اقتصاد ومال

من الانهيار إلى الإصلاح هل تكون الشراكة مع صندوق النقد الدولي بوابة تعافي لبنان؟
إعداد: تونيا سلامة

صندوق النقد الدولي:

النشأة والتطوّر التاريخي وإطار التعاون

 

منذ إنشائه في العام 1944 1، اضطلع صندوق النقد الدولي بدورٍ محوري في تعزيز الاستقرار المالي العالمي ودفع عجلة التنمية الاقتصادية، من خلال ثلاث مهمات رئيسية: أولًا، تقديم الدعم المالي قصير الأجل للدول التي تواجه أزمات اقتصادية خانقة؛ ثانيًا، تقديم المشورة الفنية والاقتصادية القائمة على تقييم دقيق للسياسات الاقتصادية؛ وثالثًا، توفير الدعم التقني والتدريب لبناء قدرات الحكومات وتعزيز استراتيجياتها المالية والإدارية.

يضمّ الصندوق في عضويته 191 دولة2، تتعاون في ما بينها لترسيخ أسس النظام النقدي الدولي، وتحفيز النمو الاقتصادي، وتعزيز التجارة العالمية، مع الحرص على تفادي السياسات التي قد تزعزع الاستقرار الاقتصادي العالمي. كما يضطلع بدورٍ تنسيقي مهم بين الدول الأعضاء والمؤسسات المالية الدولية الأخرى3. عندما تواجه دولةٌ ما أزمة اقتصادية مثل ارتفاع الدّين العام، أو انهيار العملة المحلية، أو تراجع الاحتياطات النقدية، يمكنها الدخول في مفاوضات مع الصندوق للتوصّل إلى برنامج إصلاح اقتصادي يشكّل اتفاقًا متكاملًا يتضمّن حزمة من السياسات والإجراءات المالية والنقدية المصمّمة لمعالجة مكامن الخلل. في المقابل، يوفّر الصندوق تمويلًا ميسّرًا، مشروطًا بالتنفيذ الدقيق للإصلاحات، بهدف استعادة الثقة بالاقتصاد الوطني وتحقيق الاستقرار الكلي وضمان القدرة على سداد الديون الخارجية.

لا يقتصر دور صندوق النقد الدولي على التدخّل لاحتواء الأزمات بعد وقوعها، بل يمتد إلى العمل الوقائي من خلال الرصد المبكر للمخاطر الاقتصادية وتقديم توصيات استباقية تهدف إلى الحدّ من تفاقم الأزمات قبل نشوئها. وبهذا المعنى، يُعدّ الصندوق فاعلًا محوريًا في دعم الاستقرار المالي العالمي وتعزيز قدرة الاقتصادات الوطنية على الصمود.

يُقدّم الصندوق مساعداته للدول عبر برامج تمويلية، تراعي الخصوصيات الاقتصادية والهيكلية لكلّ بلد. وتُوزّع هذه الموارد عادةً على دفعات مرحلية، يُشترط لإطلاقها تحقيق مجموعة من الإصلاحات أو المؤشرات المتّفق عليها، ما يضمن التقدّم المنهجي في تنفيذ البرنامج. وفي مقابل هذا الدعم، تلتزم الحكومات تنفيذ حزمة من الإصلاحات التي غالبًا ما تشمل تحسين إدارة المالية العامة، وتطوير السياسة النقدية، وإعادة هيكلة القطاعات الأساسية، ورفع مستوى الشفافية والمساءلة4.

ورغم ما تنطوي عليه هذه الإصلاحات من تحديات، خصوصًا في السياقات التي تشهد هشاشة سياسية أو اضطرابات اجتماعية، فإنّها تُعتبر ضرورية لاستعادة الثقة الداخلية والخارجية، وضمان تعافٍ اقتصادي مستدام.

وفي حالات الطوارئ القصوى، كالكوارث الطبيعية أو الانهيارات الاقتصادية المفاجئة، يوفّر الصندوق تمويلًا استثنائيًا بشروطٍ مخفّفة، أو في بعض الأحيان من دون شروط، على أن يكون هناك التزام مبدئي من قبل الدولة بوضع سياسات عامة سليمة تمهّد للاستقرار.

إنّ برامج صندوق النقد الدولي إذًا، لا تُعدّ مجرّد أدوات إنقاذ ظرفية، بل تشكّل فرصًا استراتيجية للدول لتحديث بنيتها الاقتصادية، وتفعيل دور المؤسسات، وبناء قدرات وطنية قادرة على التكيّف مع التحديات المتغيّرة، بما يُمهّد لنمو أكثر شمولًا واستدامة على المدى الطويل.

