- En
- Fr
- عربي
حبر الحرب
فجور الصواريخ الهائل، اختلاجات الجدران، غمغمات الحجارة، دويّ، ترتجّ على وقعه الأرض بيوت كانت مطمئنّة، باغتتها أنياب حديديّة وأطبقت عليها فتهاوت. إنها الحرب: تسيل تفاعلاتها على الكتابة الشعريّة والنثريّة تأملات في لعبة الموت والدمار، تأخذ منحنى دراماتيكيًّا يندرج فيه الغضب والأسى، يتّقد تفاعلًا في أعماق الروح، ويهبّ قويًّا في الكلمات. كلمات كغلالات وجدانيّة تستوعب الحزن والذكرى، وتؤكّد على تعلّق الكاتب بطاقتها التخيّليّة والتصاوير التي ترسمها على مشاهد الأنقاض. كلمات عن أحبّاء قتلوا، وعن بيوت لم تعد هنا. حين ينظر إليها الكاتب من بعيد، يرى المسافة كما لو أنها منفى، والمكان الذي زالت ملامحه كأنما كفنٌ أحاط به. الكلمات نسيج لا يضمّد جرح الانتهاك، ولا يمحو ما تخلّفه الحرب من ندوب، لكنها لفرط الأسى تتحوّل أعمدةً أعلى من الجدران التي دُمّرت، بل أسوارًا تحول دون امتداد النزيف إلى باطن الفكر.
قبل الأوان سقطت الثمار عن أشجارها في الصمت المريب، تبعثرت الزهور النديّة كأوراق النعي. تراكمت في روح الكاتب – الشاعر المشاعر الممزوجة برائحة الأرض وعطر الأحبّة، وتحوّلت إلى أفكار يكتبها بإحساسه الملتصق ببيته وأرضه، وبرؤياه المحمولة على أجنحة المخيّلة وميض عابر يتقاطع مع وميض آخر، يتعانقان في لحظة الإضاءة، ويبتدعان تفاعلًا متماثلًا ومكثّفًا. في ما يأتي نماذج من «حبر الحرب» الأخيرة التي شنّها العدو على لبنان. شوقي بزيع وزاهي وهبه وحسن المقداد، كتبوا لـ «الجيش» نصوصًا تعكس صدوع الروح لكنّها تهجس بالأمل.
شوقي بزيع: بيوتنا جلد الحياة الآخر
بيوتنا جلد الحياة الآخر والحنين الذي يتبعنا. ليس من المبالغة في شيء القول بأنّ البيوت هي جسد الإنسان وروحه في الآن ذاته. إنّها جلد الحياة الآخر باعتبار أنّ الجلد الأول يخفي وراءه أحشاءنا وأكبادنا ونبضات قلوبنا، وأنّ الجلد الثاني الذي هو أحجار البيوت وإسمنتها وطينها، يخفي أيضًا نبضاتنا وذكرياتنا وأجسادنا وحيواتنا. إنّه ملتصق بنا أينما ذهبنا، ولذلك فالبيوت فكرة وليست مكانًا فحسب. والبيوت حنين يتبعنا في ذهابنا وإيابنا، في إقامتنا وهجراننا. البيوت أيضًا هي جزء من الروح ومن ترجيحات الأماكن ومياهها الأولى وأعشابها ونباتاتها ومسارحها الواسعة. وهذا الكلام ليس مجرّد تنظير لفكرة البيت فحسب، بل إنّ ما يجعله حقيقيًّا ومرًّا، هو كوني قد فقدتُ غير مرّة البيت الذي ولدت فيه في قريتي زبقين القريبة من حدود فلسطين الشماليّة. في المرّة الأولى هدمه الوالد لأنّه كان من طين وأراد أن يستبدله بالإسمنت، وحين أعاد بناءه شعرت بأني خسرت جزءًا منّي، وخسرت شجرة الدراق التي كانت تقبع في إحدى زواياه، وروائح الطين الأول، وأزهار البابونج التي كانت تنمو بشكل دوري على سطحه.
