- En
- Fr
- عربي
شؤون دولية
في السادس من أيار 2025، انتخب البوندستاغ (البرلمان) الألماني في عمليّة اقتراع مبكّر رجل الأعمال والسياسي المخضرم فريدريش ميرتز Friedrich Merz (70 عامًا) الذي بات المستشار العاشر لألمانيا.
ومعروف أنّ الرجل هو الخصم الأول والعنيد للهجرة، ويقول مؤلفو سيرته الذاتية الصادرة عن مؤسسة كونراد أديناور ”إنّه لم يكن أبدًا راضيًا عن أداء حزبه CDU زمن ميركل لأنّها فتحت الأبواب أمام موجات الهجرة من سوريا ومولدافيا وبولندا وروسيا“، ولهذا أُطلق عليه لقب ”ترامب أوروبا الجديد“. وقيل أيضًا إنّ التربية الأميركية كظاهرة سياسية، انتقلت إلى الجانب الآخر من الأطلسي، تعليقًا على طموح المستشار الجديد تحويل ”النسر الجرماني إلى قوّة رائدة أوروبيًا وعالميًا“. فهل هو كرسي الحكم أم الكرسي الكهربائي لميرتز في زمن تحدّيات بثقل الجبال؟
لم تكن الانتخابات الألمانية السابقة التي جرت في 23 شباط 2025 لتجديد مقاعد البوندستاغ وعددها 630 مقعدًا، مجرّد لعبة ديموقراطية كلاسيكية كما بات الغرب متخصّصًا فيها. بل ارتسمت بروزنامتها ولاعبيها وخياراتها كمساحة لتحوّلات وانعطافات غير مسبوقة. إذ شهدت تصدُّع وحتى انهيار أحزاب تقليدية كانت إلى ماضٍ قريب في واجهة المشهد السياسي، وبزوغ أحزاب أخرى على غرار حزب AFD اليميني المتطرّف الذي استطاع، لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية وولادة جمهورية ألمانيا الاتحادية في 23 أيار 1949 مع أول مستشار هو كونراد أدينارو، اختراق الحواجز والجدران التي وضعها الألمان لحماية ديموقراطيتهم، والبروز كثاني قوّة في البرلمان بعد الاتحاد الديموقراطي المسيحي CDU، الذي أعطى الجمهورية أبرز مستشاريها وألمعهم (هيلموت كول – أنجيلا ميركل).
تحوّلات تحت السطح وفوقه
هذا الحزب المعروف اختصارًا بالأحرف الثلاثة AFD، ويعني بالألمانية «البديل من أجل ألمانيا»، أي Alternative For Deutschland، تأسّس في مدينة برلين في 6 شباط 2013 كردّة فعل على سياسة إنقاذ العملة الأوروبية الموحّدة، اليورو. وفي أول اختبار انتخابي له في العام 2013، لم يتمكّن من اجتياز عتبة الـ 5% من الأصوات المطلوبة لدخول البوندستاغ. لكنّه، ومنذ الصدمة الأولى، عمل على حفر الجبل بالإبرة، وراح يراكم الاختراقات في انتخابات المناطق، سابحًا عكس تيار أنجيلا ميركل، خصوصًا بالنسبة إلى الموضوع الأكثر حساسيّة، وهو الهجرة. وفي العام 2017، حقّق قفزة نوعية، حاصدًا 94 مقعدًا في البرلمان، ومستثمرًا في استغلال الاهتزازات الأمنية التي يتسبّب بها في أغلب الأحيان المهاجرون. وهو يدفع إيديولوجيا العداء للأجانب، ويشكّك في جدوى الاتحاد الأوروبي من 27 دولة، ويعمل مع جماعات اليمين الراديكالي فوق خريطة القارة العجوز. حتى أنّ مصادر المعلومات التي تعكسها مجلات أجنبية عريقة مثل «درشبيغل» وصحيفة «دي فيلت» تكشف أنّ «البديل» مرتبط مع حركات مثل «النازية الجديدة»، ولذلك تراقبه المخابرات الداخلية المعروفة باسم «المكتب الاتحادي لحماية الدستور». وثمة من يدعو إلى منعه لخطورة طروحاته وشعاراته، لكن نصف ألمانيا يؤيّده.
