على نمو بنسبة 0.9 %  قبل اندلاع الحرب .

إنّ تدهور النمو يفاقم الانكماش المستمرّ على مدى السنوات الخمس الماضية، والذي تجاوز 34- % من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، متأثرًا بالأزمات المتتالية التي مرَّ بها لبنان، بدءًا من تداعيات الحرب السورية، مرورًا بجائحة كورونا، ثم انفجار مرفأ بيروت والانهيار المالي، وصولًا إلى تداعيات العدوان الأخير.  هذا الواقع القاسي يُنذر بتفاقم معاناة أكثر من 80 % من السكان الذين يُتوقع أن يصبحوا أكثر فقرًا وهشاشة، وهو ما سيؤثر بشكلٍ مباشر على قدرات الدولة المالية وأداء مؤسساتها الحكومية، ويحدّ من قدرتها على الاستجابة الفعّالة للأزمات. ومن المتوقّع أن تستمرّ هذه التأثيرات لفترة طويلة، ممّا يستدعي تدخلات عاجلة من قبل الحكومة اللبنانية والمجتمع الدولي للتخفيف من تداعياتها السلبية، والعمل على إيجاد حلول فعّالة لإعادة بناء الاقتصاد، ودعم استقرار المجتمع اللبناني على مختلف الأصعدة.

 

القطاعات الاقتصادية

في النظرة الاقتصادية القطاعية، تَسبّب تعطيل طرق التجارة وسلاسل التوريد إلى جانب القصف المباشر وتراجع الطلب الاستهلاكي، في إغلاق أو تعليق العديد من الأنشطة الإنتاجية في جميع القطاعات. وكان قطاع التجارة من أكثر القطاعات تأثرًا، إذ قُدّرت خسائره بنحو ملياري دولار أميركي4، نتيجة لعدة عوامل منها نزوح الموظفين وأصحاب الأعمال، وتعرُّض حوالى 11 % من المنشآت التجارية في المناطق المتأثرة بالحرب. وعليه، يُتوقع أن تشهد الصادرات انخفاضًا بنسبة 1.25 % في العام 2025، وبنسبة 1.4 % في العام 2026، في حين يُتوقع أن تنخفض الواردات بنسبة 3.1 % في العام 2025 و2.7 % في العام 2026، نتيجة لتباطؤ النشاط الاقتصادي واستمرار اضطرابات حركة التجارة5.

أما في القطاع الصناعي، فقد توقّف أكثر من ربع المؤسسات الصناعية عن العمل، لا سيما في المناطق الجنوبية والبقاع والضواحي الجنوبية لبيروت، التي تضم أكثر من ثلث سكان لبنان وقوة العمل فيه6. في حين شهد قطاع السياحة تراجعًا كبيرًا، إذ انخفضت إيرادات القطاع إلى 2 مليار دولار في العام 2024، مقارنةً بـ 6 مليارات دولار في العام السابق7. وقد أسفرت العديد من دعوات الإخلاء وتحذيرات السفر من قبل الدول الأجنبية عن انخفاض حاد بنسبة 75% في أعداد الوافدين إلى لبنان، بينما لم تتجاوز نسبة إشغال الفنادق 10% في صيف 2024.8

في القطاع الزراعي، قُدّرت الخسائر بنحو 1.2 مليار دولار، في وقت تسبب الاستهداف المنهجي للأصول الزراعية في تهديد الأمن الغذائي وسبل العيش في المجتمعات الريفية، ما يزيد من تعقيد جهود التعافي، خصوصًا في منطقة البقاع التي تُعدّ مركز الثقل في الإنتاج الزراعي. أما البيئة، فلم تسلم بدورها من آثار العدوان، حيث تضرّرت الغابات نتيجة التلوث بالفوسفور الأبيض والقذائف الحارقة، التي استُخدمت خلال العدوان الإسرائيلي، ممّا أدى إلى تضرر نحو 13% من الغابات، و16% من الأراضي العشبية، و17% من النظم البيئية النهرية، بالإضافة إلى تلوث السواحل في محافظة الجنوب9.