منذ تأسيسه، أسهم صندوق النقد الدولي في مساعدة عشرات البلدان على تجاوز أزماتها المالية الخانقة، معتمدًا على قدرة إقراضية تلامس التريليون دولار أميركي5، ما يتيح له التحرّك بسرعةٍ وفعالية لمواجهة الصدمات المالية والاضطرابات الاقتصادية الكبرى. هذا الحضور القوي للصندوق في المشهد الاقتصادي الدولي يجعل من تدخلاته فرصة لإعادة هيكلة الاقتصادات الهشّة، ووضع أسس أكثر صلابة للتنمية المستدامة، لا سيما إذا ما اقترنت بإرادةٍ سياسية وطنية وإصلاحاتٍ جذرية تضمن شمولية الأثر وفعاليته. فبرامجه لا تُعالج أعراض الأزمة فحسب، بل تستهدف جذورها من خلال دعم إصلاحات هيكلية تُمهّد لنمو أكثر صلابة وشمولًا6.

 

أنواع برامج صندوق النقد الدولي

• برنامج الترتيب الاحتياطي (SBA): يُستخدم لتقديم دعم قصير الأجل للدول التي تواجه صعوبات مالية مؤقتة.

• برنامج التسهيل الموسّع (EFF): يُخصَّص للدول التي تعاني أزمات اقتصادية وهيكلية طويلة الأمد.

• صندوق الحد من الفقر وتعزيز النمو (PRGT): يُقدّم قروضًا ميسّرة للدول منخفضة الدخل بشروطٍ تفضيلية.

• أداة التمويل السريع (RFI) والتسهيل الائتماني السريع (RCF): آليتان تُوفّران تمويلًا سريعًا في حالات الطوارئ مثل الكوارث الطبيعية أو الأوبئة، مع متطلبات محدودة أو مخفّفة.

مراحل تقديم الدعم المالي: نهج منظّم لضمان الفاعلية والمساءلة

يتّبع صندوق النقد الدولي آلية واضحة ومنظّمة عند تقديم المساعدة المالية لأي من الدول الأعضاء، تقوم على مبادئ الشفافية، والمساءلة، والتنسيق الوثيق بين الجانبين. وتتوزّع هذه العملية على مراحل رئيسية، تهدف إلى ضمان تصميم برامج فعّالة ومتكاملة تُعالج التحديات الاقتصادية وتُحقّق أهداف الاستقرار والنمو7:

1. الطلب الرسمي: تبدأ العملية بتقديم الدولة طلبًا رسميًا للحصول على دعم مالي من الصندوق، وذلك عندما تواجه أزمة اقتصادية أو تحتاج إلى تعزيز استقرارها الكلي.

2. التقييم الأولي: يقوم خبراء الصندوق بإجراء تقييم دقيق للوضع الاقتصادي في الدولة المعنية، لتحليل طبيعة التحديات ومصادر الخلل، وتحديد نوع الدعم الأنسب.

3. الاتفاق على مستوى الخبراء: بعد سلسلة من المشاورات والنقاشات الفنية بين خبراء الصندوق وممثلي الدولة، يتم التوصّل إلى اتفاق مبدئي يُعرف بـ «اتفاق على مستوى الخبراء». يتضمّن هذا الاتفاق حزمة من السياسات والإصلاحات المقترحة، ويكون بمثابة خارطة طريق للمرحلة المقبلة. لكنّه لا يدخل حيّز التنفيذ إلّا بعد مصادقة المجلس التنفيذي للصندوق.

4. مراجعة مجلس الإدارة والمصادقة: تقدّم الدولة المعنية «رسالة نوايا» مرفقة بـ «مذكرة تفاهم» تتضمّن التزاماتها بالإصلاحات المقرّرة. في المقابل، يقوم موظفو الصندوق برفع توصية إلى المجلس الذي يصادق على البرنامج.

5. المتابعة والرصد: بعد صرف الدفعة الأولى من التمويل، يُجري الصندوق مراجعات دورية لتقييم مدى التزام الدولة بتنفيذ البرنامج المتفّق عليه. وترتبط عمليات صرف الدفعات اللاحقة بتحقيق الأهداف المرحلية المحددة سلفًا، ما يضمن فاعلية البرنامج واستدامة الدعم.