ترامب يغازل ”البديل“
لعلّ AFD هو المأزق الأول للمستشار الألماني العاشر، على مستوى التوازنات الداخلية. والأكثر خطورةً هو أنّ دور الهجرة ليس العامل الوحيد في نجاح هذا الحزب. إذ سلّط تقرير لمجلة الـ «تايم» الضوء على حراك أميركي كان بمثابة الترياق له، ونوع من التزكية. وهنا يقوم الملياردير أيلون ماسك بدور رأس الجسر في هذا الاحتضان. وبعد فرز نتائج انتخابات 23 شباط الماضي، غرّد ماسك قائلًا: «إنّ حزب البديل من أجل ألمانيا وحده قادر على إنقاذ ألمانيا». وتلقّفت زعيمة الحزب «أليس فايدل» هذه التغريدة، ووصفتها بأنّها «هديّة من السماء». وقامت بتسويقها على المستوى الأوروبي، خصوصًا وأنّ حزبها لم يسبق له أن استقطب مثل هذا التأييد الحاسم من قبل بل كان دومًا على الهامش، وداخل كمّاشة الحصار من الساسة الألمان الذين شيطنوه واعتبروا أنّه خطر يهدّد سلامة الأمة الجرمانية. وينقل دبلوماسيون في المفوضية الأوروبية في بروكسل عن نائب الرئيس الأميركي «جي دي فانس» قوله خلال فعاليات مؤتمر ميونيخ للأمن، في نسخته الأخيرة، «إنّ الولايات المتحدة لن تسمح لأوروبا، بعد الآن، بإبعاد اليمين المتطرف عن سياستها». هذه المقولة، في الكواليس، وجدت صدامًا في تصريح فانس على منصة المؤتمر، مؤكّدًا أنّ «إبعاد الناس عن العملية السياسية لا يحمي شيئًا، بل لعلّه الطريقة الأكثر أمانًا لتدمير الديموقراطية». وحسب مجلة الـ «تايم»، يشاطر ترامب اليمين المتطرّف الألماني الشعور بالاستياء، فحزب البديل يرفع شعار «العودة إلى العظمة الألمانية». ويسخر من النخب الليبرالية، ساعيًا إلى تجريدها من السلطة، تمامًا كما فعلت حركة ماغا في الولايات المتحدة الأميركية. والمعروف أنّ MAGA هي اختصار لشعار ترامب الانتخابي، «لنجعل أميركا عظيمة من جديد» الذي أطلقه لأول مرة الرئيس رونالد ريغان في العام 1980. ثم تبنّاه الرئيس كلينتون في العام 1992 وأعاد إحياءه ترامب في العام 2016.
