- En
- Fr
- عربي
مهن حرفية
تراث يفوح عطره من لبنان إلى العالم
تُعدّ صناعة الصابون واحدة من أقدم الحرف التقليدية التي رافقت الإنسان في مسيرته نحو النظافة والعناية بالصحة والجمال. وبين الموروث الشعبي والابتكار، تنقّلت هذه الصناعة عبر العصور والمدن، محافِظةً على قيمتها ومكانتها، قبل أن تجد في بعض المدن المحليّة، مثل طرابلس وصيدا، بيئة خصبة للنمو والتطوّر.
منذ أكثر من ألفَي سنة، بدأت صناعة الصابون في الشرق وتحديدًا في مدينة نابلس في فلسطين، لكنّها لم تكن بالشكل الذي نعرفه اليوم. فهي لم تكن في بداياتها ترفًا يوميًا، بل كانت تُستخدم لعلاج أمراضٍ جِلدية منتشرة في أوروبا مثل الإكزيما والجَرَب وغيرها.
في لبنان، بدأت هذه الحرفة منذ نحو 600 سنة في مدينة طرابلس، التي اشتهرت آنذاك بكونها مركزًا للعلم والتجارة. وفي مدينة صيدا أيضًا، اشتهرت هذه الصناعة في العام 1650 بعد أن استقدمتها عائلة مغربية استقرّت هناك ونقلت عملها إلى المدينة.
طرابلس حاضنة الصابون العلاجي
تعود بدايات صناعة الصابون في طرابلس إلى الكيميائيين الطرابلسيين في زمن الملك لويس السابع عشر، وقد كان الاستحمام محرّمًا في أوروبا في بعض الفترات، ما أدّى إلى انتشار الأمراض الجِلدية، فكان للطرابلسيين دور بارز في تطوير صابون علاجي أسهم في الحد من تلك الأمراض، الأمر الذي دفعهم إلى الانتقال من التصنيع المحلي إلى التصدير، ومن إنتاج الصابون المعطّر للاستعمال اليومي إلى الصابون العِلاجي المعقِّم.
بَرَكة الأجداد
يُعدّ «خان الصابون» في طرابلس من أقدم المعالم الحرفية في المدينة، وقد شكّل لعقودٍ طويلة مركزًا لصناعة الصابون التقليدي المعتمِد على الزيوت الطبيعية والعطور الشرقية. تعاقبت عليه أجيال من العائلات الطرابلسية، فاحتفظ بخصوصيّـته كمكانٍ ينبض بالمهارة والتراث. ومع مرور الزمن، شهد هذا الخان عدّة تحوّلات، أبرزها في مطلع التسعينيات، حين أعاد العطّار بدر حسون إحياء هذه الحرفة بروحٍ جديدة تمزج بين الموروث العائلي والتقنيات الحديثة.
يقول حسون: «بدأت مهنتي في مجال المجوهرات، وفي العام 1985، تعرّض محل المجوهرات الخاص بي في طرابلس للسرقة، وهكذا أصبحت بحاجةٍ إلى مصدر دخل بديل لإعالة أسرتي».
عمل حسون في عدة مجالات، لكنّ التحوّل الحقيقي في مسيرته بدأ في العام 1993، حين زاره أحد كبار العائلة واقترح عليه العودة إلى مهنة الأجداد، أي صناعة الصابون. في البداية، لم يأخذ الأمر على محمل الجد، لكنّ زوجته أبدت اهتمامًا وطلبت من قريب العائلة أن يعلّمهما الأسس الأولى للصناعة. يقول حسون: «رافقنا الرجل لعدة أيام، كما بدأت أبحث في المراجع العائلية والتاريخية عن أسرار هذه الحرفة». وسرعان ما تحوّل المشروع من مجرد وسيلة للعيش الكريم إلى شغف يملأ حياة الرجل، حتى أصبح هذا القطاع بالنسبة إليه أغلى من الذهب نفسه، «بفضل بركة الأجداد»، كما يؤكد.
كانت انطلاقة «خان الصابون» الحديثة مع ابتكار «الوردة المعطّرة» المصنوعة من صابون عضوي، حيث بلغ إنتاجه اليومي منها أكثر من 500 قطعة، ولاقت رواجًا كبيرًا في السوق. واستثمر حسون خبرته السابقة في المجوهرات لتطوير تقنيات نحت الصابون، كما استخدم تقنية العطور الطرابلسية وطوّرها لصناعة إنتاج خاص به.
وهكذا، ومن محلة «ضهر العين» في الكورة – شمال لبنان، عادت صناعة الصابون إلى الواجهة، ممزوجة بعطر التاريخ وهمّة التجديد، لترسم طريقًا جديدًا بين التراث والحداثة.
خان الصابون اليوم
أعاد حسون إحياء خان الصابون بروحٍ جديدة تقوم على الجمع بين التراث الحِرفي والابتكار في الصناعات الطبيعية. وكانت البداية مع ”صابونة الوردة“ التي أشرنا إليها، وهي مثّلت نقطة تحوّل في مسيرته، إذ فتحت أمامه آفاقًا جديدة لطالما حلم بها. وبفضل ما حملته من تميّز، باتت هذه الصابونة اليوم هدية رمزية يقدّمها للضيوف، وليست مخصّصة للبيع.
