من واقع الحياة

العمل في عدة وظائف بابٌ للعيش الكريم أم قنبلة موقوتة؟
إعداد: المعاون كرستينا عباس

في ظل الضغوط الاقتصادية المتفاقمة والتراجع المستمر في القدرة الشرائية، بات العمل في أكثر من وظيفة خيارًا شبه إلزامي لكثير من اللبنانيين. لكن خلف هذا ”الحلّ المؤقت“، تكمن تساؤلات جدّية: ما الثمن الذي يدفعه الإنسان لقاء تعدد الوظائف؟ وما تداعيات هذا النمط من العيش على صحته النفسية والجسدية، وعلى علاقاته الاجتماعية؟ وبين ضرورته كخيارٍ مالي لا مفرّ منه، ومخاطره كعبٍء ثقيل يُلقي بظلاله على مختلف جوانب الحياة، هل يُعد العمل في أكثر من وظيفة أمرًا لا بدّ منه، أم أنّه قنبلة موقوتة تهدّد بالانفجار في أي لحظة؟
تعدد الوظائف في لبنان ليس ترفًا ولا طموحًا مهنيًا، وإنّما وسيلة للبقاء وتلبية الحاجات الأساسية، وسط واقع معيشي ضاغط يفرض إيقاعًا سريعًا ومجهدًا على الأفراد. فمع انخفاض قيمة الرواتب بشكلٍ ملحوظ، اضطر عدد كبير من المواطنين إلى البحث عن سبل جديدة لزيادة دخلهم وتأمين حاجاتهم الأساسية ومتطلبات عائلاتهم، فكان اللجوء إلى وظيفة إضافية أو أكثر خيارًا لا مفرّ منه للحفاظ على مستوى معيشي مقبول ضمن إطار قانوني.
وقد تنوّعت أساليب التكيّف مع هذا الواقع؛ فالبعض اختار الجمع بين وظيفته الأساسية وعمل غير ثابت، مثل المهن الحرة أو العمل عند الطلب، في حين فضّل آخرون وظيفة بدوام جزئي إلى جانب عملهم الأساسي، ولجأ بعضهم إلى وظيفة ثانية بدوامٍ كامل.
لكن تعدّد الوظائف لا يخلو من تأثيرات مختلفة، تتباين وفق طبيعة العمل الإضافي الذي يزاوله كل فرد. فبينما تتطلب المهن الحرة أو الوظائف الجزئية جهدًا أقل نسبيًا، فإنّ الجمع بين وظيفتين بدوامٍ كامل يستنزف طاقة العامل بشكل أكبر ويقلّص أوقات الراحة التي يمكنه الحصول عليها.

 

إجهاد مزمن فاكتئاب…
يحمل العمل في عدة وظائف في الظاهر جوانب إيجابية مختلفة. فهو يمكّن الفرد من زيادة الدخل والحفاظ على مستوى معيشي لائق، والتخفيف من وطأة الأعباء المالية المتزايدة. إلى ذلك، قد يشكّل العمل في مجالٍ مغاير لمجال الوظيفة الأساسية فرصةً لاكتساب خبراتٍ جديدة وتنمية المهارات المهنية، مما يعزز كفاءة العامل ويزيد من فرصه المستقبلية.
كذلك، يفتح تعدّد الوظائف المجال أمام الفرد للتفاعل مع بيئات عمل مختلفة، ما يسهم في توسيع شبكة علاقاته المهنية والاجتماعية. ومع تنوّع المهمات وتعدّد المسؤوليات، يشعر كثيرون بزيادة في الإنتاجية والقيمة الذاتية، ما ينعكس إيجابًا على ثقتهم بأنفسهم وإحساسهم بالرضى وتحقيق الذات. وفي حالات معينة، قد يكون الانشغال بأكثر من وظيفة وسيلة فعالة للتخلّص من الفراغ أو الهروب من ضغوطٍ شخصية أو اجتماعية، ما يوفّر نوعًا من التوازن النفسي المؤقت.
في المقابل، لا يخلو تعدّد الوظائف من آثارٍ سلبية قد تخلّف انعكاساتٍ خطيرة على المدى البعيد. تقول الدكتورة عايدة عبود، الاختصاصية المعالجة في علم النفس، إنّ «أكبر خطر يواجه الأشخاص الذين يعملون في أكثر من وظيفة هو الإرهاق الناتج عن الضغط الجسدي والذهني المترافق مع زيادة ساعات العمل». وتضيف: «هذا الإرهاق يؤدي تدريجيًا إلى انخفاض القدرة على التركيز، وبالتالي إلى تراجع الأداء والإنتاجية.»
كذلك، فإنّ المهمات المتعدّدة تحاصر العامل في دوّامةٍ تستنزف طاقته وتُثقِل تفكيره، نتيجة جهده المستمر للتوفيق بين متطلبات الوظائف المختلفة، والسعي للقيام بعمله على أكمل وجه. هذا الضغط المستمر قد يدفع به إلى حالة من الاحتراق النفسي (Burnout)، فيشعر وكأنه مشلول، غير قادر على الاستمرار بالوتيرة نفسها.
وتحذّر الدكتورة عبود من أنّ هذا الإجهاد المزمن قد يتطوّر إلى حالات من القلق أو الاكتئاب، نتيجة التوتر المفرط ومحاولات الإيفاء بجميع الالتزامات، ما ينعكس سلبًا على الصحة النفسية والجسدية. وتلفت أيضًا إلى أنّ الضغط المتواصل قد يؤدي إلى أمراض جسدية مثل ضعف المناعة، واضطرابات في القلب أو المعدة، إلى جانب أمراض «نفس-جسدية»، وهي الأوجاع التي يشعر بها الإنسان في الجسم من دون وجود سبب عضوي مباشر، كآلام الرأس أو الظهر أو المعدة. وفي بعض الحالات، يمكن أن يتسبب الوضع النفسي الضاغط بطفرات جلدية، هي وسيلة يلفظ من خلالها الجسم التوتر المكبوت داخله.