تصحيح العلاقات الألمانية - الأميركية
كيف يواجه المستشار ميرتز هذا التلازم بين الترامبية وحزب البديل وأطياف اليمين المتطرّف؟ اللافت أنّ حزب البديل من أجل ألمانيا استطاع حصاد النسبة الأعلى من الأصوات لليمين منذ الحرب العالمية الثانية، متجاوزًا نظراءه الأوروبيين، ومنتزعًا الموقع الثاني في الهرمية الحزبية الجرمانية. ولذلك زعمت صحيفة الغارديان البريطانية أنّ «مقاومة اليمين المتطرّف يجب أن تصبح الآن جادة وصارمة»، وأضافت أنّ هذا «الاختراق لا يشكِّل فقط تهديدًا للفئات المحرومة والمهمّشة، بل يشمل أيضًا النظام الديموقراطي وارتداداته الأوروبية...». لا شك في أنّ هذا التحوّل المفصلي في الموازين السياسية الألمانية يُرتِّب على المستشار ميرتز خيارات جديدة لتعويم نفسه، وحزبه، وائتلافه، وألمانيا ذاتها بوصفها القوّة الاقتصادية الثالثة عالميًا وقاطرة للاتحاد الأوروبي. وقد بادر إلى تسجيل مواقف حاسمة بعد ظهور نتائج أقلام الفرز في 23 شباط 2025، قائلًا: «لم أتصوّر يومًا أنّني سأتفوّه بهذا الكلام: سأعمل على تحقيق استقلال بلادي عن الولايات المتحدة»، مما أحدث صدمة سياسية وإعلامية على أساس أنّ هذا الموقف غير مسبوق للسياسة الألمانية في عصر ما بعد أديناور، وكول، وأنجيلا ميركل... وسارعت «لوموند» الفرنسية إلى التعليق على هذا الانعطاف، فرأت أنّ ميرتز تعلّم الدرس من الزلزال الجيوسياسي الراهن، وهو يلتزم الوحدة الأوروبية، ويتلازم مع فرنسا، بوجه ترامب وبوتين معًا. ولذلك كانت أول زيارة له بعد فوزه في البوندستاغ، إلى قصر الإليزيه. وهو تقليد يرقى إلى زمن المستشار المؤسّس مونراد أديناور الذي أرسى حجر الزاوية لتفاهمات بعيدة المدى مع الجنرال شارل ديغول... وفي إطار الثنائية بين برلين وباريس، يبدو ميرتز أكثر حماسةً وأعمق التزامًا من سلفه أولاف شولتز الذي دفع ثمن تردّده السياسي في انفجار ائتلافه اليساري وفقدان البوصلة.
نقاط اختلاف وائتلاف
منذ أن تسلّم منصبه رسميًّا في 6 أيار 2025، وأطلق ائتلافًا حكوميًّا ضمّ إلى جانب حزبه «الاتحاد المسيحي الديموقراطي»، «الحزب الاشتراكي» بقيادة المستشار السابق أولاف شولتز، عكف ميرتز على معالجة العقدة الأميركية، خصوصًا وأنّ العلاقة مع الإدارة الترامبية باتت نقطة محورية في معظم الأزمات التي تواجه برلين. حتى الوضع الاقتصادي بات شديد التأثير بقرارات البيت الأبيض وبقدرة برلين على ترميم الجدران المتصدّعة معها. وقصة الرسوم الأميركية على صناعة السيارات الألمانية باتت معروفة، وقد شكّلت مصدر قلق بالغ في برلين.
لعب ميرتز كمايسترو اقتصادي على الاتحاد الأوروبي، دورًا حاسمًا في تبريد جمر الحرب التجارية. فقد منع الرسوم المضادة وفاوض على اتفاق تجاري جديد، رافعًا شعار «صفر إجراءات وإجراءات معاكسة». وتكشف فصلية «قضايا دولية» الفرنسية في عددها الخاص عن ألمانيا، الرقم 127 (أكتوبر – ديسمبر 2024) أنّ إدارة ترامب لم تكن تعير المستشار المنتهية ولايته أولاف شولتز أي اهتمام حتى أنّ نائب الرئيس الأميركي، جي. دي. فانس رفض لقاءه على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن، في منتصف شباط 2025، كما درجت العادة. ولعلّ الأنف الأميركي الطويل تلمّس خسارة شولتز الانتخابية... وأنّه بات في الهزيع الأخير من ليله السياسي. وفي الواقع، خسر حزبه السباق الانتخابي، وكان سقوطه مدوّيًا... ولا شك في أنّ ميرتز يجد نفسه في موقع أفضل من شريكه الائتلافي لترميم التصدعات في العلاقات مع اللاعب الأطلسي الكبير، وقبل عودته إلى السياسة التي خرج منها قبل أكثر من عقد، عمل في شركات روّجت للمصالح عبر الأطلسي. وهو قضى وقتًا طويلًا بين نيويورك – واشنطن وسان فرنسيسكو، حتى أن شخصيّته قريبة بعض الشيء من ترامب. فهو ينتمي إلى حزب محافظ وقادم من خلفية عالم المال والأعمال، وشديد الثراء. لكن هذه الملامح المشتركة قد لا تكون كافية لتجاوز الخلافات السياسية الواسعة بينهما، من الاقتصاد إلى أوكرانيا ودور الحلف الأطلسي، فضلًا عن مفهوم القيم الغربية بشكلٍ عام. وهذا ما عبّرت عنه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، وهي ألمانية تنتمي إلى الحزب الديمقراطي المسيحي (CDU) عندما قالت إنّ «الغرب الذي نعرفه انتهى، ولا بدّ من صفحة جديدة وخيارات جديدة للقارة الأوروبية».
