- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
شهدت سوريا خلال العقد الأخير تحولات جذرية أثرت في موازين القوى في الشرق الأوسط، ما فتح المجال أمام العديد من الأطراف الإقليمية والدولية للتدخل في شؤونها. من بين هذه الأطراف، برزت ”إسرائيل“ كلاعب رئيسي استغل الأزمة السورية لتحقيق أهدافه الاستراتيجية، سواء من خلال العمليات العسكرية أو التحالفات السياسية. تسعى ”إسرائيل“، وسط هذه الفوضى، إلى إعادة تشكيل المنطقة بما يتناسب مع مصالحها، مستغلةً تطورات الأحداث في سوريا والتبدّلات في موازين القوى.
لا شك في أنّ «إسرائيل» راضية تمامًا عن التقلبات التاريخية الكبيرة التي تشهدها سوريا، ولا يعود ذلك، بشكلٍ خاص، إلى استبدال النظام الذي حكم سوريا لأكثر من خمسين عامًا، وإنّما إلى الفرصة التي أتاحت للجيش الإسرائيلي تدمير كل القدرات الاستراتيجية في الدولة المسماة «قلب العروبة النابض».
فـ«إسرائيل» لا تريد أن تظل مجرّد مراقب للأحداث، بل تسعى لأن تكون عاملًا رئيسًا في رسم مستقبل البلد الجار. وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، نفّذ العدو الإسرائيلي أكثر من 300 غارة جوية على الأراضي السورية، ما أسفر عن تدمير أهم المواقع العسكرية، بما في ذلك مطارات، وأسراب طائرات، ورادارات، ومحطات إشارة عسكرية، ومستودعات أسلحة وذخيرة، ومراكز أبحاث علمية، وأنظمة دفاعات جوية، فضلًا عن منشآت دفاع جوي وسفن حربية في ميناء اللاذقية في شمال غرب البلاد. ويُسلَّط الضوء، بشكلٍ خاص، على منظومة صواريخ أرض-جو هي الأكثر كثافة ونوعيّة في العالم، الأمر الذي خلق واقعًا هو الأول من نوعه في الشرق الأوسط منذ نحو 60 عامًا، يكون فيه لسلاح الجو الإسرائيلي التفوّق الكامل والمطلق فوق سماء معظم الدول في الشرق الأوسط، مثل لبنان، سوريا، العراق، إيران واليمن، كجزءٍ من استراتيجية إسرائيلية تسعى إلى تحقيق تغيير جذري يمهّد لولادة شرق أوسط جديد ذي هيمنة إسرائيلية كاملة بالتعاون مع قوى دولية.
يرى القادة الإسرائيليون الحاليون أنّ «ما حصل في سوريا هو بمنزلة أهم تعويض عن الانتكاسة السياسية والمعنوية التي تعرضوا لها في حرب غزة». ويعتبر هؤلاء أنّ سقوط النظام في سوريا وصمت المدافع في لبنان وفّر لهم فرصة تاريخية، ليس لاحتلال مناطق حيوية في سوريا وتدمير كل قدراتها العسكرية فحسب، وإنما أيضًا لإسقاط محور المقاومة وتفكيك دائرة النار الإيرانية التي كانت محيطة بأعناقهم، وهذا هو الأكثر أهمية في نظرهم. كما أنّهم يرون في ذلك تعزيزًا لمكانتهم الجيوسياسية والجيوستراتيجية في المنطقة، كما يعتبرون أنّ «إسرائيل» أصبحت لاعبًا مهمًا في السياسة الداخلية السورية ليس ضمن توازنات إقليمية فقط، وإنما من خلال تحالفات مع الأقليات العرقية والطائفية في سوريا والمنطقة، وهي استراتيجية عملت «إسرائيل» على بلورتها ورعايتها واستغلالها على مدى عقود منذ أيام بن غوريون.