 

قنبلة موقوتة
في السياق، تؤكد الدكتورة عبود أنّ «النوم حاجة أساسية للإنسان، فهو غذاءٌ للنفس والجسد وخصوصًا النوم العميق، الذي يسمح لخلايا الدماغ بأن تتجدّد وترتاح استعدادًا ليومٍ جديد من النشاط والتركيز والحيوية». وتوضح أنّ النوم الجيد يعزّز قدرة الجسم على التحمل، ويخفّض نسبة التعب والتوتر، ما يسمح للمرء أن يبدأ يومه بنشاطٍ وجودة وإنتاجية. وفي المقابل، فإنّ قلّة النوم الناتجة عن تعدّد الوظائف وساعات العمل الطويلة، تؤدي إلى خمولٍ دائم يرافق الفرد، فيبدأ يومه بأقل طاقة ممكنة مع عصبية أكثر وحساسية أكبر إزاء كل ما يمكن أن يمر به خلال اليوم من أحداث ومواقف، ما يفقده القدرة على التعامل بمرونة مع الضغوط اليومية والمواقف البسيطة، حتى يصبح رد فعله مبالغًا فيه فيتأثر لأي سببٍ كان حتى لو لم يكن جوهريًا ويغضب بسرعة من أي موقف سخيف.
وعلى المدى البعيد، يسبّب العمل المفرط اضطرابات جسدية ونفسية نتيجة تراكم التوتر والتعب، وقد يصل المرء إلى حد الـburnout كما سبق وذكرنا، أو دخول المستشفى بهدف تعويض ما خسره من فيتامينات ومعادن من جراء إهمال حاجات جسمه بسبب الضغوطات وقلة الوقت. وفي هذه الحالة، يصبح العمل الإضافي بمنزلة قنبلة موقوتة تهدّد بالانفجار في أي لحظة، حاملةً معها تداعيات قاسية على الصحة الجسدية والنفسية. إذ إنّ كل يوم يمرّ من دون استراحة حقيقية يراكم في الجسد والذهن توتّرًا مكبوتًا، سرعان ما ينفجر بشكل فجائي ومؤذٍ، كأنّ فتيلًا تم سحبه ببطء لإطلاق كل ما كان محقونًا في الإنسان من ضغوطات وتوترات.

 