 

 تراجع ملحوظ في فرص العمل فيما التضخّم يزداد

لقد انعكس انكماش الاقتصاد اللبناني بشكلٍ حاد على سوق العمل، وتشير التقديرات إلى فقدان نحو 166 ألف فرد لوظائفهم خلال فترة العدوان، مع تركُّز هذه الخسائر بشكلٍ خاص في مناطق الجنوب والبقاع والضواحي الجنوبية لبيروت. هذا الوضع أسفر عن انخفاض في المداخيل يقدّر بنحو 168 مليون دولار أميركي10. أما في منطقة بيروت الكبرى، فقد بقي التأثير محدودًا نسبيًا، إذ أظهر استطلاع أجرته شركة «إنفو برو ريسيرش»11 على أكثر من 100 شركة متوسطة وكبيرة أنّ أقل من 10% من الشركات قد قلّصت الأجور، في حين اضطرت 4% فقط منها لتسريح موظفين. بالمقابل، خفّضت 26% من الشركات ساعات العمل، بينما زادت 20% من الشركات اعتمادها على العمل عن بُعد.

تكشف الدراسة أيضًا حجم الخسائر المالية الكبيرة التي تعرّضت لها الشركات، إذ أفادت نسبة 64 % منها بأنها خسرت ما معدّله 40 % من إيراداتها في أيلول 2024 مقارنة بشهر آب، في حين انخفضت إيراداتها بنسبة 56 % مقارنة بنفس الشهر من العام السابق. وإذا لم تُتخذ سياسات تدخُّل سريعة وفعّالة، من المتوقع أن تعمد العديد من الشركات إلى تخفيض الأجور وتسريح الموظفين، ممّا سيؤدي إلى زيادة معدلات البطالة التي يُتوقع أن تصل إلى حوالى 33%.12 إلى جانب هذه التحديات، ما زال التضخم في ارتفاع مستمرّ، حيث وصل معدله السنوي إلى 221.3 % مقابل 171.2 % في العام 2022 أي بزيادة نسبتها 6 % في مؤشر أسعار المستهلكين. وفي ظلّ هذا الوضع، تراجع الاستهلاك الخاص بنسبة 15 %. كما يُتوقع أن يشهد سعر الصرف انخفاضًا إضافيًا، ممّا يزيد من الضغوط على الاقتصاد اللبناني في المستقبل القريب.

إنّ هذه المؤشرات الاقتصاديّة المقلقة تضع الاقتصاد اللبناني في وضع حرج، ما يستدعي اتخاذ إجراءات عاجلة على مختلف الأصعدة لتخفيف الأعباء عن الأفراد والشركات، ودعم استقرار سوق العمل والنشاط الاقتصادي بشكلٍ عام.

 

 الخدمات الأساسية

لم تكن الخدمات الأساسية، مثل التربية والصحة، بمنأى عن آثار العدوان، فقد تسببت الحرب في خسائر تقدر بنحو 5.1 مليار دولار على أقل تقدير، ما يهدد بشكلٍ كبير قدرة هذه القطاعات الحيوية على تقديم خدماتها الأساسية للمواطنين في فترة ما بعد الحرب. هذه الخسائر تزيد الأعباء على الدولة، التي تعاني أصلًا محدودية مواردها وتضاؤل خياراتها المالية.

في قطاع التعليم، ووفق وزارة التربية والتعليم العالي، فقد تمّ تهجير نحو 545,000 طالب، منهم 400,000 طالب لبناني، بينما بات أكثر من 45,000 معلم ومعلمة غير قادرين على أداء مهماتهم. كما قُدّرت الخسائر المتعلقة بالرسوم الدراسية والمدفوعات الخاصة والتعليم المؤقت على مدى 12 شهرًا بحوالى 215 مليون دولار13، وهو ما يعكس تأثيرًا كارثيًا على استمرارية التعليم في البلاد.

