قضايا إقليمية

«المعركة بين الحروب»: تكتيك العجز الإسرائيلي
إعداد: د. إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

في خضم حالة الانكسار التي ألمّت بإسرائيل جيشًا ومجتمعًا عقب حرب تموز 2006، تمحورت مهمة رئيس الأركان الجديد، في حينه، غابي أشكنازي (12/11/2007) حول: إعادة ترميم الجيش ماديًا ومعنويًا أولًا، واستعادة ثقة الجمهور به ثانيًا. وقد وجدت إسرائيل نفسها بالتالي في حالة تكيّف اضطرتها إلى إجراء مراجعة مستمرة ودراسة دائمة لخياراتها العدوانية الحرجة، ومواصلة بذل مساعيها للقفز فوق القيود الجديدة التي أقرّت بها وأدت إلى تعميق فشل رهاناتها وخياراتها الميدانية.


من هذا المنطلق، استعار أشكنازي مقولة المنظّر العسكري الألماني الشهير كارل فون كلاوزفيتش، ليوصّف أحد أبرز العبر التي ينبغي استخلاصها من الحرب المذكورة، ومفادها أنّه «على الجيش أن يكون دائمًا في أحد وضعين: إما في حالة حرب وإما في حالة الاستعداد لها».
بيد أنّ أشكنازي، ومن ورائه قادة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، أدركوا سريعًا أنّ الثنائية التي تنطوي عليها هذه المقولة بشأن وضعية الجيش (إما الحرب أو الاستعداد لها)، غير كافية لتأمين الرد المناسب على نوع محدد من التهديدات المحدقة بإسرائيل، وهو تعاظم قوة أعدائها خلال فترة «ما بين الحروب». وما زاد هذا الإدراك حرجًا هو وقائع الحرب التي كانت إسرائيل قد خرجت منها للتو، وخبرت فيها ما لم تكن تتوقعه من مفاجآت في لبنان في العام 2006، وكذلك الحروب التي وقعت لاحقًا في قطاع غزة.

 

وظائف «المعركة بين الحروب»
وبالتالي، كان لا بد من اجتراح استراتيجية جديدة هدفها مواجهة الاستحقاق المتمثل بتعاظم قدرة الأعداء، خصوصًا على الصعيد النوعي. فكان اعتمادها تطبيق تكتيك «المعركة ما بين الحروب»، على الجبهات كافة، بهدف إحراز ما أسمته «المنع والردع، والتأجيل والاستعداد»، بخصوص الحرب المقبلة. والتكتيك المذكور في الواقع ليس أكثر من إطار مفهومي يُراد من خلاله إعطاء «قيمة استراتيجية مضافة» للأنشطة العسكرية والأمنية المتفرقة التي ينفّذها العدو. وفي هذا السياق برزت مقاربة في الجيش الإسرائيلي تجعل «المعركة بين الحروب» ذات ثلاث وظائف هي: وظيفة «المنع» لتعاظم قدرات العدو؛ ووظيفة «التشويش» على أنشطة العدو بما يربك خططه لشن عمليات ضد إسرائيل؛ ووظيفة «الردع» التي من شأنها أن تعزز حضور السطوة والتهديد الإسرائيليين في وعي الأعداء. وقد اعتُبر عنصر الضبط الأهم في النشاط العملاني لـ«المعركة بين الحروب» على أن يكون محكومًا، قدر الإمكان، بمنطق «البصمة الخافتة» في الأداء والممارسة، فلا يقود إلى تفجير الأوضاع والذهاب بها إلى حرب كبيرة.
في هذا السياق، كتب اللواء رونين إيتسيك (القائد السابق لسلاح المشاة) في صحيفة «إسرائيل اليوم»: إنّ الجيش الإسرائيلي بات يفضّل سياسة «المعركة بين الحروب» على خيار الحرب المفتوحة والمواجهة العسكرية المباشرة. وأضاف إيتسيك، «هناك توجهات في الجيش لتقليص القدرات التسلحية لدى المنظمات المعادية، لأنّه منذ حرب لبنان الثانية 2006 تكونت لدى المؤسسة الأمنية والعسكرية في تل أبيب قناعة ومفاهيم جديدة، مفادها أنّ إضعاف المنظمات المعادية «غير الدولية» المحيطة بإسرائيل منوط بمنعها من إعادة تسليح نفسها، وتقوية قدراتها العسكرية من خلال النظرية المسماة «المعركة بين الحروب». وأوضح «أنّ مواجهة القوى غير النظامية التي تخوض حرب عصابات تختلف كليًا عن الحروب مع الجيوش النظامية. ولذلك، فإنّ الفكرة المتبلورة حاليًا في أروقة الجيش، هي المسّ بصورة حرجة ومؤذية جدًا بالقدرات العملياتية لهذه المنظمات، ما يتطلب إمكانات استخبارية متواصلة، وقدرات عملياتية فاعلة، تقوم في الأساس على سلاح الجو». وأشار إلى «أنّ إسرائيل تعمل من خلال «المعركة بين الحروب» على تحقيق عدة أهداف في آن واحد: أولها ضرب القدرات التسلحية والوسائل القتالية، واستهداف القواعد العسكرية والبنى التحتية، والمسّ بالمليشيات المسلحة والمنظمات التي تهدد الحدود الإسرائيلية». وختم إيتسيك بالقول: «إنّ الهدف الثاني من هذه السياسة هو إبعاد شبح الحرب المقبلة أطول فترة ممكنة، وعدم وقوعها بينما الجيش يستعد، ويتسلح، ويتدرب، ويبني عقيدة قتالية وقدرات عسكرية».