تدريجيًا، طوّر مصنعه للصابون العضوي مستندًا إلى تقنيات طرابلسية قديمة في صناعة العطور قام بتحديثها لتلائم منتوجاته، فقدّم صابونًا معطّرًا طبيعيًا بالكامل. كما دخل مجال الصابون العلاجي، ومن أبرز منتجاته «صابونة العلاج بالعطور» (Aroma Therapy)، التي استوحاها من اختصاص جامعي نشأ في فرنسا، وتقوم فكرته على الاستفادة من الخصائص العلاجية للعطور. وقد استضاف خان الصابون عددًا من المحاضرات والندوات العلمية المتخصصة في هذا المجال، شارك فيها خبراء لنقل تجاربهم وخبراتهم العملية.
اليوم، يشتهر خان الصابون – بدر حسون بجودة منتجاته وتنوّع فوائدها. فهناك مثلًا، ما يُسمى بـ «مجموعة الحكماء» والتي تشمل منتجات لعلاج عدة أمراض جلدية ومكافحتها، إلى جانب عطور وكريمات للبشرة مستخرجة من مواد أولية طبيعية مثل اللافندر، وإكليل الجبل، والورد، وغيرها من الأعشاب والنباتات العضوية.
ورغم التحديات المتزايدة، لا سيّما مع الأزمة الاقتصادية وظهور منافسة من منتجات صناعية منخفضة الكلفة، يظلّ العمل الحِرفي في هذا القطاع متفرّدًا وغير قابل للاستنساخ. فكل منتج يحمل بصمة صانعه، ويجسّد مستوى احتراف يصعب بلوغه، ما يجعل من هذه الصناعة مقاومة للزوال في وجه الزمن والتحوّلات.
حكاية أخرى من صيدا
في صيدا، تسير حكاية صناعة الصابون في مسار موازٍ، تحمله رائحة التاريخ وذاكرة الأجداد. فقد أسّست عائلة حمود، ذات الأصول المغربية والتي استقرت في لبنان في العام 1650، مصنعًا للصابون في المدينة، عملت فيه وفق طريقتها التقليدية المستمَدة من الخبرة المغربية. وفي العام 1880، انتقلت ملكية المصنع إلى عائلة عودة الصيداوية، التي بذلت جهودًا كبيرة في تطويره واستثماره، حتى أصبحت صناعة الصابون البلدي من أبرز معالم المدينة ومصدر فخر لأهلها والمنطقة بأكملها.
لكن هذه الصناعة واجهت انتكاسة كبيرة مع اندلاع الحرب في العام 1975. فقد اضطرت العائلة المشغّلة للمصنع، وهي من منطقة دوما في شمال لبنان، للعودة إلى قريتها، ما أدى إلى توقف العمل، وتحوّل المصنع لاحقًا إلى مركز لإيواء عددٍ من النازحين الهاربين من الحرب.
في العام 1996، بادر الوزير السابق ريمون عودة إلى ترميم المصنع، إلا أنّه لم يُعِد تشغيله كمنشأة إنتاجية، بل حوّله إلى متحفٍ غايته إحياء تراث صناعة الصابون البلدي وتسليط الضوء على هذه الحرفة التي بدأت تندثر في وعي الأجيال الجديدة. وقد حقق المتحف هدفه، إذ بات يشكّل محطة ثقافية تُعرّف الزوّار، وخصوصًا الشباب، على فوائد الصابون الطبيعي للبشرة والجسم، وعلى إرث مهني عريق متجذّر في ذاكرة صيدا.
إلى جانب ذلك، يقدّم متحف ”عودة“ عرضًا متكاملًا لتراث المدينة من خلال توثيق عناصرها المعمارية مثل الأحجار القديمة والقناطر والأبنية التاريخية، ما جعله مقصدًا للسيّاح اللبنانيين والأجانب على حدّ سواء.
تحديات وعوائق
تأثّر متحف الصابون في صيدا، شأنه شأن العديد من المعالم الثقافية والسياحية في لبنان، بالأزمات المتلاحقة التي عصفت بالبلاد في السنوات الأخيرة. فقد أدّت الظروف الاقتصادية الصعبة، والعدوان الإسرائيلي على لبنان في العام الماضي، إضافةً إلى التوترات الأمنية المتقطعة، إلى تراجع كبير في عدد الزوّار، الذي كان يراوح سابقًا بين 400 و500 زائر يوميًا يتوافدون من مختلف أنحاء العالم، لكن ومع تحسّن الظروف عادت الحركة إلى هذا المرفق. وللحدّ من الأعباء التشغيلية التي تُثقل كاهل إدارة المتحف، لا سيّما تلك المرتبطة بالصيانة، وتكاليف الطاقة والمولدات، والإضاءة، تمّ اعتماد رسم دخول رمزي كمبادرة دعم ذاتي للمحافظة على استمرارية العمل.