قواعد عسكرية أميركية
الثابت أنّ الحرب الروسية لأوكرانية التي بدأت في 24 شباط 2022، أي ثماني سنوات بعد ضم القرم، دفعت سلطات برلين إلى اتّهام موسكو بأنّها تريد تغيير النظام الدولي بالقوّة. وكانت التداعيات ضاربة وجذريّة في ألمانيا، سواء على مستوى البحث عن غاز بديل لاقتصادها، أو على صعيد إعادة تأهيل الجيش الذي دخل في سبات عميق منذ أكثر من 30 سنة. ومنذ حزيران 2021، يوم بدأت روسيا تحشد قوّاتها على الحدود الأوكرانية، أنضجت الطبقة السياسية الحاكمة خطة ضخّ 100 مليار دولار في أوصال المؤسسة العسكرية الألمانية. ويسير المستشار الجديد بها، من زاوية تشدّده في المسألة الأوكرانية، وتحدّي بوتين، فضلًا عن سقوط التابوهات التقليديّة والدخول في عصر مختلف. وهو بذلك يطمئن الرأي العام بأنّه لا حاجة للخوف من روسيا. وعلى صفحات يوميّة «بيلد» الشعبيّة، يقول: «يجب أن لا نخاف، نحن محميّون بجيشٍ ألماني قويّ وحلفاء أقوياء...» بالطبع إنّه يقصد الولايات المتحدة الأميركية التي تملك 38 قاعدة عسكرية في الأرجاء الأربع، أبرزها قاعدة رامشتاين، في جنوبي غربي البلاد، وتضم نحو 50 ألف جندي وأقارب ومتقاعدين، ولعلّها أكبر موقع عسكري أميركي خارج الولايات المتحدة الأميركية وتُشرف على حركة الطيران الأطلسي في باكستان وأفغانستان واليمن والقرن الأفريقي الذي يوجع كل الجالسين فوقه. والثابت أنّ واشنطن تستخدم رامشتاين لأي غارات تقوم بها الطائرات من دون طيّار، في أي بقعة من العالم، وخصوصًا في الشرق الأوسط. وهذا يعني أنّ الأمن القومي الجرماني هو أميركي - أطلسي بالدرجة الأولى، ويسعى المستشار الجديد في خط سلفه وشريكه الراهن في الائتلاف، أولاف شولتز، إلى إعادة نظر جذرية في بنية هذا الأمن وعديد القوات المسلّحة وتخصيص جرعة مالية ضخمة لهذه الغاية. والمعروف تاريخيًّا أنّه خلال الحرب العالمية الثانية، خدم في الجيش الألماني ما يقارب 13.6 مليون متطوّع ومجنّد بعد 17 شهرًا فقط من إعلان الفوهرر أدولف هتلر عن برنامج إعادة التسلّح الألماني في العام 1935، فبات الجيش يضم 36 فرقة وفيلقَين، لكن الهزيمة الكاملة بعد الإنزال الأميركي في النورماندي في 6 حزيران 1944 حوّلت هذا الجيش الجرّار إلى مجموعات تائهة. أما قوامه اليوم فيلامس 184 ألف جندي، وهو يُعتبر ثاني أكبر قوّة عسكرية في الإتّحاد الأوروبي بعد فرنسا من حيث عديد الأفراد، لكنّه يفتقر إلى العدّة والعديد. وكشفت صحيفة «دي فيلت» مؤخّرًا أنّ «الطائرات لا تطير والدبابات لا تسير والمدافع لا تطلق النار...» كل ذلك بسبب اعتماد سياسات تقشفية في الإنفاق على الدفاع انتهجتها بتصميمٍ وعناد