أما في قطاع الصحة، فقد تعرّض 13 مستشفى للتدمير، وتمّ إغلاق 100 مركز رعاية صحية أولية، ممّا  ترك عددًا لا يُحصى من الأسر محرومة من الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية. في الوقت نفسه، أصبح حوالى 36 % من المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية غير قابلة للعمل جزئيًا أو كليًا، لا سيما في محافظات الجنوب والنبطية والضواحي، ممّا يفاقم الأزمة الصحية في تلك المناطق.14 إنّ تدمير هذه البنى التحتية الحيوية يضع النظامين التربوي والصحي في لبنان أمام تحديات هائلة، ويتطلب استجابة عاجلة مع ضرورة توفير الدعم الدولي للمساهمة في جهود التعافي وإعادة الاستقرار.

أما بالنسبة إلى دمار البنية التحتية في قطاعات المياه والكهرباء والاتصالات فمن المتوقّع أن تشكّل ضغطًا إضافيًا على قدرة الدولة على تقديم الخدمات الحيوية لمواطنيها في مرحلة ما بعد الحرب، علمًا أنّ الأضرار شملت محطات تنقية مياه الشرب، ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي، وآبار المياه العامة، ومحطات الضخ، وخطوط النقل، وخزانات المياه، وشبكات التوزيع، بالإضافة إلى أنظمة الطاقة الشمسية التي كانت تزوّد هذه المنشآت الطاقة. وقد تجاوزت الخسائر في هذه القطاعات 200 مليون دولار، في حين انخفضت إيرادات مؤسسات المياه بأكثر من 30 مليون دولار15. أما في قطاع الكهرباء، فقد قُدّرت الخسائر في البنية التحتية بين 300 و400 مليون دولار، فيما تراجعت الإيرادات بنحو 130 مليون دولار. وفي قطاع الاتصالات، أدّت الحرب إلى تعطيل أكثر من 350 من محطات الاتصالات بشكلٍ كامل أو تضررها جزئيًا16. وتقدّر الخسائر الإجمالية لمؤسسة «أوجيرو» ومشغلي الهواتف المحمولة «تاتش» و«ألفا» بحوالى 67 مليون دولار17.

 

التبعات المالية والحاجات التمويلية الملحّة

كما هو الحال في الاقتصاد كذلك في المالية العامة، ترتَسِم تحدّيات خطيرة في الأفق. إذ يُتوقع أن تنخفض الإيرادات بنسبة 9.16% في العام 2024، مع استمرار هذا التراجع في الأعوام 2025 و2026، ممّا سيزيد من احتياجات التمويل بنسبة 30 %. هذا التدهور في الإيرادات سيزيد ضعف الحكومة على تمويل الخدمات الأساسية للسكان، ما سيجبرها على اللجوء إلى مزيد من الاستدانة18. ومن المرجّح أن تظلّ احتياجات التمويل مرتفعة، إذ يُتوقع أن تصل إلى 21% من الناتج المحلي في 2025، وترتفع إلى 27.5% في 2026، ممّا  سيزيد من تعقيد الوضع المالي ويضع الحكومة أمام تحديات كبيرة. يتّفق الخبراء على أنّ موازنة 2025 المقترحة باتت تفتقر إلى الواقعية، خصوصًا في ما يتعلّق بالإيرادات المتوقعة، كانت سابقًا تُعتبر طموحة. وفي هذا السياق، من الضروري إعادة تقييم السياسات المالية والضريبية على أسس أكثر واقعية لضمان الاستدامة المالية، وبخاصة في ظلّ توقعات بانخفاضٍ حاد في إجمالي الاستثمارات، بما في ذلك الاستثمارات الخاصة، ما يشكل تهديدًا كبيرًا للنمو الاقتصادي والقدرة على التوسع في مشاريع التنمية.