قصص نجاح عالمية: كيف ساعدت برامج صندوق النقد الدولي دولاً على تجاوز الأزمات؟

غالبًا ما تترافق برامج صندوق النقد الدولي مع حزمة من الإجراءات الإصلاحية التي تتطلب قدرًا كبيرًا من الانضباط المالي، وتشمل هذه الإجراءات عادةً تقليص الإنفاق العام، ورفع الدعم تدريجيًا عن بعض السلع والخدمات، إلى جانب تنفيذ إصلاحات هيكلية تمسّ قطاعات حيوية في الاقتصاد كالمؤسسات العامة، والضرائب، والحَوكمة. تُظهر تجارب عدّة كيف يمكن للتعاون مع الصندوق أن يتحوّل إلى نقطة انطلاق جديدة نحو الاستقرار والنمو الاقتصادي.

 

حالة قبرص: من حافة الانهيار إلى مسار التعافي

في أعقاب الأزمة المالية العالمية في العام 2008، واجهت قبرص واحدة من أصعب الأزمات في تاريخها الاقتصادي، تمثّلت في فقدان الثقة بمنظومتها المالية نتيجة تضخم غير محسوب في قطاعها المصرفي، ووجود اختلالات هيكلية في الاقتصاد الكلي. ومع تفاقم الوضع، وللتصّدي لهذه التحديات، طلبت البلاد دعمًا ماليًا من صندوق النقد الدولي بقيمة مليار يورو على مدى ثلاث سنوات، ضمن برنامج مشترك مع آلية الاستقرار الأوروبية European Stability Mechanism - ESM، وهي مؤسسة مالية دولية أنشأها الاتحاد الأوروبي في العام 2012 كأحد الأدوات الدائمة لمواجهة الأزمات المالية في منطقة اليورو، بعد الدروس المستفادة من أزمة الديون السيادية الأوروبية التي اندلعت في أواخر العقد الأول من القرن الـ 21، بهدف إعادة الاستقرار إلى القطاع المالي واستعادة الاستدامة المالية.

ما يميّز تجربة قبرص ليس فقط سرعة الاستجابة، بل نوعية الإجراءات التي تمّ اتخاذها. فقد عمدت السلطات القبرصية إلى تنفيذ برنامج إصلاحي جريء، شمل إعادة هيكلة جذرية للقطاع المصرفي، وإعادة رسملة البنوك، مع اعتماد حزمة قوانين جديدة بهدف تشجيع تسوية القروض المتعثّرة بشكلٍ عملي وفعّال. تَرافق كل ذلك مع تشديد الرقابة المصرفية وتعزيز الحَوكمة المالية. ولم تُغفل الحُكومة الجانب الاجتماعي، إذ واكبت الإصلاحات المالية بإجراءات هدفت إلى حماية الفئات الأكثر هشاشة، بالتوازي مع تحسين آليات إعداد الموازنة العامة، وتعزيز تحصيل الإيرادات الضريبية.

جاءت النتائج سريعة ومشجّعة، فخلال 16 شهرًا فقط، استعادت قبرص قدرتها على دخول الأسواق المالية، وبدأت مؤشرات النمو تتحسّن، فيما تراجعت معدلات البطالة تدريجيًا. الأهم من ذلك أنّ البلاد تمكّنت من تسديد قرض صندوق النقد الدولي قبل موعد استحقاقه، ما عكس متانة الأداء المالي وصدقية التزام الإصلاحات. غير أنّ التجربة القبرصية، رغم نجاحها، تُظهر أنّ التعافي ليس نهاية الطريق. فالاستدامة الاقتصادية تتطلب مواصلة الإصلاحات، والتزام الانضباط المالي، وبناء قاعدة إنتاجية متينة قادرة على مقاومة الصدمات وخلق فرص عمل مستدامة8.

 

حالة البرتغال: دروس من أزمة ونهوض اقتصادي

مثّلت تجربة البرتغال مع صندوق النقد الدولي نموذجًا يُحتذى به في كيفية تحوّل الأزمات الاقتصادية إلى فرص للإصلاح العميق والنمو المستدام. فبعد اعتمادها العملة الأوروبية الموحَّدة في العام 1999، استفادت البرتغال من انخفاض معدلات الفائدة، غير أنّ غياب الإصلاحات البنيوية أدى إلى تراكم مقلق في مستويات الدين العام والخاص، وعجز متزايد في المالية العامة.

