في الصفوف الأمامية

«المغاوير البيض» ربحوا المعركة القاسية
إعداد: باسكال معوّض بومارون

لكل معركة جنودها، معركة كورونا تطلبت تجنيد المجتمع بكل شرائحه، لكنّ الأطباء والممرضين وسواهم من العاملين في القطاع الطبي كانوا طليعة المعركة ومغاوير الجبهة، وقد أبلوا البلاء الحسن.
تُرفع القبعة لجهودهم الجبارة التي ستسجّل علامة فارقة في تاريخ لبنان، وذلك لسببَين على الأقل: الأول الشجاعة التي ميّزت أداءهم، والثاني الكفاءة في التعامل مع المرض، والدقة في اتباع المعايير العلمية العالمية. سوف يسجَّل لهذا البلد الصغير الذي ينوء بأحماله ومشكلاته، أنّه واجه الوباء من دون خوف أو تردد، وأيضًا من دون أن يخسر أيًا من العاملين في القطاع الطبي بسبب العدوى، بينما حصل الأمر وبكل أسف في أكثر البلدان تقدّمًا...

 

مع تفشّي فيروس كورونا في لبنان توجّهت الأنظار إلى مستشفى رفيق الحريري الحكومي الذي شكّل رأس حربة في مواجهة الوباء. في البداية كانت المخاوف كبيرة، كيف لهذا المستشفى الحكومي الذي يحتجّ العاملون فيه على عدم قبض رواتبهم أن يتولّى مسؤولية بهذا الحجم؟ كيف لهذا المستشفى الذي كانت تعلو من داخله الأصوات بسبب النقص الفادح في الأدوية والمستلزمات، أن يواجه وباء أرعب العالم؟ كانت المخاوف فعلًا كبيرة، غير أنّ الصورة تبدّلت وبسرعةٍ مذهلة. وبالطبع لم يكن ذلك بسحر ساحر، وإنّما بالتخطيط الصحيح وبالجهود الجبارة في المجالات كافة، من تزويد المستشفى المستلزمات، إلى تدريب الطواقم وتحديد إجراءات العناية بالمرضى والوقاية من انتقال العدوى.
 

تدابير وبروتوكولات
يقول الدكتور بيار أبي حنا في هذا السياق: خصّص المستشفى، وقبل وصول أول إصابة بالفيروس قسمًا منه لحالات الكورونا، وتم عزله عبر مدخل منفصل كليًا عن باقي أقسام المستشفى، وتجهيزه لاستقبال المصابين. وبذلك كان الاهتمام بمرضى الـكورونا يتم في مكان واحد وتحت إشراف طواقم طبية خاصة تدرّبت على الاهتمام بمرضى هذا الوباء، مع المحافظة على سلامتهم الخاصة التي تضمن ديمومة العمل الصحي والطبي. فقد ساهم وجود هذا القسم في منع انتقال العدوى.
لكن ماذا عن الطواقم الطبية في وقت كانت لفظة كورونا كافية لإثارة الهلع؟ يوضح الدكتور أبي حنا أنّ إنشاء خلية أزمة وتدريب الفريق الطبي والتمريضي، كما فرق الصيانة وكل العاملين مع المرضى المصابين وفي غرفهم على بروتوكولات التعقيم والتطهير بمعايير صحية عالية، منح الثقة للجميع فانصرفوا إلى أداء مهماتهم بكفاءةٍ وشجاعة ومن دون خوف.
يثني الدكتور أبي حنا على جهود الطاقم الطبي والتمريضي في المستشفى، مشيرًا إلى أنّهم تحمّلوا بمسؤوليةٍ وشجاعة معاناة الابتعاد عن عائلاتهم للقيام بواجبهم الإنساني، وقد قاموا به على أكمل وجه رغم الأجواء الضاغطة.
وتوضح السيدة غادة شعيب رئيسة دائرة مكافحة العدوى أنّ منع انشار الفيروس في المستشفى وانتقاله إلى الطاقم الطبي أو المرضى الآخرين، تطلّب وضع بروتوكولات لكل الأقسام والدوائر في المستشفى لجهة التزام الموظفين معايير التعقيم والتطهير في مركز عملهم وفي غرف المرضى، بالإضافة إلى ارتداء ملابس الحماية الخاصة.
ومنذ بداية الجائحة في لبنان اتُخذت الإجراءات الاحترازية في المستشفى، من قياس حرارة الموظفين إلى حَجر مَن يشعر بأي عارض من عوارض كورونا، حتى ظهور نتيجة الـPCR، فضلًا عن التشديد على إجراءات السلامة الشخصية للموظفين بعد تدريبهم على كل بروتوكولات التعقيم والتطهير بشكلٍ يومي.
في المقابل، تشير رئيسة دائرة التغذية في المستشفى دانا حرب إلى أنّ كل مريض بالكورونا يتم تقييمه من قبل الدائرة، ويُحدد النظام الغذائي الملائم لحالته الطبية والغذائية، فتقدّم له وجبات صحية متنوعة تحتوي كل العناصر الغذائية الضرورية (السعرات الحرارية الكافية والفيتامينات والبروتينات والمعادن والكربوهيدرات)، لأنّها عناصر أساسية تلبّي حاجاته وتعزز مناعته، وإذا اقتضى الأمر يُعطى مكمّلات غذائية. أما في ما يخص إجراءات الوقاية المتعلّقة بالغذاء فهي دقيقة وصارمة، وتشمل كل مراحل إعداد الطعام وصولًا إلى تقديمه في مستوعبات تُستخدم لمرةٍ واحدة، فلا يعود إلى المطبخ أي شيء من الغرف.
 