عبء الحرب على الاقتصاد اللبناني المنهك وعلى المالية العامة، التي تعتمد بشكلٍ كبير على المساعدات الدولية والاستدانة، يعدّ هائلًا. وفق تقديرات الأمم المتحدة، ستحتاج الأسر النازحة إلى حوالى 250 مليون دولار شهريًا، أي نحو 3 مليارات دولار سنويًا، لتلبية احتياجاتها الأساسية من الغذاء والرعاية الصحية والمأوى. ومع ذلك، لم يتجاوز ما تمّ تلقّيه حتى الآن 260 مليون دولار، في حين تمّ التعهد بتقديم مليار دولار أخرى في مؤتمر باريس الذي عُقد في سبتمبر 2024. ورغم هذه التعهدات، تبقى تلك المساعدات، إذا تم تلقيها بالكامل، غير كافية على الإطلاق لمواجهة الاحتياجات الطارئة، إذ من المتوقع أن تتجاوز فاتورة إعادة الإعمار 20 مليار دولار، في وقت كانت تكلفة إعادة الإعمار بعد حرب 2006 قد تخطت الـ 10 مليار دولار.

هذه الأرقام تبرز حجم الأزمة المالية والإنسانية، وتؤكد الحاجة الماسّة إلى خطة إنقاذ شاملة، تعالج القضايا المالية والإنمائية على المدى القصير والطويل، وتضمن استدامة الموارد لتلبية الاحتياجات الأساسية والبدء في عملية التعافي الاقتصادي.

 

خسارة أصول لبنان التنافسية صعبة التعويض

إنّ الأزمات التي اجتاحت البلاد والعدوان الأخير، لم تقتصر آثارها المدمّرة على البنية التحتية والمرافق الحيوية فحسب، بل قوّضت أيضًا أحد أهم أصول لبنان الاستراتيجية، ألا وهو رأس المال البشري. فقد أدّت الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي تفاقمت بفعل الحرب، وعدم السير في إصلاحات جدية، والانكفاء عن معالجة تدهور الرواتب والأجور في المؤسسات الحكومية، إلى هجرة بعض الكفاءات أو انكفائها عن العمل والإنتاج والإبداع. وهو ما أسهم في دفع الدولة إلى حافة الانهيار الشامل.

هذا التدهور المؤسسي لم يكن نتيجة ظرف طارئ، بل جاء نتيجة مسار طويل من التقويض الممنهج استمر لسنوات. فقد اعتمدت القوى المختلفة «لا-سياسات» متعمَّدة، ساهمت في إضعاف المؤسسات الحكومية وزعزعة قدرتها على العمل بفعالية، ممّا أدى إلى تآكل أسس الدولة وأجهزتها الحيوية.

وتزداد التحديات تعقيدًا بفعل الإفراغ المؤسسي هذا، مع صعوبة عملية التعافي وإعادة بناء رأس المال البشري والمادي، وهي عملية دقيقة تتطلب جهودًا استثنائية وخطة طويلة المدى، لا ضمانات لنجاحها في ظلّ الانقسامات العميقة التي تعصف بالبلاد والإصرار على التحكّم بمفاصل الدولة ومواقع القرار فيها. إنّ الواقع الحالي يشكل عقبة كبيرة أمام أي محاولة جدية للانتعاش، ويستدعي توحيد الجهود الوطنية والمجتمعية في سبيل بناء مستقبل مستدام للبنان.