المسالمة أنجيلا ميركل. ووفق وزيرة دفاع سابقة هي كريستينه لامبريشت، فإنّ «تسليم أوكرانيا ذخائر من مخزون الجيش الألماني قد فاقم الموقف...» وهنا يُطرح السؤال الساخن: كيف لدولة مثل ألمانيا أحد مؤسسي الاتحاد الأوروبي وتضم قاعدة رامشتاين، كبرى المواقع العسكرية الأميركية في القارة العجوز أن تعاني مثل هذه الثغر في مسائل جوهرية تخصّ الأمن القومي والاستراتيجي؟
طائرات 35F بشحناتٍ نووية
لا شيء يهبط بالباراشوت. «ولا تنبت جذور في السماء» - عنوان رواية يوسف حبشي الأشقر الصادرة في العام 1971- وليس هناك أي ظواهر مادية، سياسية أم عسكرية، إلّا وتجد لها تفسيرًا لفك ألغازها وأسرارها. فالجيش الألماني كُبّل بالقيود من حيث الحجم والتسليح بموجب شروط ومعاهدة فرساي التي أنهت حالة الحرب بين ألمانيا والحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى. وكان من أبرز بنودها ألّا يتجاوز عديده 100 ألف جندي. جاء هتلر ونسف مفاعيل المعاهدة وأسّس جيشًا بهيكليّة كاملة الولاء للنازيين، عديده 18 مليون رجل. وبعد الهزيمة في معركة موسكو في العام 1941، خسر هذا الجيش نحو 10 ملايين جندي بين قتيل ومفقود، ما شكّل زلزالًا عاتيًا ما زالت تداعياته تتردّد حتى اليوم، والجرح لم يبرأ بعد. ويسعى المستشار ميرتز ومعاونوه العسكريون المحيطون به إلى تأسيس جيش قوي، منطلقين من المخاطر التي تنطوي عليها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وتكشف صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية أنّ برلين سوف تنفق بداية مبلغ 8 مليارات يورو على تحديث الجيش وتذخيره بدءًا من العام 2026، وسوف توظِّف مبلغ 40 مليار يورو لشراء طائرات أميركية من طراز 35F قادرة على حمل شحنات نووية متموضعة في ألمانيا. كما تقرّر تخصيص 20 مليار يورو لأنظمة القيادة، و20 مليارًا للبحرية كبوارج وغواصات، و16 مليارًا للضرورات اللوجستية للعسكر (بزّات وذخائر وتجهيزات). ويذهب الجنرال أبرهارد زورن المفتّش العام للقوات المسلّحة الألمانية في اتجاه المستشار ميرتز، ملاحظًا «أنّ الحرب في أوروبا باتت واقعًا من جديد، وبالتالي يترتّب على ألمانيا مواجهة روسيا على الحدود الشرقية لحلف شمالي الأطلسي، وعلينا أن نوفّر قوات قادرة على الردّ وعلى القتال من دون أن ننتظر الدعم من الولايات المتحدة...» ولعلّ تشخيص الخبير العسكري الألماني بول موريس هو الأكثر صدقيّةً وسط هذه المعمعة. وهو يرى أنّه «لكي يصبح الجيش الألماني ذا فعّالية، عليه أن يحرّر نفسه أولًا من الماضي. والميزانية الجديدة لا جدوى منها إذا لم ترافقها استراتيجية، وإذا كانت لشراء عتاد فقط».