تعلّمنا من كيسنا
في بداية الأزمة، كان مستشفى سيدة المعونات الجامعي في طليعة المستشفيات التي استقبلت مرضى كورونا، لكن عدم التشخيص المبكر لحالة أحد المرضى أدّى إلى نكسة، تمثّلت بوفاة المريض وانتقال العدوى إلى الجسم الطبي في المستشفى. مع ذلك واجه المعنيون الأمر بشجاعةٍ وواصلوا القيام بواجبهم في خدمة مرضى الكورونا، وإنّما بعد اتّخاذ كل الإجراءات اللازمة.
يشرح الدكتور زياد خوري أنّه تم فصل مبنى خاص للكورونا في المستشفى معزول عنها، يضم ٣٠ سريرًا للمرضى مع مركز للعناية الفائقة و٨ أجهزة للتنفس الاصطناعي، ومكيّفات بقوة الضغط السلبي Negatif Pressure ومختبر للـPCR مع عيادة خاصة به وطاقم طبي وتمريضي كامل وإجراءات وقاية صارمة.
كذلك تم استحداث مركز طوارئ خاص بمرضى الكورونا تُتّبع فيه أيضًا كل الإجراءات والبروتوكولات الخاصة من المحيط المعقم إلى ملابس الحماية لمختلف الطواقم الطبية والموظفين.
واعتُمد نظام خاص يقضي بدخول المريض إلى الطوارئ إذا كانت عوارضه واضحة، وإذا كان هناك شك بإصابته يدخل إلى العيادة أولًا، أما إذا تم تأكيد إصابته فيدخل غرفة العلاج مباشرة.
أمام المستشفى استُحدثت خدمة الـDrive Thru حيث يتم إجراء فحوصات الـPCR بسهولةٍ، إذ تمر سيارة المشتبه بإصابته من أمام العازل، وتؤخذ العينة منه من دون اتصال مباشر مع طاقم الفحص. إنشاء هذه الدائرة المغلقة أمّن منع انتشار العدوى في المستشفى.
بعدما تعرّض له الطاقم الطبي والتمريضي كيف سارت الأمور، هل أدّى الخوف إلى إحجام البعض عن العمل في قسم الكورونا؟ تؤكّد السيدة منى دكّاش مديرة العناية التمريضية في المستشفى أنّ لا نقص في أعداد الممرضات وتقول: بعد أن تركنا للطاقم التمريضي حرية الالتحاق بقسم الكورونا أو عدمه، فوجئنا بعدد «الشجاعات» اللواتي تقدّمن للعمل في هذا القسم. وحرصنا على حمايتهن من خلال التطبيق المشدد لأعلى معايير السلامة والوقاية الطبية.
وأشارت دكّاش إلى أنّ دوام عمل الممرضات يستمر ١٢ ساعة متواصلة من السابعة صباحًا وحتى السابعة مساء أو العكس، يتخلّلها نصف ساعة استراحة جسدية ونفسية كل ٤ ساعات، وذلك بعد خلع الملابس الواقية وارتداء أخرى جديدة عند العودة إلى القسم مجددًا. وتحرص المستشفى على اختيار الطعام المناسب للمصابين والطاقم الطبي على حد سواء من خلال تأمين الفيتامينات والمعادن اللازمة لتقوية جهاز المناعة. كما تهتم بصحتهن النفسية من خلال تأمين طبيب نفسي لمن يحتاج إلى مساعدة في هذه الظروف النفسية الضاغطة.
في البداية تعرّضنا لنكسةٍ في المستشفى إلا أن هذه النكسة أكسبتنا خبرة وتصميمًا، فقد تعلّمنا «من كيسنا» كما يقول المثل.
 