إلّا أنّ المرات التي هدم فيها في وقت لاحق، كانت تلك التي قام بها العدوّ. ففي حرب تموز 2006، هدم منزلنا العائلي في القرية، وأذكر بأنّ الصديق أحمد علي الزين كان قد صوّر معي حلقة في برنامج «رواسب»، وكان بيتي في كامل نضارته وبهائه، لكنّه تعرّض للهدم قبل عرض الحلقة بأيامٍ، فأعيد التصوير وبان البيت في حالته الجديدة وقد تحوّل إلى ركام وسقط باتجاه الأرض. والأشدّ إيلامًا أنّ الوالدين اللذين كانا على قيد الحياة، رفضا الانتقال إلى مكان آخر، وأصرّا على بناء المنزل الجديد في مكانه الأول، وهو ما حدث بشق النفس.
في الحرب الأخيرة أيضًا، صوّب العدوّ باتجاه البيت إياه وكأن ثأرًا شخصيًّا له مع هذا المنزل الذي لم أترعرع فيه فحسب، بل ترعرعت فيه مخيّلتي وقصائدي المبكرة ولغتي ومعجم مفرداتي. والآن، وأنا أقف على أنقاضه، أشعر بأنفاس الوالدين اللذين لم يعودا على قيد الحياة. وأكثر ما آلمني ذلك الجدار من الورود الذي أصرّت أمي على أن تبنيه في مكان ملاصق للمنزل العائلي، وعملت، وهي التي تحب الزهور، على أن تضع فيه تشكيلة واسعة من النباتات والزهور والورود المختلفة. وحين زرنا القرية في الأيام الأخيرة تبيّن لي بأنّ الجدار قد هدم، وأنّ الورود قد ذبلت. لكن ما أنا بصدده الآن هو أن هذا البيت سيُبنى من جديد وبأنّ هذه الورود ستعود إلى مكانها، وبأنني سأصرّ على أن أكمل القصيدة التي بدأتها، رغم أنّ العدوّ يصرّ على هدم بيوت الحجر وبيوت الإسمنت وبيوت الشعر في الآن ذاته.
زاهي وهبي: الكلمة ضمادة وبلسم
ما معنى الكتابة في خضم المذبحة؟ وما جدوى الحبر حين يُسفَك الدمّ ويسيل؟ وأي لغة تسعفنا في وصف الهمجية الإسرائيلية المتمادية من فلسطين إلى لبنان؟ علامات استفهام كثيرة تدور في الرأس كلما همَّ الكاتب بالكتابة. فما يحدث يفوق الوصف، ويتجاوز مقدرة الكلمات على التعبير عنه.
كل تلك الأسئلة التي تعصف في الرأس لا تعني أبدًا أن لا شأن للغة بما يجري، أو أنّ الكلمة يمكنها أن تنأى بنفسها. لكنها أسئلة مشروعة حين تكون الجريمة مروعة إلى هذا الحد. كيف نرتقي بالكلمة إلى مستوى ما يحدث؟ وكيف نعبّر عما يختلج في نفوسنا من مشاعر وأحاسيس؟ وكيف نتجنب أن تكون نصوصنا مجرد إنشاء انفعالي وكلام عاطفي يذهب مفعوله بمرور الوقت؟ وهل الكتابة الملتزمة هي فقط الخطابية المباشرة واللحظوية وليدة العاطفة والانفعال؟ أم أنّ النصّ الملتزم يذهب أعمق من ذلك بكثير؟
«لا أعرف كيف نجوت،
لم أمت لكنني رأيتُ مَن مات،
رأيتُ القتلى أكثر حياءً من القتَلة”.
كتبتُ هذه الجملة في إحدى قصائدي من وحي واحدة من الحروب الكثيرة التي عشتها...
أكتبُ وأفكّر لا فقط بالذين قضوا، بل أولًا بالذين ظلوا على قيد الحياة، بالمشاهد المروعة التي وقعت أمام أعينهم، بفلذات الأكباد التي خسروها، بالأشلاء التي حملوها في الأكياس البلاستيكية، بالأحبّة الذين لم يعثروا على أثر لهم، بالذكريات التي طُمرَت تحت ركام البيوت المهدمة، بعيون الأطفال الجاحظة رعبًا وخوفًا، بالأمهات اللواتي فقدن أطفالهنّ لحظة ولادتهن.