يؤدي المتحف اليوم دورًا يتجاوز كونه معلمًا تراثيًا، إذ بات يسهم في تثقيف المجتمع المحلي من خلال تنظيم ندوات ثقافية، ودروس في الموسيقى والفنون والمهن الحرفية تُقدّم لمن يرغب على يد محترفين واختصاصيين. وتُشكّل هذه المبادرات مساحة حيّة للحفاظ على التراث اللبناني، وتعزيز الهوية الثقافية، وإيجاد فرص للتواصل بين الأجيال، في وقت يحتاج فيه المجتمع اللبناني إلى مثل هذه المساحات لإعادة ترميم ذاكرته وتعزيز صموده في وجه الأزمات.
أصل التراث العابق
في عالم صناعة الصابون العضوي، الذي يحمل في مكوّناته عبق التراث، تتمّ عملية الإنتاج عبر أربع مراحل لاستخلاص المواد الأولية المستخدمة في الصابون والعطور من النباتات. هناك أولًا، التقطير distillation إذ تُستخرج الزيوت العطرية والمياه العشبية. يلي ذلك النقيع، ويقوم على استخراج المستخلصات التي تكون إما زيتية، أو كحولية أو مائية (مثل زيوت الكينا، زيوت الورد، كحول إكليل الجبل…). ثالثًا، تتم عملية العصر باستخدام آلات خاصة للحصول على المادة الأولية. وأخيرًا تأتي مرحلة التجفيف والطحن عبر أدوات وآلات دقيقة لكل نوع على حدة.
بعد استخلاص المواد الأولية العشبية المطلوبة في صناعة الصابون والعطور، تُحفظ هذه المواد في مستودعات خاصة وفق معايير جودة عالمية، وتخضع للفحص والموافقة المخبرية. وعندما تتبلور فكرة المنتج، يتم تنفيذها أولًا في مصنع مصغّر وتجربتها في مختبر أولي، وكما يعبّر العطّار بدر حسّون: «الفكرة من الروح إلى اليد». تُنقل التركيبة بعد ذلك إلى المصنع المركزي، لكن قبل الشروع في الإنتاج، تُجرى سلسلة من الفحوصات الكيميائية والعطرية الدقيقة، للتأكّد من خلوّ المواد والأدوات وأيدي العاملين من أي شائبة أو تلوث جرثومي.
قبل التعبئة، تُجرى اختبارات لتوافق المكونات مع بعضها البعض، إذ قد تتعارض خصائص بعض المواد الأولية، ممّا يستدعي تعديل التركيبة. كما يخضع المنتج النهائي وعبوته لفحص ميكروبيولوجي صارم، وبعد التأكد من سلامة المنتج كيميائيًا وبيولوجيًا، ينتقل إلى مرحلة التغليف والتسويق. ويحتفظ الخان بعينة من كل منتج يتم تصنيعه، وتُوثّق تركيبته في ملفات ورقية ورقمية. أما الصابون تحديدًا، فيُفحص من حيث درجة الحموضة (PH)، ونسبة الرطوبة، والدهون، لضمان جودته وثبات خصائصه.
في خان الصابون – بدر حسون، يستطيع الزائر تتبّع مختلف المراحل التي تمر بها صناعة الصابون ومنتجات الخان، من العشبة المزروعة في الحقل إلى آخر مرحلة من التصنيع فالتغليف والتسليم إلى المستهلك. فالخان متمركز ضمن قرية بيئية مكتفية ذاتيًا لا تهدر شيئًا: بقايا إكليل الجبل تُحوّل إلى سماد عضوي، والحشرات التي تصيب النباتات تُستثمر أحيانًا لأغراض صبغية، كما في حالة الحشرة التي تصيب أوراق الصبّار وتُنتج لونًا أرجوانيًا طبيعيًا يُستخدم في التلوين. هكذا، يؤسّس الخان لاستدامة صناعية تراعي البيئة وتُحصّن مستقبله.
وفي متحف آل عودة للصابون في صيدا، يستمر هذا التراث العريق وإن تبدّلت وظيفته من إنتاجية إلى توثيقية. فالمتحف لا يكتفي بعرض أدوات الماضي، بل يسلّط الضوء على المهنة بعيون معاصرة، مستهدِفًا الأجيال الصاعدة، التي باتت أكثر وعيًا بفوائد الصابون الطبيعي وأبعاده البيئية والصحية. ورغم التحديات، تُصرّ العائلة القائمة على المتحف على عدم التفريط بهذا الإرث، بل تعمل على تحويل الصعوبات إلى فرص لإعادة إحياء هذا القطاع التراثي اللبناني العريق.
من الشمال إلى الجنوب، تتواصل المساعي الحثيثة لإبقاء صناعة الصابون حيّة بفضل أيادٍ تُؤمن بعمق هذا التراث، وبعطرٍ ما زال يفوح من لبنان إلى العالم، حاملًا حكايات الأرض، والعائلة، والهوية.