«مغاوير النقل الآمن»
بما أنّ الصليب الأحمر اللبناني هو الجهة الوحيدة المجهّزة في لبنان لنقل حالات الكورونا، فقد تصدّى متطوّعوه للمهمة المحفوفة بالخطر بكل شجاعةٍ ومسؤولية. وبحسب أمينه العام السيد جورج الكتاني، كان الصليب الأحمر قد أعدّ خطة استباقية تقوم على نقل الحالات المشتبه بإصابتها بوباءٍ مهما كان، وذلك منذ ٢٠١٤، ووضع خططًا وسياسات للاستجابة وبروتوكولات للجودة ليكون على جهوزية تامة عند الحاجة إليه.
وبفضل امتلاكه خططًا احترازية استباقية، واكب جائحة الكورونا منذ الإصابة الأولى التي نُقلت عبر الحدود السورية – اللبنانية في ٥ شباط، وهو يستمر في أداء مهمته ملتزمًا السياسات والبروتوكولات المعتمدة عالميًا. كما أنّه يشارك في اللجنة الوطنية لمتابعة التدابير والإجراءات الوقائية للفيروس برئاسة رئيس الحكومة حسّان دياب.
تشكّلت على الفور في الصليب الأحمر اللبناني لجنة طبية علمية متخصصة لمتابعة حالات الكورونا والتوعية منها، وخضع متطوّعون لدورات تدريب وتوعية لمكافحة هذا الفيروس.
وفي إطار الحملة التي تقوم بها وزارة الصحة العامة لتحديد مدى الانتشار المجتمعي لفيروس كورونا، ينقل الصليب الأحمر عينات فحوصات الـPCR إلى مستشفى رفيق الحريري الحكومي وسائر المستشفيات المعتمدة داخل آليات خاصة معقّمة ومبردة وآمنة لركابها. وذلك بعد أن خضع مئات المتطوعين لتدريبات مكثفة للتعامل مع الحالات المشتبه فيها، وقد خصّصت سيارات إسعاف لهذا النوع من المهمات ضمن شروط حماية دقيقة. تتطلّب هذه المهمات تكاليف مادية كبيرة خصوصًا وأنّ هذه هي المرة الأولى التي يتعامل فيها الصليب الأحمر اللبناني مع وباء من هذا النوع، مع التحضيرات المسبقة والخطط المسبقة التي قمنا بإعدادها، لكن بفضل دعم اللبنانيين المقيمين والمغتربين أمكن توفير اللازم.
كذلك يساعد الصليب الأحمر بالتنسيق مع المحافظين ولجنة كورونا في توزيع حصص غذائية ومواد تنظيف على الأشخاص المعزولين، كما يتابع مع أطباء الأقضية الحالات المعزولة في المنازل لمساعدتها عند الحاجة، بالتنسيق مع القائمقامين والمحافظين والبلديات والأجهزة الأمنية.
 