أي ندوب سوف تنحفر في أعماق قلوبهن؟ أي أسى سوف يترسّب في قاع الأرواح المثقلة؟ وهل من أحد يستطيع لوم هؤلاء غدًا حين يمتشقون بنادق الثأر والانتقام، وهم أصلًا أصحاب الحق وشهود الحقيقة وشهداؤها.
ماذا عسانا نفعل نحن معشر الكلمة، سوى أن نجعل كلماتنا أجراسًا تُقرَع دائمًا لتذكّر بجرائم المحتل، وتحول دون طمسها ونسيانها، وأن نرسّخ رواية أصحاب الحق في مواجهة رواية أصحاب الباطل مهما امتلك هذا الباطل من قوة، ومهما قلّ مناصرو الحقّ. فالكلمة التي لا تستطيع أن تكون رصاصة بإمكانها على الأقل أن تكون ضمادة وبلسمًا.
ما نأمله ونتوقعه أن تولد من رحم هذه المواجهة الضارية مع المحتل الإسرائيلي نصوص إبداعية ترتقي إلى مستوى الحدث وتحتفظ بشروطها الفنية والجمالية، إذ لا يمكن لأي كاتب حقيقي، ولأي مبدع أيًا كان ميدان إبداعه أدبًا وفنًا وفكرًا أن يصمت حيال ما يجري، أو ينأى بنصّه بعيدًا من هذه اللحظة التاريخية المضطرمة.
صحيح أنّ الكتابة الإبداعية تحتاج إلى مسافة زمنية بينها وبين الحدث، لكن ما يحدث لا يمكن الصمت حياله أبدًا. فما معنى الكتابة الآن إن لم تكن منحازة للضحية ضد الجلاد، وللقتيل ضد القاتل، ولأصحاب الحق في مواجهة الاحتلال الباطل… والزائل لا محال.
حسن المقداد: الحزن يملك الجملة والبيت والسرير
هنا بيروت...
الألمُ يلتقطُ اللحظة، المجدُ بكاءٌ آخر، الحزنُ يملكُ الجملةَ والبيت والسّرير، لكنّنا طبيعيّون إلى حدٍّ ما..
كنتُ في ليالي الحرب أفرُّ من قلقي لأسرح في شوارع المدينةِ على قدميّ، كورنيش عين المريسة باتجاه البيال ممتلئٌ بالنّاسِ الذين أتوا للبحر من غير موعد فقابلهم بمزاجٍ داكن، الحمرا عادت إليها الحياة بغير ما كنّا نشتهي، في الطّرقِ الفرعيّةِ الظّلمةُ خانقة، في الشّوارعِ المضاءةِ وجوهٌ مصدومةٌ ووجوهٌ خائفة، منهم أطفال، أصوات الشارع لا تشبه الشارع، تشبهُ الحرب، ودويُّ الليلة الأخيرة عالق كخدشٍ على شريطِ الصّخب، قربَ مدرسةٍ ما في ليلةٍ كأخرى، أقابلُ صديقًا أصافحهُ وأضع وجهه في خانة الوجوه المصدومة، مقابل وجهي الذي وضعتهُ هنا صدفة.
نجونا مجدّدًا وفقدنا كثيرًا، أهلًا وأصدقاءَ وذكرياتٍ وأمكنة، أسقطُ مرارًا في الحزنِ والوحشةِ والقلق، أتلافى الأحاديث الطويلة الواضحة، أتلافى النّاس، أنفعلُ بسرعةٍ وأسكنُ بسرعة، أتأخر عن مواعيد تخصّني وحدي، أشرب القهوة أقل وأدخّنُ أكثر لأعاقبَ نفسي على ذنوبٍ لم أرتكبها، لكنّني طبيعيٌّ إلى حدٍّ ما..
في صباحٍ كآخر يطرقُ زهيرُ بن أبي سُلمى باب غرفة نومي فلا أفتحُ له، أنتظره أن يغادرَ وأخرجُ مرندحًا بيت سعيد عقل الذي علّق صخرةً بالنجم، أتبعُ بيروت حيث تشتهي، وأشتهيها كما تريد...