قضايا إقليمية

التنافس التركي - الإسرائيلي في المنطقة: أبعاد وتداعيات
إعداد: إحسان مرتضى - كاتب وباحث

تعيش منطقة الشرق الأوسط منذ بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين على وقع تحوّلات متسارعة في ميازين القوى والتحالفات. وسط هذه الديناميكية، تبرز تركيا و«إسرائيل» كقوتين إقليميتين تدخلان في صراع متعدد الأبعاد، تحكمه اعتبارات دينية، قومية، اقتصادية، وجيوسياسية، وذلك بسبب الجذور الإيديولوجية والملفات المتفجرة التي ما زالت تشكّل عوائق كأداء أمام إعادة بناء الثقة بينهما. ورغم ما جمعهما سابقًا من تعاون أمني واستراتيجي وطيد، فإنّ التباين العميق في الرؤية الجيوسياسية والعقدية لكل منهما حاليًا، أدى إلى تصاعد التوتر والاستنفار اللذين اتخذا أشكالًا متعددة، منها ما هو أيديولوجي، ومنها ما هو نزاع اقتصادي جيوسياسي، ولكن من دون مواجهة مباشرة حتى الآن.

 

شرارات الاختلاف

انطلقت شرارة أزمة العلاقات التركية – الإسرائيلية مع المواجهة التي حصلت بين رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان والرئيس الإسرائيلي الراحل شمعون بيريس في العام 2009 أثناء ندوة شاركا فيها في مؤتمر دافوس الاقتصادي، حيث تبادلا اتهامات قاسية بشأن الإرهاب. وفي العام 2010، هاجمت «إسرائيل» أسطول الحرية التركي (مرمرة) الذي كان متجهًا لنصرة غزة، ما تسبب في مقتل عدد من النشطاء الأتراك، وأدى إلى تدهور شديد في العلاقات. والواقع أنّ البيئة الاستراتيجية التي فتحت باب التعاون بينهما على مصراعيه في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ما لبثت أن تغيّرت مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة (2002)، وذلك بسبب التداعيات التي تسببت بها الحرب على العراق العام 2003 حين بدا واضحًا أنّ هناك اختلافًا كبيرًا في الأهداف والأولويات. فقد تركَّزت الهواجس التركية حول إمكان قيام دولة كردية مستقلة بمساعدة «إسرائيل» في شمالي العراق مع كل ما يحمل ذلك من تعقيدات ومخاطر سياسية وأمنية. وفي المقابل ظهرت في «إسرائيل» مخاوف من قيام «هلال سني» يجمع تركيا وقطر وسوريا ومصر ضدها، ليحلّ محل «الهلال الشيعي» الذي كان الحديث يدور عن مخاطره بقيادة إيران، مما قد يزيد من تأثير الأيديولوجيا في المنطقة: «وهذا يمكن أن يسبب التطرف، ويهدد وجود «إسرائيل» في الجولان وربما زعزعة استقرار الأردن في المستقبل. وفي ضوء تصريحات أردوغان الأخيرة تجاه «إسرائيل» وما يتعلق بأطماع تركيا، تشعر «إسرائيل» بأنّ هذه العوامل تشكّل تهديدًا كبيرًا قد يتحقق في المستقبل غير البعيد، بحسب الباحث الإسرائيلي بوعاز شابيرا من معهد ألما للأبحاث. لكنّ الخبراء يقولون إنّ فكرة «الهلال السني» غير مرجّحة بسبب عدم رغبة أي من دوله بالانخراط في حروب مع «إسرائيل». واللافت أنّه على الرغم من الخطاب التحريضي عالي النبرة المتبادَل في الوقت الحالي ما بين الرئيس التركي أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، بشأن مجازر غزة، فقد حافظ الطرفان على العلاقات الاستخباراتية والتجارية والعسكرية بينهما كالمعتاد، مما أثار علامات استفهام كبيرة حول حقيقة ما يحدث بينهما، على الرغم من التضاد الأيديولوجي والاستراتيجي.

 

محاور الصراع

تحتفظ «إسرائيل» بشكوك عميقة تجاه الحكم الجديد في سوريا، وعلى هذه الخلفية تشهد سوريا صراعًا خفيًا بين تركيا و«إسرائيل»، إذ تسعى أنقرة لضمان استقرارها في سوريا بينما تسعى تل أبيب لضمان أمنها القومي عبر بناء توازنات جيوسياسية جديدة.

لقد توترت العلاقات إلى حدها الأقصى بين الطرفين بعد عملية طوفان الأقصى والعدوان على قطاع غزة. وفي قلب هذا الصراع تسعى تركيا لتحويل نفسها إلى مركز إقليمي لتوريد الغاز إلى أوروبا. ويأتي ذلك ضمن خطة استراتيجية بعيدة المدى، تُرجمت باتفاق ألماني قطري يتعلق بالغاز السائل، على أن يُنقل عبر الأراضي السورية مرورًا بتركيا وصولًا إلى أوروبا.