معضلة التجنيد والجيش
المشكلة أيضًا في التطويع والتجنيد، كما تقول فصلية «الدفاع الأوروبي» ومجلة DSI (العدد 83) المتخصّصة في التقنيات العسكرية الجديدة. فمنذ الثمانينيات من القرن الماضي، بات الانتماء إلى الجيش مشكلة يعمل الشباب الألماني على تجنّبها. فالجيش ويُسمّى بالألمانية «البوندسفير»، ليس فقط سيّئ التسليح والتذخير بل إنّه عاجز أيضًا عن جذب مجنّدين، على الرغم من حملة إعلانات وإغراءات ركّزت على الرواتب والترفيع، كما على أبعاد إنسانية، مثل حفظ السلام في مالي وكوسوفو ولبنان. ومنذ الحرب الأوكرانية، تزايدت أعداد الفارّين والمغادرين، خصوصًا في صفوف جنود الاحتياط. وصارح ميرتز الشعب الألماني بأنّ جيشه ليس قادرًا على الدفاع عن البلاد خلافًا لسلفه أولاف شولتز الذي طمأنه إلى صلابة الردع الألماني. وأي ردع هذا تتساءل «ديرشبيغل» في مقال افتتاحي ساخر، مؤكّدة أنّ الطبقة السياسية منذ هلموت كول تعتمد على أميركا في حمايتها وتتعاون تكتيكيًا مع هولندا وبولندا وفرنسا على مستوى الاتحاد الأوروبي، والتعويل هو أولًا وأخيرًا على الرؤوس النووية السرّية التي زرعتها واشنطن في عدّة مواقع استراتيجية في ألمانيا. لكنّ الرأي العام الأكثري في المقاطعات أو الأقاليم الألمانية لا يميل البتة إلى التخلّي عن مظلة الحماية الأميركية غير أنّه في الوقت عينه يصرّ على تغيير المشهد وامتلاك واحد من أقوى الجيوش في أوروبا. وقد تلمّس المستشار ميرتز هذا الاتجاه الجارف وأطلق في 22 آذار 2025 خطة «بازوكا للتمويل» التي يُفترض أن تؤمّن نحو 500 مليار يورو للإنفاق الدفاعي حتى العام 2037. وهذا المبلغ يشمل سلّة 100 مليار دولار التي تعهّد برصدها المستشار السابق والشريك الحالي في الائتلاف الحاكم أولاف شولتز فضلًا عن ميزانية الدفاع التقليدية السنوية البالغة 90 مليار يورو. ولا يطرح هذا الإنفاق أي مشكلة تمويلية على حكومة برلين ذات أقوى اقتصاد أوروبي ناتجه المحلي يساوي نحو 5 تريليون دولار أي ضعفَي الناتج المحلي الروسي، وهو الثالث عالميًا بعد الولايات المتحدة والصين، وقبل اليابان والهند وروسيا وبريطانيا وفرنسا. كما أنّ حجم ديونها منخفض جدًّا مقارنة بفرنسا (113% من حجم الناتج المحلي) والولايات المتحدة (123%). وهذا ما يمنح ألمانيا هامشًا واسعًا للاستدانة والإنفاق على التسليح وإعادة نهوض البنية التحتية المتداعية. وحتى الأمس القريب كان مبدأ الاستدانة عبارة عن Tabou أو محظور لا يُمس إلّا في الحالات القصوى والدراماتيكية (جائحة كورونا مثلًا والحرب الأوكرانية). غير أنّ المستشار الجديد استطاع في أسابيع معدودة إقناع الألمان وأكثرية أعضاء مجلسَي النواب والشيوخ بضرورة ركوب هذا المركب الخشن من أجل رفد «النسر الجرماني» بمقومات مواجهة «الخطر الروسي»، والثابت أنّ خطة بازوكا تحصر الاستثمار في الدائرة الأوروبية وتتحاشى المعدات الأميركية.