 

 التهميش أو الريادة: مسارات أربعة

لبنان أمام مفترق طرق حاسم: إما أن يستمر في أنماط التهميش والانقسام، أو أن يرتقي ليكون قائدًا في بناء مستقبله وشريكًا قويًا في بناء مستقبل المنطقة بأكملها. لذلك، يحتاج إلى مزيج من جرأة وقدرة على تنفيذ إصلاحات بنيوية تتيح له معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية العميقة التي يعاني منها. ويحتاج أيضا إلى فريق عمل محترف، منفتح على التجربة العالمية، مشهود له بإنجازات حسية، يخطط ويدير باستخدام أدوات عصرية ونهج يتسم بالشفافية والنزاهة. فالتحدي الأساس يكمن في استعادة الثقة في مؤسسات الدولة، محليًا ودوليًا، ثقة تآكلت عبر عقود من الفساد المستشري، والمسافة عن الجوار العربي، والانقطاع عن المسار التقني الدولي، والامتناع عن مواكبة المتطلبات العالمية. فوفق مؤشر الفساد العالمي للعام 2023، احتل لبنان المرتبة 155 من أصل 180 دولة، ممّا جعله من أكثر الدول فسادًا في العالم. وهذا المؤشر لا يُعبّر فقط عن الفشل في محاربة الفساد، بل يعكس أيضًا عمق الأزمة المؤسسية التي تعصف بالبلاد، ويضع تحديات ضخمة أمام أي محاولة جادة لإعادة بناء الدولة.

 

مسارات لا مناص من خوضها نشدّد على أربع منها:

1 . أولها، هو إعادة الانتظام إلى عمل المؤسسات الدستورية بشكلٍ عاجل، لاستعادة الاستقرار المؤسسي وإعادة تفعيل آليات صنع القرار، يليه تشكيل حكومة تتمتع بالكفاءة والمصداقية للدفاع عن المصالح اللبنانية على الصعيدين الداخلي والخارجي. ويترافق ذلك مع إطلاق مسار شامل للتعافي السياسي يستند إلى احترام الدستور والتطبيق الكامل لاتفاق الطائف، ويولي اهتمامًا خاصًا لتنشيط الحياة الديمقراطية كوسيلة لمعالجة الانقسامات المجتمعية العميقة، مع العمل في الوقت نفسه على تعزيز السياسة الخارجية، وإعادة تموضع لبنان كلاعبٍ فاعل في محيطه العربي، واعتماد الحياد تجاه النزاعات الإقليمية. الهدف هو إعطاء المؤسسات القدرة على رسم الدور المستقبلي للبنان في محيط متغيّر.

2 . المسار الثاني هو مجموعة الإصلاحات ذات الأولوية ومنها إصلاح المالية العامة، وخصوصًا إصلاح الموازنة والمحاسبة العامة مع إعادة رسم نظام ضريبي منصف بآليات تصاعدية يسمح بتعزيز الإيرادات وإيجاد فسحة مالية تموّل نظامًا حقيقيًا للحماية الاجتماعية. ويتطلّب ذلك الاستثمار رقمنة الأنظمة واستخدام التكنولوجيا مع إصلاح جذري لقطاع الكهرباء الذي يمثل عبئًا ثقيلًا على المالية العامة للدولة. نشدّد على إصلاحات المالية العامة لأنّها حجر الزاوية في عملية النهوض، ولأنّ إعادة الانتظام المالي تؤسس للانضباط والمسؤولية في إنفاق المال العام وتحصيله، ولإدارة استراتيجية لأصول الدولة ومواردها الطبيعية من نفط وغاز ومياه، ويمهّد السبيل لمنظومة متكاملة من إدارة المخاطر المالية والرقابة والمساءلة المتوافقة مع المعايير الدولية.

3 . توازيًا مع المسار الثاني يأتي إصلاح نظام الحماية الاجتماعية الذي عانى تاريخيًا من التجزئة وعدم العدالة، وهو أولويّة في ظلّ الوضع الحالي. الهدف هو إرساء منظومة حديثة فاعلة ومستدامة ماليًا تسمح بالتخلي التدريجي عن برامج استهداف الفقر لمصلحة سياسات الحد الأدنى للحماية الاجتماعية، وتوسيع نطاق التغطية ليشمل الفئات المهمشة، ويولي اهتمامًا خاصًا بالأطفال وكبار السن والعاجزين عن العمل، مع التركيز على بناء نظام أكثر مرونة وقدرة على تلقّي الصدمات و الاستجابة للأزمات المستقبلية. كما يجب إعطاء الأولوية لإصلاح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ليستوعب العاملين في القطاع غير الرسمي ويضمن وصول غير المواطنين إلى الخدمات الأساسية. فنمو اقتصادي يقوده القطاع الخاص وعدالة اجتماعية من خلال منظومات حماية اجتماعية متكاملة هما ما يحتاج إليه لبنان للنهوض اليوم.