واشنطن وتل أبيب، تدركان أنّ السماح بوجود هذا المحور الجديد قد يغيّر المعادلات الجيوسياسية ويفتح الباب أمام تحالفات إقليمية تتعارض مع الأجندة الأميركية - الإسرائيلية في الشرق الأوسط. لذلك، فإنّ تعطيل هذا المشروع ليس مجرّد تفصيل، بل هو هدف استراتيجي تتمسّك به تل أبيب وواشنطن، كجزءٍ من خطّة شاملة للحفاظ على الوضع القائم وضمان التفوّق النوعي لإسرائيل. ويشير تعليق صادر عن مجموعة الأزمات الدولية في منتصف آذار الماضي إلى أنّ «استمرار العدوان الإسرائيلي ومحاولات نزع السلاح من جنوب سوريا والتدخل في السياسة السورية الداخلية قد يزيد احتمال قيام الحكومة السورية الجديدة بتعميق التعاون الدفاعي مع تركيا، لردع المزيد من العدوان والتوسع الإسرائيليين، بخاصة وأنّ «إسرائيل» تسعى لتشكيل سوريا ضعيفة مفككة، تحكمها كانتونات مذهبية وعرقية متنازعة وذات حكم ذاتي يمكن التحكم بها بسهولة، وهو ما يتيح لها ضمان أمن احتلالها في الجولان وتوسيع نفوذها العسكري والسياسي من دون عوائق. في المقابل، وبحسب الرأي العبري، تطمح تركيا إلى بناء نظام سوري قوي وديمقراطي يضمن تمثيلًا متوازنًا لجميع المكوّنات العرقية، ولكن مع استبعاد أي دور للأكراد، بخاصة حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب، اللذين تعتبرهما أنقرة تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. وترى «إسرائيل» أنّ تركيا تسعى لفرض سيطرتها على مساحات بحرية غنية بالغاز والنفط من خلال اتفاقيات حدود بحرية مع سوريا، تؤدي لتعزيز نفوذها عبر مشاريع استراتيجية مثل خط سكة حديد الحجاز «الخط التركي - القطري»، الذي يربط الخليج بأوروبا عبر الأراضي التركية، وهو ما يهدد فعالية الممر التجاري الإسرائيلي أي «الممر الهندي - الأوروبي» الذي يربط أوروبا بميناء حيفا. وفي آخر «تقديرات الموقف» في «إسرائيل»، فإنّ النفوذ التركي سيمتد من تركيا مرورًا بسوريا، وصولًا إلى غزة وفلسطين. ولهذا استحق الأمر إدراج مسألة التنافس مع تركيا، على جدول أعمال اجتماعات «الكابينت الأمني» الإسرائيلي، واحتلالها موقعًا متصدرًا على سُلم أولويات التحالف الاستراتيجي مع واشنطن. وفي المرحلة المقبلة يبدو أنّ العدو الإسرائيلي سيلجأ إلى اتباع الخطط التي من شأنها أن تعرقل تنفيذ المشروع الاقتصادي التركي، من خلال مساعدة الكرد على إنشاء دولتهم المستقلة التي تتحول إلى لغم متفجر في مثلث تركيا وإيران والعراق، حيث تتنافس إيران وتركيا على النفوذ، بينما تعمل «إسرائيل» على إضعاف الوجود الإيراني. وفي ظل استمرار التوترات الإقليمية، من المتوقع أن يستمر التنافس بين تركيا وإيران و«إسرائيل»، مع احتمال تصاعد المواجهات غير المباشرة في سوريا ولبنان والعراق. وقد تسعى كل دولة لتعزيز تحالفاتها لكسب المزيد من النفوذ، إذ تعزز «إسرائيل» تعاونها مع الدول العربية، وتسعى إلى أن يكون جنوب سوريا بعمق 65 كيلومترًا منزوع السلاح وتعمل على تحسين العلاقات مع الجنوب السوري لا سيما عبر الاستغلال المذهبي في بعض المناطق.

على صعيد المحور الفلسطيني تدعم تركيا القضية الفلسطينية، وبخاصة «حماس»، وتسعى لتموضع رمزي في القدس عبر خطاب معيّن، في حين ترى «إسرائيل» في الدعم التركي لحماس تهديدًا مباشرًا لأمنها، والتضاد هنا أيديولوجي واستراتيجي في آنٍ معًا. وعلى صعيد شرق المتوسط تُصرّ تركيا على حقها في التنقيب عن الغاز، في حين تتحالف «إسرائيل» مع اليونان وقبرص ومصر لخلق محور مضاد لتركيا في الغاز والأمن البحري.

لا شك في أنّ الشرق الأوسط في هذه اللحظة التاريخية، يقف على حافة تحوّلات جذرية، حيث يتداخل الصراع على النفوذ مع حروب الغاز والممرّات الاستراتيجية. وفي السياق يُعتبر التنافس التركي - الإسرائيلي أحد أبرز تجليات إعادة التشكيل الجيوسياسي للمنطقة. وبينما تحاول أنقرة إحياء دورها الإمبراطوري كقوة ذات طموح عابر للحدود، تسعى «إسرائيل» للحفاظ على تفوقها النوعي والتوسعي الاستراتيجي في محيط عربي مشرذم وغير مستقر.