ظواهر

«آرابيش» وابتكارات أخرى ماذا يتكلم أولادنا؟
إعداد: روجينا خليل الشختورة

ضاقت بهم اللغة أم ضاقوا بها وبنا!


أهي اللغة تضيق بهم أم أنهم يضيقون بها فينطلقون باحثين عن مفردات وعبارات جديدة؟ أهو تأثير العولمة وعصر التكنولوجيا والسرعة، أم كل ما سبق ذكره وأكثر منه؟
للشباب في عصرنا (كما في كل عصر) مفرداتهم وعباراتهم، بل ولغتهم التي تتوافق مع نمط حياتهم بمختلف جوانبه: الزي، الموسيقى، الطعام، وسوى ذلك.
وإذا كانت اللغة الفصحى تتطور لتواكب عصرها وتستوعب المستجدات، فإنّ اللغة المحكية أسرع في مواكبة العصر وفي التقاط نبضه. لذلك فإنّ التعبير من خلال اللغة المحكية خصوصًا، يتغير ويتبدل من جيل إلى جيل، وروحية العصر تتجلى في لغته كما في مختلف أوجه الحضارة.
إن مصطلحات الشباب اليوم وتعابيرهم جزء من سعيهم إلى تحقيق فرادتهم وتمايزهم كجيل من جهة، ونتيجة لمواكبة اجتياح التكنولوجيا جميع مفاصل الحياة اليومية من جهة أخرى، وذلك سواء استعملوا اللغة العربية أو لغة أجنبية (الإنكليزية غالبًا) أو مزجوا بين الاثنتين.


«تعقيد»! «حبيت»! «واو»...
ربما كانت العولمة هي التفسير المنطقي لاستخدام الشباب بعض المفردات الأجنبية في لغتهم التي جمعت اللهجات المحلية المختلفة ووحّدتها في لهجة مدينية شبابية ينطق بها الشاب الهارب من مفردات لهجته المحلية، التي قد تشير إلى خلفيته الاجتماعية، بينما يسعى هو إلى التغلغل في المجتمع المعاصر والاندماج به. لكن في موازاة استعمال المفردات الأجنبية، تظهر كلمات وعبارات محلية توظف في مدلولات أخرى بعيدًا من معانيها ومدلولاتها الأساسية.
كذلك، وفي عصرٍ أصبح فيه الكومبيوتر والهاتف الخلوي في كل مكان وكل زمان، بمتناول الفئات والأعمار كافة ولا سيما الشباب منهم، غزت لغة الوسائل الرقمية مفردات ورموز تتجسد في خطاب يومي إنتقل من إطار المشافهة أي اللغة المحكية إلى الحيز الكتابي عبر الهاتف والإنترنت، وتمدد ليجد طريقه إلى لغة الإعلان وأسماء المحلات وغيرها.
«حبيت»، «واو» (WOW)، «سيّفتا»، «شو جغل»، «تي سي»، «مش قاريك»، «برشتو»، «عجقة ما بتفهم»، «تعقيد»... كثيرةُ هي المفردات والعبارات والمصطلحات التي نسمعها في أيامنا هذه وقد لا يفهمها كثيرون منا، ليس بسبب قلة ثقافتنا أو جهلنا بل لأنّها مصطلحات فريدة من نوعها خص جيل الشباب نفسه بها.
كلمات مثل «مهيبر»، «بيسطّل»، «زمّيا»... هي كلمات قد لا ترتقي إلى الذوق العام الاجتماعي إذا ما استخدمت خارج النطاق الشبابي، وإذا سألت عن معانيها يأتي الجواب ساخرًا: «وين بعدك؟»، وهذه عبارة شبابية أخرى استنكارية معناها ما هو موقعك من «الإعراب» أو شيء من هذا القبيل.
بين الشابات، قد تكون اللغة أنعم قليلاً تحتوي مفردات وصفية أخرى مثل «أكلس شي» و«أكوت شي» وغيرها من العبارات التي تتسرب تدريجًا إلى المجتمع وتخرج من إطار الإستعمال الساخر إلى الاستعمال التلقائي وكأنها إبنة لغتنا «أبًا عن جد».
وتختلف «اللغة» من تجمّع شبابي إلى آخر، فالمفردات والتعابير التي يستخدمها الشباب في الجامعات والمدارس في بيروت مثلاً، هي غير ما يتداوله شباب الجامعات والمدارس في الشمال أو الجنوب.