ضمن هذه الرؤية، أقدمت حكومة نتنياهو المتطرفة، على مخالفة صريحة لاتفاق فصل القوات الأممي المبرم منذ العام 1974، من خلال احتلال جبل الشيخ السوري الاستراتيجي، إلى جانب شريطٍ عازلٍ بطول 80 كيلومترًا وعرض يصل إلى 20 كيلومترًا في بعض المقاطع. وسيتوقف مصير الجولان وجبل الشيخ إلى حدٍ كبير على التسوية النهائية للحرب الجارية ونتائجها وماهية شكل الدولة السورية بعدها: سوريا تحت حكم مركزي، أم سوريا فيدرالية، أم دويلات طائفية وعرقية ومناطق فوضى غير مسيطَر عليها؟
تحديات عديدة وقاسية
يتخوّف الإسرائيليون من تحوّل سوريا إلى دولة دينية أصولية يحكمها الاستبداد وفوضى السلاح والميليشيات. وهم يقولون، في هذا السياق، إنه لا يمكنهم أن يتعايشوا مع داعش على حدودهم، وهي الفرضية التي اعتمدها الجيش الإسرائيلي ليبرر سيطرته بسرعة على المنطقة العازلة، معلنًا عزمه البقاء فيها طوال الشتاء القادم على أقل تقدير، علمًا أنّ «إسرائيل» كانت قد دعمت جبهة النصرة وأيّدتها وعالجت جرحاها بشكلٍ مدروس في أثناء الحرب السورية. ورغم ذلك، فهي ترى أن «هيئة تحرير الشام» ليست نظامًا يمكنها أن تركن إليه، وهي تحذّر الولايات المتحدة الأميركية، وربما دولٌ عربية «معتدلة»، من التعامل معه. وقد أعربت مرارًا عن مواقف مشابهة ولكن أشدّها صراحةً كان موقف وزير الخارجية جدعون ساعر الذي قال: «إنّ الحكم الجديد في دمشق ليس سوى نسخة عن الحكم الذي كان قائمًا في إدلب... وحكومة الجولاني الجديدة تضم إسلاميين متطرفين. إنّهم يسوّقون أنفسهم لدى الغرب كما لو أنهم معتدلون، ودول الغرب لها مصلحة في قبول هذا التوصيف، لأنّها في نهاية المطاف تريد حكومة مقبولة في دمشق كي تستطيع إعادة اللاجئين إلى سوريا من بلادها». وثمة في «إسرائيل» من يحذرون، من الآن، من احتمال فتح جبهة مقاومة جديدة ضد القوات الإسرائيلية في الأراضي السورية المحتلة حديثًا. وبين هؤلاء طبعًا ساسة وعسكريون يتوجسون خشية من النّهَم اليميني الشوفيني الجامح نحو إدامة الحرب والتوسع وعدم التطلع نحو تحقيق أي سلام في أي اتجاه كان. في السياق نفسه، يرى باحثون إسرائيليون أنّ «إسرائيل» تتصرف حاليًا بوحشيةٍ وقصر نظر، إذ تقوم باحتلال أراضي الغير بالقوة وتضع نفسها في موقف المعادي للحكم الجديد الذي لم يبدُ منه حتى الآن سوى المواقف اللينة، وبالتالي يرى هؤلاء أنّه كان يجب على قادة الدولة، بعد إسقاط النظام، تهنئة الشعب السوري على الفور والإعلان عن سرورهم لإقامة علاقة سلام وأخوة معه. ويتابع هؤلاء بأنّ التفكير الاستراتيجي السليم يقضي باحتضان سوريا الجديدة ودعوتها للانضمام إلى «الكتلة العربية المعتدلة»، لأنّ هذه المقاربة يمكن أن تساعدها في إعادة إطلاق «التحالف الإبراهيمي» وبلورته، بالإضافة إلى تعزيز التقارب والتطبيع مع السعودية. كما قد تسهم حتى في تخفيف مشاعر الاشمئزاز من «إسرائيل» في العالم. ويأسف هؤلاء الباحثون لأنّ المستوى السياسي الحالي في «إسرائيل»، الذي يمثله كل من نتنياهو وسموترتش وبن غفير، يتسم بالدموية وقصر النظر، ممّا يعني أنّ أجهزة الأمن ستوجّه السياسة. ويرون أنّ على قادة هذه الأجهزة التخلي عن عاداتهم في النظر لأي تطور عبر فوهة البندقية، واستبدال ذلك بالتفكير الاستراتيجي وتلافي التورط العميق في الداخل السوري مثلما حصل في لبنان في العام 1982. أما الحلم الإسرائيلي القديم بالتجول في أسواق دمشق، فيجب وضعه جانبًا، مع الاعتراف بأنّ تحقيقه سيستغرق وقتًا طويلًا، وستطل في المستقبل تحديات عديدة وقاسية في الطريق إلى العاصمة السورية.
تركيا لاعب جديد في التنافس الإقليمي
يبدو أن الوضع في سوريا ما زال معقدًا، مع استمرار «إسرائيل» في تنفيذ استراتيجياتها العسكرية والسياسية لتحقيق أهدافها الإقليمية. وفي ظل التحديات الداخلية والخارجية الهائلة التي تواجهها سوريا، يبقى الحل مرهونًا بتضافر الجهود الدولية والإقليمية لدعم بناء دولة موحدة ومستقرة، مع ضرورة مواجهة العدوان الإسرائيلي المستمر الذي يزيد من معاناة الشعب السوري.
إنّ «إسرائيل» على قناعة بأنّ تركيا تسعى لملء الفراغ الذي خلّفه تراجع دور إيران وروسيا في سوريا، وذلك من خلال دعم ميليشيات محددة وتنسيق مع قوى إقليمية ودولية ذات مصالح مشتركة. وفي التحليل الإسرائيلي المعمق، تُعد تركيا الرابح الأكبر من مجمل التطورات الجارية في سوريا. وما يثير قلق «إسرائيل» بشكلٍ خاص، هو أنّ تركيا ترنو للعب دور مؤثر في المنطقة العربية انطلاقًا من سوريا يعارض مصلحة «إسرائيل».