الديناميكية الاقتصادية الألمانية
لا شك في أنّ الاقتصاد هو الورقة القوية والحاسمة في يد المستشار فريدريش ميرتز كما في السلة الألمانية. ووفق معهد «ديستانيس» للإحصاءات «ما زالت الديناميكية الاقتصادية الألمانية في الأوج على الرغم من الظروف العالمية المحيطة، وأبرزها تعثّر سلاسل التوريد واستمرار ارتفاع الأسعار وتراجع فرص العمل وسيطرة مناخ الإحباط والتشاؤم». هذه الصدمات امتصّتها إسفنجة الريادة والابتكار الألمانية من خلال المنتجات الصناعية والخدمات، علمًا أنّ قطاعات بناء الآلات والسيارات والسلع الكيميائية تتمتّع بسمعةٍ عالمية متميّزة، وهي تضخّ أكثر من ربع الدخل الألماني وتؤمّن نسبة عالية من فرص العمل. وثمة من يتحدّث عن «المعجزة الاقتصادية الألمانية» في إطار رسم خط طويل من الإصلاحات والإنجازات منذ أن خرجت شبه مدمّرة بالكامل من الحرب العالمية الثانية، وتحوّلت مدنها إلى أكوام من الحطام. وعانت من انهيار العملة، وانشطار البلاد إلى شرقية وغربية، ما فاقم الوضع الاقتصادي وزاده تعقيدًا، خصوصًا وأنّ بون اعتمدت النسق الليبرالي والأسواق المفتوحة، أما برلين وراء بوابة براندنبورغ فاختارت النظام الاشتراكي المؤمّم، على الطريقة السوفياتية. حدث النهوض الكبير الذي ما زال متواصلًا وفق إيقاعات تصاعدية ثابتة، وكانت خطة مارشال اللبنة الأولى في هذا المجال، تلتها لبنات وخطوات أخرى أهمّها الدعم المالي الأميركي الهائل. يُضاف إلى ذلك استبدال العملة القديمة بأخرى جديدة، وما سُمِّيَ في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي بظاهرة «نساء الأنقاض» اللواتي أسهمن في إزالة الركام وإعادة بناء المدن والشراكة في ورشة تنظيمها. وقد كان توحيد الشطرين في العام 1990 مُكلِفًا في ضوء تدهور أوضاع الشرقية، ما استلزم استثمارات ضخمة لتحديث بنيتها التحتية. وهذه التركة ما زالت حاضرة في هموم واهتمامات المستشار العاشر الذي يصرّ على التحوّل إلى الاقتصاد الأخضر والطاقة المتجددة، الأمر الذي يستدعي أيضًا إنفاقًا هائلًا في التكنولوجيا والبنى التحتية.
عودة إلى المحرّك الألماني - الفرنسي
في مؤتمر حزب الشعب الأوروبي الذي انعقد في فالنسيا الإسبانية، في 29 نيسان 2025، كشف فريدريش ميرتز عن «خريطة الطريق» التي صاغها مع مستشاريه وحلفائه لحكم ألمانيا في السنوات الأربع القادمة وما بعدها، إذا تمكّن من استنساخ تجربتي هلموت كول وأنجيلا ميركل (16 عامًا أي أربع ولايات لكل منهما). وفي صدارة الأهداف تعزيز الوحدة الأوروبية والقدرات الدفاعية، ومن ثم دعم اتفاقيات تجارة حرّة جديدة ومراجعة معاهدة حماية المناخ والقوة التنافسية، وكذلك خفض عدد المهاجرين الذين يقرعون البوابات الأوروبية، وعاد للتذكير بأنّ الأولوية المطلقة هي لتصليب العود الأوروبي لبلوغ الاستقلال «خطوة خطوة» عن العم سام الأميركي. وهذا الوضع ليس ممكنًا من دون ضخّ الحياة والحيوية في المحرّك الفرنسي - الألماني. وقد ناقش مع الرئيس الفرنسي مسألة الردع النووي الأوروبي وإشكاليات تثيرها المواد الخام والتكنولوجيا والطاقة. وعلى المستوى الداخلي، يتصدّر التصدّي لــ «حزب البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرّف أجندة المفكرة السياسية، يُضاف إلى ذلك تشديد قوانين الهجرة وزيادة حالات الإبعاد عن الحدود حتى ولو اقترنت بطلبات لجوء. واختار المستشار اعتماد الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي لتحديث البيروقراطية في الوظائف العامة، وهو يطمح إلى منافسة الصين في هذا المجال.