4 . في مسار الإصلاح المالي والمصرفي، تبرز أولوية معالجة الأزمة النقدية بما في ذلك إصلاح مصرف لبنان والهيئات التابعة له لاستعادة الاستقرار النقدي، وإعادة الالتزام بالمعايير الدولية. ويرتبط ذلك بضرورة إقرار قانون هيكلة المصارف الذي من شأنه إعادة تنظيم القطاع المصرفي وفق أسس سليمة تحمي حقوق المودعين وتعيد الثقة بالنظام المالي. وفي سياقٍ متصل، تُعدّ إعادة هيكلة الديون خطوة محورية، وبخاصة في ما يتعلّق بسندات اليوروبوند. اقتصاد البلاد يحتاج إلى بناء نظام مصرفي جديد يلتزم المعايير الدولية، ويتقن إدارة المخاطر، وينشط في تمويل اقتصاد غير نقدي، وينأى بنفسه عن التحاصص السياسي الذي قوّض هذا القطاع.

إنّ النجاح في هذه المرحلة الحاسمة يتطلب تحويل الأزمات إلى فرص، من خلال حوكمة رشيدة وأسس مؤسسية قوية تعيد لبنان إلى خارطة النمو المستدام والعدالة الاجتماعية.

 

مُبادر أو متلقّي؟

ختامًا، وفي ظلّ المتغيرات السريعة والعميقة التي تعصف بالمنطقة، لا يمكن مقاربة المرحلة المقبلة دون إعادة التفكير في دور لبنان الاستراتيجي وموقعه الحيوي في محيطه الإقليمي الأوسع. فالعلاقة مع محيطه، التي تؤثر بشكلٍ مباشر عليه، ومع شركائه في الضفّة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، تظلّ محورية في تحديد مصيره. ومن الواضح أنّ الدور الذي كان يُناط به منذ العام 1945 وحتى بداية الألفية الثانية قد شهد تحولات جوهرية، ما يستدعي استجابة جديدة وجريئة.

لقد حان الوقت لكي ينتقل لبنان من موقع «المتلقي» إلى موقع «المبادر». وبدلًا من أن يكتفي بأن يكون مجرد لاعب في محيطه، يمكنه أن يساهم في إعادة تشكيل هذا المحيط بما يضمن له أمنه واستقراره وازدهاره المستدام. عليه أن يرسم مستقبله بيديه، ويُعيد صياغة دوره الإقليمي انطلاقًا من موقعه الجغرافي الفريد وميزاته التنافسية وقدراته الكامنة. فهو يمتلك ثروات طبيعية وبشرية هائلة يمكن أن تكون أساسًا لبناء اقتصاد قوي ومتنوع. لا يمكن العودة إلى الأدوار التقليدية، بل في بناء استراتيجيات عصرية تعزز موقعه وتُسهم في إعادة بناء جسور الثقة مع محيطه العربي والدولي. إنّ هذه الرؤية تتطلب حوكمة رشيدة، وتوافقًا داخليًا، واستثمارات طويلة المدى.

اللحظة تاريخية من دون شكّ، تحمل في طيّاتها فرصًا لا تُعوض ومخاطرَ جسامًا. ولا بد من أن نغتنمها بحكمة وتصميم، لتوجيه لبنان نحو المستقبل الذي يستحقه، بعيدًا من القوالب القديمة وأوهام الركود.