قضايا اقليمية

«الحرب الوقائية»
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

ماذا في إسرائيل إثر فشل

الحرب الاسرائيلية الاخيرة على لبنان ادت إلى سقوط مخططات اولمرت الاستراتيجية وبالتالي إلى تعميق الاستقطاب داخل المجتمع الاسرائيلي بين اتجاهين متعارضين الأوضاع المزرية التي تتخبط فيها اسرائيل حالياً

سياسياً وعسكرياً تشكل فرصة نادرة امام العرب تستوجب استغلالها لتحقيق اهدافهم في الامن والسلام.

 

يعتبر الباحث الإسرائيلي المعروف ميرون بنفنستي ان إسرائيل هي الآن على شفير مواجهة «إنقلاب» تاريخي في اعقاب فشل «الحرب الوقائية» المزدوجة التي شنت وما تزال تشن على المنطقة من قبل كل من الادارة الاميركية بزعامة الرئيس بوش الابن ومجموعة المحافظين الجدد، والحكومة الاسرائيلية اليمينية المتطرفة بزعامة ايهود اولمرت، والمطعّمة بشخصيات فاقعة العنصرية مثل افيغدور ليبرمان الذي يدعو إلى ترحيل الفلسطينيين كلياً من فلسطن. والسبب في ذلك بحسب رأيه يعود إلى: «الإستراتيجية الخاطئة، وقلة الاحتراف السياسي، والتلقائية الساذجة المندفعة، والضعف الذي يتستّر بقناع العزم والشجاعة، والاوهام والعجرفة والغطرسة والإدمان على الاندفاع وراء غريزة الانتقام وممارسة القسوة وغياب الكوابح الاخلاقية».

ويضيف ان هذه المجموعة القائدة، هي الآن، ومنذ وقف «الاعمال العدائية»، في مرحلة البحث عن «إنتصار» او إنتصارات متفرقة من شأنها أن تبرر الخسائر الضخمة في الارواح والمعدات. والخلاصة المستنتجة من وراء هذه المرحلة، هي ان البحث سوف يطول وبالتالي سوف تطول معه ايضاً حالة الضياع والتسيّب والمعاناة لدى جميع الاطراف المعنية او الضالعة في الموضوع، وخصوصاً في المناطق الاكثر سخونة والتهاباً في المنطقة ومن ضمنها لبنان.

لقد بينت الحرب الصهيونية الاخيرة على لبنان ان اسرائيل لا تريد استخلاص العبر والدروس من تجاربها الفاشلة، ولا تريد ان تقتنع بأن ثمة حدوداً لغطرستها وجبروتها واصرارها المَرضي على المبالغة في استخدام القوة و«البلطجة» من اجل ما يسميه قادتها «كي الوعي» اي وأد الممانعة والمقاومة الشعبية لاحتلالها وتوسعها، بغض النظر عن التداعيات السلبية والعكسية التي يمكن ان تنتج عن ذلك في المنطقة وعليها ايضاً في المستقبل.

لقد اثبتت التجربة التاريخية منذ تأسيس هذا الكيان الغاصب، ان اسرائيل تملك قوة نارية هائلة وصولاً إلى القوة النووية، ولكن مع ذلك فإن هذه القوة لم تمنحها الامان ولا الاستقرار، لأن التجارب اثبتت ايضاً استحالة مصادرة ارادة الشعوب وسلبها حرياتها إلى الابد. والعنف الصهيوني الاعمى والمدمّر، هو الذي ادى إلى نشوء نزعة المقاومة و«التطرف» في المنطقة، بل والعالم، بحيث تحولت اسرائيل خلال السنوات الاخيرة من ملاذ آمن مفترض لليهود إلى البلد الذي يقتل فيه اليهود ويعانون اكثر من اي مكان آخر في الدنيا، وهذا كله بسبب الظلم والعدوان والتهرب من المبادرات السياسية كما حصل بالنسبة إلى اتفاق اوسلو وتفاهم نيسان والمبادرة العربية الشاملة في لبنان العام 2002، والتهرب من خطة الطريق وصولاً إلى شن الحرب العبثية الاخيرة ضد لبنان ومقاومته، وكل ذلك لا يؤدي الا إلى تكريس الكراهية وتنمية الاحقاد وترسيخ مبادئ العنف والاكراه والتسلّط في العلاقات الدولية، بدلاً من ترسيخ قيم التعاون والمساواة والتنمية بين الشعوب.