 

آرابيش
من جهةٍ أخرى، ظهرت «الأرابيش» كلغة مبتكرة تقوم على كتابة الأحرف العربية المنطوقة ودلالاتها الصوتية بأحرف لاتينية وأرقام أجنبية، وهي مستوحاة من لغة الإنترنت والمحادثة الإلكترونية. فمن البدهي القول إن هذه اللغة ولدت مع انتشار استخدامات التكنولوجيا الحديثة، الأمر الذي أدى إلى انتشار رموز ومفردات لغوية جديدة في أوساط الشباب كونهم أكثر المستخدمين لها. وتترجم هذه الرموز حروفاً عربية بعينها، وقد تعبّر عن اختصارات لجمل لغوية كاملة. أما ميزة اللغة الجديدة فهي في كونها غير عربية ولا إنكليزية، وإنما مزيج من اللغتين لذلك أصبح اسمها «Arabish» كما يسميها الشباب، أي الجزء الأول من كلمة «Arabic» والجزء الأخير من كلمة «English».
تتميز هذه اللغة الشبابية بأنها ذكية ومبتكرة، إذ استطاعت أن تجد بدائل إنكليزية لكل الأحرف العربية من دون استثناء. فحرف الحاء أصبح يرمز إليه بالرقم (7) لتقارب رسميهما، وبدل القول «مرحبا» بحرف  «h»، بات يكتب بالرقم «mar7aba»، كذلك حرف العين الذي يشبه الرقم  (3) فيمكن القول «3ala» بدل «على»، أما الهمزة فتستبدل بالرقم (2) وحرف الطاء بشبيهه الرقم (6) والصاد يستعاض عنه بالرقم (9) المشابه له. كما يعمد المتحدثون بـ «الأرابيش» إلى إضافة نقاط على هذه الأرقام لترمز إلى حرفي الضاد أو الظاء، ولم يكن هذا الابتكار بالأمر السهل، لكن الحاجة دائماً أمّ الاختراع!
لم تكتفِ هذه اللغة الشبابية المستحدثة باختصار الكلمات بالأحرف، بل تعدتها إلى اختصار المشاعر أيضًا من خلال التعبير بالرموز لتظهر النقطتان إلى جانب قوس متجه إلى اليمين للتعبير عن الابتسام مثلاً، والى جانب قوس متجه إلى اليسار للتعبير عن الحزن.
استخدام هذه اللغة لا يقتصر على اللغة العربية فحسب، بل تعداها إلى اللغة الانكليزية بحيث تلعب الارقام أيضاً دورًا مهمًا فيها، وخصوصًا الرقمان (2) و(4)، اذ يستعملان مكان كلمتي «إلى»  (to)  و«لأجل» (for).
لكنّ التطور الأكثر إثارة للاهتمام هو تبني الرقم (3) كبديل للحرف «E» والرقم (8) كبديل للفظ «eight» بالانكليزية، اذ تستعمل  «gr8» بدلاً من «great». ومن المختصرات العالمية التي طرأت على اللغة الانكليزية ايضاً، استعمال حرف «u» بدلاً من «you» و «b4» بدلاً من «before» و«cu» بدلاً من «see you».
خرج أسلوب هذه الكتابة من إطار الهواتف والكومبيوترات ليدخل إلى الشوارع والأحياء، إذ يصادف المرء أفرانًا ومطاعم ومحالاً تجارية أو حتى برامج تلفزيونية تتبع الأسلوب نفسه في كتابة أسمائها.

 