 

رهان على الذراع الجوية
لقد لاقى تكتيك «المعركة بين الحروب» تأييدًا من قيادة الجيش العليا، وخصوصًا رئيس الأركان الحالي غادي إيزنكوت والسابق بيني غانتس الذي ألقى على عاتق قائد سلاح الجو أمير إيشيل، مهمة قيادة التكتيك بسبب التميز المتنوع للذراع الجوية القادرة على التحرك بمرونةٍ من ساحة قتال إلى أخرى. والتكتيك في الأداء العملي، هو عبارة عن سلسلة متصلة من العمليات الهجومية المنخفضة الوتيرة التي ترمي إلى تعزيز الأمن الجاري، والإبقاء على ارتفاع الجهوزية الاستخبارية والتفوّق العملاني، مع الحرص على تكبّد أقل قدر من الخسائر المدنية والعسكرية، في حال وقوعها في أثناء فترة الهدوء ما بين الحروب الكبرى. كما أنّه مسار متحرك يتمّ فيه تطوير واستخدام وسائل من مجالات مختلفة (قانون دولي، إعلام، ديبلوماسية، اقتصاد، فضلًا عن القوة العسكرية)، بغية إرباك تعاظم قوة العدو والحفاظ على عامل الردع ضده، ولو على قاعدة مراكمة النقاط، وليس الضربة القاضية، وأيضًا تعزيز «شرعية» إسرائيل وأعمالها العدوانية تمهيدًا لاحتمال نشوب حرب في المستقبل.
لقد كان لهذا التكتيك، بحسب الحسابات الإسرائيلية، أيضًا هدف أخر، وهو إبعاد شبح الحرب الكبرى قدر الإمكان، لحين اكتمال استعدادات الجيش والجبهة الداخلية لمواجهته. وبالتالي، فإنّ تكتيك «المعركة بين الحروب» تضمن شقَّين: التعرف إلى نقاط القوة والضعف لدى الخصم، واستنزاف أكبر قدر ممكن من قواه قبل الحرب، وتطبيق ما يُعرف بـ «سياسات الخطوط الحمر» التي تقوم على مبدأ عدم السماح بتهريب الوسائل القتالية النوعية له.

 

مخاطر القيود ومخاطر المغامرة
لكن تبيّن أنّ ثمة أكثر من سلبية لهذا التكتيك، منها أنّ «المعركة ما بين الحروب» قد ترفع نسبة احتمال اندلاع الحرب الكبرى، مع عدم إمكان التأكد الحتمي والمسبق من نتائجها الإيجابية لمصلحة إسرائيل في حال نشوبها في المستقبل، وهو أمر لا غنى عنه على الإطلاق لما يخلّفه من تداعيات ميدانية ومعنوية سلبية لا تُحمد عقباها. والمفارقة القائمة في هذه الحرب الوقائية المتواصلة التي يشنّها العدو، تكمن في أنّها تشكّل تعويضًا عن الردع الإسرائيلي المتراجع منذ ما بعد عدوان تموز 2006، والشاهد هو أنّ هذا العدو قد أقرّ بأنّ المقاومة باتت تمتلك أنواعًا مختلفة من الأسلحة الاستراتيجية الكاسرة للتوازن، التي يُفترض بـتكتيك «المعركة بين الحروب» أن يحبط امتلاكها في الأصل. واللافت أنّ إسرائيل لم توسّع نطاق معركتها التكتيكية هذه لتطال الأراضي اللبنانية، رغم تفاخرها بتجميعها بنكًا واسعًا من الأهداف، نشرت منه في نهاية العام الماضي، بحسب زعمها، عشرة آلاف هدف، والسبب هو أنّها لم تُرد أن تتدحرج المعركة الجزئية إلى حرب شاملة. والحقيقة التي يقرّ بها صنّاع القرار في تل أبيب، أنّ الكيان الإسرائيلي يواجه الآن أهم تحدّ استراتيجي. وقد حضر هذا التقييم الإجمالي لمحدودية نتائج هذه الاستراتيجية، في ما أشار إليه الباحث إيال زيسر بالقول «إنّ هذه المعركة (يقصد المعركة بين الحروب) على ما يبدو قد استنفدت نفسها». مع ما ينطوي كلامه على التأسيس لضرورة دراسة خيارات أخرى.
بناءً عليه، تسعى إسرائيل إلى محاولة فرملة هذا المسار التصاعدي من التحدي، الأمر الذي يضعها بين مخاطر القيود التي تتعاظم على معصميها، ومخاطر المغامرة العسكرية التي ليس من الصعب تخيّل نتائجها، لأنّه في ضوء مفاعيلها ستتحدد معادلات الصراع الإقليمي، ويرتسم مستقبل المنطقة برمّتها لسنواتٍ طويلة مقبلة.