بحلول العام 2011، وجدت البلاد نفسها في مواجهة أزمة مالية خانقة، تجلّت في ارتفاع العجز، تفاقم البطالة، وتصاعد تكاليف الاقتراض إلى مستويات غير قابلة للاستمرار. أمام هذا الواقع، لجأت البرتغال إلى طلب دعم مالي مشترك من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، تَمثّل في حزمة تمويلية بلغت 78 مليار يورو (موّلت ثلثها مؤسسة صندوق النقد الدولي). وفي مقابل هذا الدعم، التزمت الحكومة البرتغالية خطة إصلاح طموحة شملت تقليص العجز المالي، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتنفيذ إصلاحات مؤلمة شملت خفض أجور ومعاشات موظفي القطاع العام، وخصخصة عدد من المؤسسات. وركّزت الخطة على الحوار الاجتماعي، ممّا ساعد في الحفاظ على الدعم السياسي والشعبي في أثناء التنفيذ. وبفضل هذا المسار، استطاعت البرتغال أن تستعيد عافيتها الاقتصادية بشكلٍ تدريجي. فقد تحسّن مركزها المالي، واستعادت ثقة الأسواق، وانطلقت عجلة النمو بدفعٍ من قطاعي التصدير والسياحة. كما تراجعت معدلات البطالة وانخفضت كلفة الاقتراض إلى مستويات قياسية، ما أتاح للبلاد تأسيس قاعدة أكثر متانة لنمو اقتصادي مستدام، وتجنّب تكرار الاختلالات التي قادتها إلى الأزمة9.

 

علاقة صندوق النقد الدولي مع لبنان

انضمّ لبنان إلى صندوق النقد الدولي في العام 1947، لكن علاقته بالصندوق بقيت هامشية في البداية، إذ كان لبنان يتمتع في السبعينيات بقطاع مصرفي مزدهر وسوق مالية حرة، وكانت العملة اللبنانية مستقرة ومرتبطة بالدولار. لم يكن هناك حاجة ملحّة للتدخل، بل كان الصندوق مجرد مرجعية تقنية. ظلّ التعاون مقتصرًا لعقود على المشورة الفنية والمراجعات الدورية بموجب المادة الرابعة. إلّا أنّ الأزمة المالية غير المسبوقة التي اندلعت أواخر العام 2019 شكّلت نقطة تحوّل حاسمة، دفعت لبنان إلى طلب دعم رسمي من الصندوق في العام 2020، لتتحوّل اليوم إلى شراكة أساسية في ظل الانهيار الاقتصادي العميق الذي يعيشه البلد.

فبعد عقود من الأزمات المتراكمة التي بلغت ذروتها مع إعلان التخلف عن سداد الدين في العام 2020، بدأ لبنان يسلك مسارًا جديدًا نحو الانخراط الجدّي مع الصندوق.

في آب 2021، وافق مجلس محافظي صندوق النقد الدولي على توزيع عام لحقوق السحب الخاصة (SDRs) بلغ نحو 456 مليار وحدة حقوق سحب خاصة أي ما يعادل 650 مليار دولار أميركي، وُزِّعت على البلدان الأعضاء وفق حصصها في الصندوق لدعم السيولة العالمية10. وهذا التوزيع العام لحقوق السحب الخاصة – وهو الأكبر في تاريخ الصندوق – ساعد البلدان على التصدي لجائحة كوفيد-19. حصل لبنان بموجب هذا التوزيع على ما يعادل نحو 860 مليون دولار أميركي11، ما وفّر دعمًا لاحتياطياته الأجنبية في ظل الانهيار الاقتصادي. وقد أتاحت مخصصات حقوق السحب الخاصة فرصة مهمة للمساهمة في إعادة بناء احتياطيات مصرف لبنان وإمكان شراء العملات الصعبة لتلبية بعض الاحتياجات الملحّة، شرط أن يتم استخدامها بصورةٍ شفافة ومسؤولة، وبما يخدم الإصلاحات والتعديلات المطلوبة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي. وقد تمّ إنفاق الجزء الأكبر من هذه الأموال على استيراد أدوية السرطان والأمراض المزمنة والقمح، وعلى القروض ومؤسسة كهرباء لبنان12.

 

أين يقف لبنان اليوم؟

رغم ظهور مؤشرات أولية على الاستقرار، فإنّ حصول لبنان على دعمٍ كامل من صندوق النقد، يبقى مشروطًا بتنفيذ إصلاحات جذرية تشمل إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وضبط المالية العامة، وتعزيز الحوكمة، وترسيخ الشفافية الاقتصادية.