لقد أكّد الفشل الاسرائيلي الاخير في لبنان ان اسرائيل كانت وما تزال تعيش «عقدة الوجود» أو هاجس البقاء في هذه المنطقة الحساسة من العالم، وربما كانت هذه الحقيقة هي التي تفسّر، ولا تبرر، الاستخدام المفرط للقوة العسكرية الطاغية وارادة التدمير العمياء لديها، حتى في مواجهة مقاومة شعبية محدودة الامكانات المادية والبشرية. وعلى صعيد النتائج والاولويات السياسية، فإن الحرب الاخيرة ادت الى سقوط مخططات اولمرت الاستراتيجية، وتراجع شعبيته وتعزيز مواقف خصومه ومعارضيه، وبالتالي إلى تعميق الاستقطاب داخل المجتمع الاسرائيلي بين اتجاهين متعارضين:

- اولهما يعارض عملية التسوية بكل اشكالها وصورها ويدعو بالتالي الى استراتيجية ادارة الازمة مع التوجّه نحو تعزيز قوة اسرائيل العسكرية والردعية، حتى تتمكن من فرض التسوية التي تريدها على الآخرين عاجلاً أو آجلاً.

- ثانيهما يطالب بتفعيل عملية التسوية الحقيقية والتخلص من نهج التسويات الجزئية والاحادية الجانب، والذهاب إلى افق مفتوح من الاستقرار الامني والاقتصادي.

وفي كل الاحوال فإن «الحرب الاستباقية» التي خاضتها اسرائيل بايحاء ودعم اميركيين كاملين، لم تنته في واقع الحال بصورة تامة ونهائية، ولا سيما ان قرار مجلس الامن رقم 1701 إنما دعا لوقف «الاعمال العدائية» فقط، وبالتالي ما حصل مؤخراً لم يكن سوى مجرد جولة من جولات الصراع التاريخي المستمر بين المشروع الصهيوني التوسعي والاجلائي والمشروع الوقائي المعارض؛ وهذا المشروع الوقائي، يستحيل عليه النجاح والثبات في فلسطين ولبنان أو أي مكان آخر يتعرض للاحتلال في العالم العربي، من دون ايجاد المعادلات السياسية الوطنية الداخلية القائمة على الوحدة الوطنية والتفاهم على القواسم المشتركة الكبرى، والا فإن العكس، سوف يستدعي المزيد من التجاذبات والاستقطابات والضغوطات والتدخلات الخارجية في السياسة الوطنية الداخلية، ما يؤدي حتماً إلى الخسارة السياسية حتى لو حصل هناك ثبات وبطولات ملحمية في المواجهات العسكرية الميدانية.

لقد ثبت ان نظرية اسرائيل الامنية قد انهارت، ووضح تماماً انه يمكن الحاق الاذى البالغ بجيشها ومجتمعها على حد سواء، وثبت ان جيشها يعاني الكثير الكثير من نقاط الضعف وفقدان الاحترافية التي كانت متوهمة لديه، وثبت انه بات من المستحيل عليها ان تضرب بوحشية او ان تفرض امراً واقعاً بلا نهاية من دون ان تدفع ثمن ذلك غالياً. فإسرائيل وحلفاؤها، بل وكل العالم، قد ادركوا ان لقوتها وجبروتها حدوداً او انه يمكن المساس باعصابها الحساسة باسلحة واساليب قتالية غير معقدة، بشرط توافر ارادة القتال وصلابة اليقين بعدالة الحرب الوقائية المضادة، التي هي حرب الدفاع عن الارض والعرض والحقوق المقدسة.

 لا شك بأن التحولات السياسية والعسكرية الجارية في اسرائيل على اعلى المستويات، في اعقاب مذلة الحرب الخاسرة الاخيرة ضد لبنان، سيكون لها انعكاس كبير على السياسة الدولية وخصوصاً الاميركية، تجاه الشرق الاوسط عموماً وتجاه لبنان خصوصاً، لا سيما في مجالي الحرب والسلم.

وسوف تبين التطورات الجارية والمقبلة، مدى قدرة الادارتين الاميركية والاسرائيلية على القراءة الصحيحة والسليمة للاحداث والوقائع خصوصاً على ضوء الاخفاقات المتتالية في كل من العراق وفلسطين ولبنان، وصولاً إلى ما تنشده شعوب المنطقة من ايجاد واقع من السلام الشامل والعادل، الذي من دونه لا امن ولا استقرار للجميع.

ان الاوضاع المزرية التي تتخبط فيها اسرائيل حالياً سياسياً وعسكرياً إنما تشكل فرصة نادرة امام العرب تستوجب استغلالها لتحقيق اهدافهم في الامن والسلام.

فهذه هي المرة الاولى في تاريخ الحروب الاسرائيلية في المنطقة، التي يعجز فيها جيشها عن اجتياح الاراضي برياً، بسبب استبسال المقاومة الوطنية، ما شكل مفاجأة حقيقية للجميع. وهذه هي المرة الاولى ايضاً التي تفقد فيها اسرائيل زمام المبادرة في القتال وزمام السيطرة على طبيعة النيران ومصادرها، الامر الذي ارغمها وبصورة مفضوحة على خوض حرب دفاعية من داخل اراضيها، في اجواء من تدهور المعنويات وتكبد الخسائر الفادحة في الارواح والماديات، الامر الذي اوصل النقاش الاسرائيلي إلى حد المطالبة بمراجعة النظام السياسي وتغيير الخريطة الحربية وتجديد العقيدة القتالية.