لا اجتماعيات
تُعد الحياة الاجتماعية جزءًا أساسيًا من حياة الإنسان، إذ تتيح له التفاعل مع الآخرين وتعزّز رفاهيته النفسية والجسدية. غير أنّ الانشغال في أكثر من وظيفة وخصوصًا إذا كانت بدوام كامل، يُقوّض هذا الجانب من الحياة، ويقلّص الوقت المخصص للعائلة والأصدقاء. فحين يمضي الفرد يومه متنقّلًا بين وظائف متعددة، بالكاد يتبقى له متّسع لحضور المناسبات أو المشاركة في الأنشطة الاجتماعية، ما يؤدي إلى تراجع الروابط وتنامي الشعور بالعزلة. ويزداد هذا التحدي إذا كانت إحدى الوظيفتين في منطقة جغرافية بعيدة، الأمر الذي يستنزف مزيدًا من الوقت والطاقة.
إلى ذلك، فإنّ التداعيات السلبية للإجهاد على الصحة النفسية والجسدية ينعكس بدوره على التفاعل الاجتماعي مع الآخرين. فحين يشعر الشخص بالتوتر والإرهاق المستمر، يصبح أقل قدرة على التواصل الإيجابي مع الآخرين، وأكثر ميلًا للانغلاق والانعزال. وكذلك، عندما يعمل الشخص لساعاتٍ طويلة تكاد تغطي نهاره كله، يصبح التوازن بين العمل والحياة الشخصية أمرًا صعبًا للغاية، ما يضطر البعض إلى التضحية بأوقاتهم الاجتماعية لمصلحة العمل، الأمر الذي يجعلهم عرضة للشعور بالندم أو الإحباط، نتيجة الإحساس بالتنازل المستمر عن حاجاتهم الاجتماعية. وهكذا، يتحوّل تعدّد الوظائف من وسيلة لدعم الدخل وتحقيق الذات، إلى عبء ثقيل يعزل الإنسان عن محيطه، ويهدّد صحته النفسية والاجتماعية على حدّ سواء.

 

بعض النصائح
بغية تفادي المخاطر الصحية والنفسية الناتجة عن ممارسة أكثر من وظيفة، تقدّم الدكتورة عبود بعض النصائح، ومن أهمّها تخصيص فترات للراحة والاسترخاء وعدم تحميل الجسد والعقل فوق طاقتهما. وتقول في هذا السياق «لا يمكن لأحد أن يكون سوبرمان»، في إشارة إلى ضرورة إدراك حدود التحمل البشري وعدم تجاهل إشارات الإرهاق.
وتوصي بممارسة أي نوعٍ من النشاطات سواء كان رياضيًا أو فنيًّا أو ثقافيًا، وتخصيص وقتٍ محدد له ضمن البرنامج اليومي. فالنشاطات هي بمنزلة شحن دوري للنفس والجسد، يساعد على الحفاظ على التوازن النفسي والجسدي، ويمنح الإنسان طاقة متجددة لمتابعة مهماته من دون أن يخبو وهجه أو تتراجع إنتاجيته.
من جهةٍ أخرى، يقدّم موقع coaching de carrière الفرنسي بعض النصائح التي يمكن اعتمادها من أجل حسن تنظيم العمل في عدة وظائف. من أبرزها استخدام أدوات رقمية تسهم في كسب الوقت وتسهيل التنسيق بين المهمات والوظائف المختلفة، ومن بينها Google Drive، Microsoft Teams وغيرها. كما يمكن خلق مدوّنة شخصية «Blog» تساعد في حسن توثيق الملفات الخاصة بكل وظيفة وتنظيمها، ما يسهّل الرجوع إليها ويعزز سرعة الإنجاز.
كذلك، من المهم اعتماد الشفافية مع المدريرين في كلا الوظيفتين، فالصراحة تفتح باب التفهّم والمرونة، وتُكسب العامل ثقة أكبر ما دام يلتزم واجباته.
ومن الضروري أيضًا، قبل اختيار وظيفة إضافية، أخذ عدة عوامل في الاعتبار، أبرزها عدم تضارب المواعيد بين الوظيفتَين، وإدارة الوقت بما يضمن أداء المهمات من دون تداخل أو تقاطع. وتشير الدكتورة عبود إلى أنّه من الأفضل اختيار مهنة حرة أو وظيفة بدوامٍ قصير نسبيًا، بما يسمح بإعادة شحن الذات واستعادة التوازن بعد فترات الضغط.
وتلفت إلى خطورة تضارب المصالح بين الوظيفتين، محذّرة من اختيار وظائف قد تتضارب مصالحها، لأنّ ذلك يضع العامل تحت ضغط إضافي كأنّه بين «شاقوفَين».
في المحصلة، فإنّ الشخص الذي يزاول أكثر من وظيفة عليه أن يحرص على عدم إهمال أي جانب من جوانب حياته، سواء العاطفية، أو الصحية أو الاجتماعية. فالتوازن بين العمل والحياة هو المفتاح الأساسي للاستمرارية والنجاح. وفي حال لم يُحسن إدارة وقته وجهده، فقد يجد نفسه أمام خسائر فادحة على مختلف الأصعدة، من دون أن يدرك ذلك إلّا متأخرًا.