في نيسان 2022، توصّل لبنان إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي بشأن برنامج تسهيل الصندوق الممدّد (EFF) لمدة 46 شهرًا بقيمة تقارب 3 مليارات دولار أميركي من حقوق السحب الخاصة، تضمّن حزمة شاملة من الإصلاحات الاقتصادية. هدفت هذه الإصلاحات إلى إعادة بناء الاقتصاد، واستعادة الاستقرار المالي، وتعزيز الحَوكمة والشفافية، وتوسيع الاستثمار في الخدمات الاجتماعية والبنى التحتية. ارتكز البرنامج على خمسة محاور أساسية: (1) إعادة هيكلة القطاع المصرفي بما يحمي أموال المودعين، (2) معالجة الدين العام غير المستدام من خلال إصلاحات مالية، (3) إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، (4) تعزيز الحَوكمة ومكافحة الفساد، و(5) إرساء نظام نقدي وسعر صرف موثوق وشفاف13.

 

نحو شراكة استراتيجية

عودة إلى طاولة المفاوضات: هل من فرصة ثانية؟

لم يتمّ إحراز أي تقدّم ملموس في الاتفاق على مستوى الخبراء لأكثر من عامين، وسط استمرار انهيار القطاع المصرفي الذي ظلّ يقيّد النشاط الاقتصادي ويحدّ من إمكان الوصول إلى التمويل. وزادت الأزمات والنزاعات الأخيرة تفاقم الوضع، متسببةً في أضرار جسيمة للبنية التحتية ونزوح واسع للسكان، ما عمّق الأزمة الاقتصادية وزاد تعقيد مسار التعافي.

مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة في مطلع العام 2025، استؤنفت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بشأن برنامج تعاون جديد. بين آذار وحزيران 2025، أوفد صندوق النقد الدولي بعثات متعاقبة إلى بيروت، أصدرت خلالها بيانات علنية أرست ملامح أولية لبرنامج دعم محتمل، وخطوة تمهّد لتجديد الاتفاق على مستوى الخبراء وفتح الباب أمام مناقشات حول حزمة تمويلية شاملة. وسيتركز الاتفاق المرتقب على مجموعة إصلاحات جوهرية تشمل:

 

• إعادة هيكلة البنوك؛

• الإصلاحات المالية وإعادة هيكلة الدَّين العام؛

• الإصلاح النقدي، بما يشمل حَوكمة مصرف لبنان وسياسة سعر الصرف؛

• إصلاح شامل للمؤسسات العامة؛

• تشريعات مكافحة جرائم غسل الأموال.

وفي هذا السياق، صوّت البرلمان مؤخرًا على تعديلات تطال قانون السرية المصرفية المعمول به منذ فترة طويلة، ما يتيح للسلطات الوصول إلى مزيد من السجلات المصرفية، في خطوة تُعدّ أساسية لإعادة هيكلة القطاع المالي. كما لا يزال يُنتظر إقرار قانونين ماليين أساسيين: قانون إعادة هيكلة المصارف وقانون الفجوة المالية.

وقد شدّد صندوق النقد الدولي على أهمية اعتماد استراتيجية اقتصادية شاملة وذات مصداقية، تقوم على مبدأ التوازن بين متطلبات التعافي المالي والاقتصادي وضرورات الحماية الاجتماعية، خصوصًا بالنسبة إلى الفئات الأكثر هشاشة. وقد أكّدت السلطات اللبنانية التزامها المبدئي مسار الإصلاح، ليس فقط كشرطٍ لنيل دعم الصندوق، بل كمدخلٍ أساسي لاستعادة الثقة الداخلية والخارجية، واستقطاب الدعم الدولي، ووضع الأسس الصلبة لتعافٍ مستدام طويل الأمد.

وتندرج هذه الجهود ضمن إطار تعاون دولي أوسع، يتجلّى في مقترح حديث من البنك الدولي14 لتوفير تمويل بقيمة مليار دولار، يهدف إلى دعم شبكات الحماية الاجتماعية وتحسين البنية التحتية. ويعكس هذا التوجّه الاقتناع المتزايد بأنّ التعافي الاقتصادي لا يمكن فصله عن إصلاح مؤسسات الدولة وتعزيز الشفافية والحَوكمة.

ومع ذلك، يبقى مستقبل لبنان الاقتصادي رهنًا بقدرته على تنفيذ إصلاحات بنيوية عميقة، يعتبرها صندوق النقد الدولي شرطًا لا غنى عنه لاستعادة الاستقرار المالي والنقدي، وضمان تعبئة دعم دولي واسع النطاق يُعيد الثقة بمسار الدولة ومؤسساتها.