بالتفاصيل...
كيف ينقل متطوعو الصليب الأحمر اللبناني المصابين إلى المستشفيات وكيف يحتاطون من انتقال العدوى إليهم خصوصًا أنّهم ينقلون مصابين من أماكن بعيدة؟ المسعف أحمد السبع أعين يخبرنا: «يتصل الشخص بالغرفة المركزية لعمليات الصليب الأحمر (١٤٠) التي تستجوب المتصل مستوضحة وضعه الصحي والعوارض التي يشعر بها. وعلى ضوء المعلومات المتوافرة، يتم تقييم الحالة، وفي حال الاشتباه بالإصابة، يتم إبلاغ اللجنة الطبية المكلفة من قِبل وزارة الصحة العامة، وفي حال تأكيد الاشتباه يتم إرسال «فريق تنفيذ الكورونا» من المركز الأقرب إلى المصاب. بعد إعطائهم بيانات الإصابة بدقةٍ، يبدأ شخصان أو ثلاثة على الأكثر بارتداء بدلة الحماية القصوى PPE تحت إشراف غرفة العمليات التي تراقب بواسطة تقنية الـVideo Call للتأكّد من تنفيذ البروتوكولات المطلوبة خطوة فخطوة، بدعمٍ من لجنة طبية وعلمية في الصليب الأحمر. ثم يتم الانتقال بواسطة سيارة إسعاف تم تعقيمها وعزل المقصورة الأمامية عن الخلفية لمنع انتشار العدوى. وعند الوصول إلى المريض يرتدي (لوحده أو بمساعدتنا) بدلة الحماية، ويُنقل إلى المستشفى المقصود. وبعدها تُطبّق بروتوكولات تعقيم سيارة الإسعاف بشكلٍ كامل وخلع بدلة الحماية القصوى.
كيف يحمون عائلاتهم من احتمال العدوى، يوضح المسعف أنّه يحتاط بشكلٍ كامل من التقاط الفيروس، ومع ذلك استأجر مع أربعة من رفاقه المتطوعين منزلًا للبقاء بعيدًا عن عائلاتهم، ما يفعله معظم المتطوّعين.
 

في البداية خفنا!
بدورها تقول المسعفة سمر أبو جوده: «بداية شعرنا بالرهبة والخوف قليلًا، فالوضع كان جديدًا علينا والأجواء العامة كانت تثير القلق. إلا أنّنا وبعد استيعاب الموضوع وتلقّي التدريبات المحترفة، أصبحت عمليات الإسعاف روتينية بالنسبة إلينا، لكن ذلك لا يعني أي تهاون أو إهمال في إجراءات الحماية.
المسعفة سمر تشير إلى عدة تحديات تتعامل معها كل يوم تقريبًا: الضغط النفسي الذي يمكن أن يتسبب بالعدوى للمسعف عند أقل إهمال أو استهتار، معدات الحماية الشخصية الثقيلة التي تمنع الهواء من التسرّب إلى الجسم، التباعد الاجتماعي الذي يمنع من التصرف بشكلٍ طبيعي مع الأهل في المنزل.
وتضيف: مع ذلك نتقيّد بالخطوات اللازمة بدقةٍ، فكل متطوّع في الصليب الأحمر يشعر بمدى سمو رسالته، خصوصًا في هذا الوقت الذي تهدد فيه جرثومة صغيرة عالمًا بأكمله، لقد تحدّيناها بدورنا من خلال عملنا الإنساني والوطني.
أطباء، ممرضون، متطوّعون في الصليب الأحمر اللبناني، إداريون، عاملون في التغذية أو الصيانة والتنظيفات، كلّهم يؤدّون واجبهم بمسؤولية واندفاع وكفاءة، وبكثير من المحبة والعطاء، وبفضل جهودهم رفع لبنان راية الانتصار في المعركة القاسية.

 

وجّه قائد الجيش العماد جوزاف عون تحية للممرضين والممرضات في اليوم العالمي للتمريض.
وقال العماد عون: «تحية تقدير وإجلال لشركائنا في التضحية والعطاء، ملائكة الرحمة، الذين يعملون بصمتٍ وتفانٍ من أجل خدمة المرضى، وبخاصة من هم على تماس مباشر حاليًا مع مرضى كورونا.
كل الاحترام والتقدير لهم في عيدهم».