رأي علم اللغة والتواصل
يرى الدكتور غسان مراد، مدير مركز علوم اللغة والتواصل وأستاذ الألسنية المعلوماتية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية، أنّ لغة «الأرابيش» هي مزيج من لغتين هدفه الاختزال؛ استعمالها في كتابة الرسائل القصيرة في الهاتف المحمول يعود إلى صغر الشاشة ومحدودية الإشارات التي يسمح بها في الرسالة الواحدة. وفي أساس إنتاج كل من الهاتف المحمول والحاسوب، لم تحتوِ لوحة المفاتيح على أحرف اللغة العربية، فاعتاد الشباب التعبير بكتابة لغتهم العربية بالأحرف اللاتينية، واستمروا في ذلك على الرغم من توافر الأحرف العربية في لوحة المفاتيح في وقت لاحق. وبالتالي، فإن التكنولوجيا هي التي أدت إلى تداخل اللغات.
ويرى د. مراد أنّ المشكلة في العالم العربي تكمن في إنتاج المعرفة،  فكل تطور تقني يؤدي حتمًا إلى تغييرات في تمثيل المعرفة، مما يعني أنّ كل تطور في التقنيات والأدوات التي نتعامل معها في شكل عام، ينعكس تطورًا في أساليب التعبير عن هذه المعرفة. وقد لا تقضي هذه الأدوات المتوافرة (مثل الكتابة أو الإشارات) أغراضًا، لذا يتم ابتكار إشارات جديدة كي تعبّر عن هذه المعرفة.
حاليًا، ومع التطور التقني الحديث بات الأمر، وفق د. مراد، «في حاجة إلى إشارات حديثة تساعد على تمثيل هذه المعرفة التي يعبر جيل الشباب من خلالها، بحيث يعيد المزج ما بين الكتابة الصورية التي تترجم المفهوم مباشرة وبين الكتابة الرمزية أي الأحرف الأبجدية».
وأضاف: «لا أتخيّل للحظة أن اللغة العربية التي يتحدث بها نحو 300 مليون نسمة ستؤثر عليها لغة «الأرابيش» بأي بشكل أو تلغيها، والكتابة الصورية التي تستخدم حاليًا لا يمكن أن تلغي لغتنا لسبب بسيط جدًا هو أن ليس لديها قواعد بينما القواعد متوافرة في لغتنا المتداولة».
كما يعتبر مراد أنه في حال كان هناك تأثير ما على اللغة فالسبب يعود إلى أمرين: «جيل الشباب الذي يخلق هذه الكلمات أو المصطلحات، وجهات أخرى تكرّس هذه الكلمات من خلال القواميس. فإذا كانت الجهة الثانية التي تستخدم المصطلحات هي الطاغية، عندها يصبح التأثير واردًا أكثر على مستقبل اللغة، لأن طريقة نحت المصطلحات الحديثة يجب أن تتلاءم والقواعد اللغوية من ناحية الصرف والنحو والدلالة».
لم تعد لغة الإنترنت تقتصر على الرسائل القصيرة عبر الهاتف الخلوي أو «Chat» عبر الإنترنت، إنما دخلت في صلب حياة الشباب اليومية، يتداولونها في حواراتهم المحكية من دون تردد. والسبب في ذلك، برأي مراد،  أنّ جيل اليوم هو جيل الـ «zapping»؛ يريد كل شيء وفي هذه اللحظة. ولكثرة تعامله مع الأدوات التقنية، التي تعمل بأوامر (accept ,send ,cancel…)، بات يستخدم المصطلحات نفسها. كما أنّ للشباب، وفي كل المجتمعات، رموزهم (codes) الخاصة يحبون في مرحلةٍ ما أن يتميزوا بها في محيطهم الضيق».

 

اللغة ظاهرة مجتمعية
أمّا من وجهة نظر علم الاجتماع، فاللغة ظاهرة مجتمعية بالدرجة الأولى بغض النظر عن طبيعتها، وهي تنتفي بانتفاء المجتمع الذي وجدت لأجله، وبها يتبادل أفراده تجاربهم اليومية، لذلك يعتبر التفسير الاجتماعي لها مهمًا لتوضيح طبيعتها، باعتبارها سلوكًا اجتماعيًا، كما أنها الخاصية الأكثر تمييزًا للمجتمع من بين خصائصه المتعددة. لذلك، قد لا يعدو استخدام هذه المفردات بين الشباب كونه نزعة شبابية للتميز بلغة خاصة به. وقد  تكون له مدلولات اجتماعية أخرى أهمّها ضعف الهوية العربية بشكل عام، إضافةً إلى هروب الشباب من هويته الاجتماعية الشخصية التي تمثلها لهجته المحلية وبحثه عن هوية عامة أقل قيودًا ، وتمنحه هامشًا أكبر في الحرية.
وفي ما يتعلق بتطعيم الكتابة العربية بالرموز الرقمية لإخفاء عجز اللغة الإنكليزية عن مضاهاة اللغة العربية في حروفها المتعددة التي يستخدمها شباب اليوم سواء في «الشات» (chat) أو غيره، يجب الوعي جيدًا أن الحروف العربية أشمل في التعبير من غيرها، حيث لا يختلف في كتابتها اثنان على امتداد رقعة الوطن العربي مهما اتسعت، حتى وإن اختلفت لهجتهما، وهو الأمر الذي لم تستطع لغات أخرى تحقيقه، كاللغة الإنكليزية التي تختلف في كتابتها ونطقها بين بريطانيا وأميركا مثلاً، مما يجعلنا نستنتج أن نظام الكتابة باللغات غير العربية يشوبه نقص كبير.
والتفسير الاجتماعي لانتشار هذه الأنماط الكتابية التوفيقية يرتبط بزيادة عدد الشباب في المجتمع العربي الذي رافق طفرة الاتصالات وثورتها التقنية من جهة والعولمة وما ترتب عليها من جهة أخرى.
فقد أصبحت هذه الأنماط الكتابية إلى حدّ ما شيفرة تحل مشكلة الاغتراب في الحديث والمراسلة، وتحقق الخصوصية والتميز عن الآخر، وهما هاجس الشباب في مواجهة الجيل السابق.
أخيرًا، قد يتعرّض الشباب للإنتقادات لمجرّد انهم يتحدثون لغة تشبههم، ولكن، كما في كل عصر، لا مفر من ان تتأثر لغة هذه المرحلة بواقع ناسها الإجتماعي. وكما في كل عصر أيضًا، سيسلّم البعض بهذا التأثير، ويستمر آخرون في رفضه...