سرير واحد وأحلام متعدّدة
مشكلة المستشار مع قصر الإليزيه هي ذاتها داخل الاتحاد الأوروبي وأعضائه. فإذا نظرنا من الخارج لهذه الكتلة البشرية العملاقة التي تتشكّل من 450 مليون نسمة، يُضاف إليهم نحو 4 ملايين كرواتي سوف ينضمّون قبل نهاية العام إلى الاتحاد الذي يصبح 28 دولة، تبدو للوهلة الأولى والعاشرة، متراصّة ومتكاملة، وعلى موجة واحدة، لكن الاقتراب منها والنظر إليها بالأشعة ما تحت الحمراء، أو ما فوق البنفسجية يكشفان عن حزمة خلافات، ورزمة تصدّعات، وجملة تناقضات، خصوصًا في الإطار السياسي. ويمكن العودة إلى اجتماعات الاتحاد الأخيرة في بروكسيل في نهاية حزيران الماضي، وقد أفضت إلى فشل في اعتماد موقف مشترك بشأن تبنّي تدابير رادعة ضدّ «إسرائيل» بسبب بطشها المروّع واليومي في قطاع غزة. وصدر بيان ختامي «مشذِّب ومُلطِّف» يشير في عموميّاته إلى أنّ «سلوك «إسرائيل» ينتهك مبادئ التعاون الوثيق مع الاتحاد الأوروبي»، ورشح أنّ دور برلين أسهم في الحيلولة دون اتخاذ موقف أوروبي أكثر راديكالية إزاء الكيان العبري... حتى أنّ المستشار ميرتز اعتبر أنّ «الأمر غير وارد بالنسبة إلى حكومته» وتصدى بقوة لفرنسا وهولندا اللتين طالبتا بـ «تعليق اتفاقية الشراكة مع تل أبيب حتى تلتزم كل حقوق الإنسان في فلسطين». ودعم الموقف الألماني كل من النمسا، المجر وسلوفاكيا، فيما فرنسا وإسبانيا وقفتا في جبهة واحدة. وتبيّن أنّ ميرتز ما زال في الخط نفسه الذي صاغته المستشارة السابقة أنجيلا ميركل واعتبرت فيه أنّ «أمن إسرائيل مصلحة قومية ألمانية،» وإذ يدعو إلى توثيق العلاقات مع «إسرائيل»، على الرغم من ملامح «المحرقة» التي تتكرّر في القطاع، يراهن في الوقت ذاته على تعاون واسع مع تل أبيب في مجالات الأمن السيبراني والطائرات المسيّرة والذكاء الصناعي. من هنا تقول شهرية «أوروبا» الصادرة حديثًا في باريس إنّ كل طرف في الكونسورسيوم الأوروبي يغنّي على ليلاه، والخلافات أكثر من التآلفات ولعبة المصالح ضاربة وخاربة. ولذلك يمضي ميرتز في الطريق الذي رسمه لبلاده رافضًا أن يتعثّر المسار بسبب الخلافات العديدة، وأدوار تلعبها أطراف لمصلحة ترامب وإدارته. وهنا تشير الأصابع إلى بولندا كحديقة خلفية أوروبية للولايات المتحدة الأميركية.
المراجع
°N- ”selanoitanretni snoitseuQ“ elleirtsemirt euver aL -1 4202 erbmevoN – erbotcO 721
xis rap égirid reissoD – iuh’druojua’d engamellA -2 sesserP – engamellA’l ed setsilaicéps ,setsitilop 4202 – noirtnetpeS ud seriatisrevinu
-eiraM – engamellA’l ed eriotsih ellevuon enU -3 2202 – nirreP snoitidÉ – tnecniV etcidénéB
– siféd xuaevuon sel ,iuh’druojua’d engamellA’L -4 4202 – sespillE : ruetidÉ – fitcelloc egarvuo
– euqitilopoég ed xueruoma eriannoitciD uaevuoN -5 5202 – nolP – enirdeV trebuH











